نظام دولي جديد يتشكل من البوابة الاوكرانية لا توقفه سياسة العقوبات الاقتصادية / تيسير خالد‎ ‎

سبت, 03/12/2022 - 08:51

كثير من المتابعين لأحداث الحرب الجارية في اوكرانيا يعتقدون أن عالم ما بعد هذه الحرب لن يكون كعالم ما قبل بدئها. ‏ولعلهم محقون في ذلك ، فما يدور على الاراضي الاوكرانية ليس حربا بين دولتين بل هو حرب عالمية بأدوات اختلفت عن ‏أدوات الحربين العالميتين الاولى 1914 والثانية 1941 .
وللحرب العالمية أيا كانت أدواتها تداعيات تفرض نفسها بفعل قوة ‏قوانين الصراع بين الدول المشاركة ونتائجها . فبعد الحرب العالمية الاولى تشكل عالم جديد كانت ابرز سماته تقاسم ‏المستعمرات بين الدول التي خرجت منتصرة من تلك الحرب ، وفي الحرب العالمية الثانية غابت الشمس عن دول ‏الاستعمار القديم لتحل محله قطبية ثنائية شكلت الولايات المتحدة الاميركية وحلفاؤها من الدول الرأسمالية قطبها الرأسمالي، فيما شكل الاتحاد السوفياتي وحلفاءه من دول المعسكر الاشتراكي قطبها المضاد‎ . ‎
سنوات طويلة مرت على القطبية الثنائية التي تحكمت في مصير العالم بعد الحرب العالمية الثانية في اجواء من الحرب ‏الباردة لم تخل من حروب ساخنة ومدمرة كانت معاركها تدور في شبه القارة الكورية وفي الفيتنام والشرق الاوسط وفي ‏المستعمرات ، وكانت النتيجة كوارث خلفت ملايين الضحايا ولكن في الوقت نفسه خروج عشرات البلدان من نير الاستعمار ‏الى رحاب الاستقلال في اسيا وافريقيا وفي اميركا اللاتينية‎ . ‎
ومع انهيار نظام القطبية الثنائية مطلع تسعينيات القرن الماضي وسقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكر الدول الاشتراكية ‏ونظام حلف وارسو واستقلال دوله وانضوائها تحت لواء الرأسمالية،تشكل نظام دولي جديد انفردت فيه الولايات المتحدة ‏الاميركية بالسيطرة والهيمنة شبه المطلقة على العالم في نظام احادي القطب لم يحسن دائما قراءة آفاق التطورات التي ‏جاءت محمولة على موجات متلاحقة ومتسارعة من الثورات العلمية والتكنولوجية، التي غيرت وجه العالم وأفضت في ‏سياق قدرة الرأسمالية على تجديد نفسها الى ظهور قوى جديدة تضغط بحكم وزنها وحصتها ودورها في النظام الرأسمالي ‏العالمي الى بناء نظام عالم جديد يقوم على تعددية الاقطاب باعتبار ذلك هو الاساس الذي لا بد منه للوفاء بالالتزامات ‏الدولية على حد تعبير وزير خارجية الصين وانغ يي ، وذلك في معرض تعقيبه على الحرب التي تدور في اوكرانيا والتي تجند ‏الولايات المتحدة فيها اكثر من 39 دولة حول العالم بهدف استنزاف روسيا. وتستخدم في ذلك ادوات النظام الرأسمالي بأسوأ ‏اشكالها وأكثرها فظاظة وهي الحرب الاقتصادية “العقوبات المغلظة”، في معركة هي في واقع الحال واحدة من سلسلة ‏معاركها القادمة للحفاظ على هيمنتها وتفردها في تقرير مصير العالم دون حد أدنى من احترام التزاماتها نحو الامن والسلم ‏الدوليين‎ . ‎
ولكن هل هذه الحرب الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة الاميركية لاستنزاف روسيا الاتحادية قادرة على وقف عجلة ‏التطور نحو عالم متعدد الاقطاب قادر على الوفاء بالتزاماته الدولية في حفظ أمن وسلام هذا العالم ؟.
ليس في الأفق ما يبشر ‏بذلك ، واوكرانيا وما يرافقها من حرب عالمية بأدوات غير تلك الادوات التي اعتاد عليها العالم في الحروب ليست الساحة ‏المناسبة لوقف عجلة التطور، وهذه هي الشواهد والمعطيات على ذلك‎ : ‎
في البداية تجدر الاشارة الى ان ما أثار قلق روسيا الاتحادية ورئيسها فلاديمير بوتين ليس سيطرة المتطرفين القوميين ‏على الحكم في كييف وتعاونهم او في الحد الادنى صمتهم على ممارسات من تصنفهم موسكو في خانة النازيين الجدد ضد ‏الناطقين باللغة الروسية واندفاع السلطات الحكومية في كييف نحو اوروبا الغربية سواء بطلب الانضمام الى الاتحاد ‏الاوروبي او الانضمام الى حلف شمال الاطلسي ، بل والاطماع كذلك في منطقة الدونباس والسيطرة على ثرواتها ، فمنطقة ‏الدونباس غنية جدا بالغاز الصخري الذي يعتبر محط اطماع شركات الطاقة الاميركية ، حيث تسعى هذه للحصول من ‏الحكومة الاوكرانية على عقود استخراجه وبيعه لأوروبا عوضا عن الغاز الروسي الطبيعي‎ . ‎
وهي الى جانب ذلك كانت منطقة صناعية رئيسة في زمن الإتحاد السوفياتي ، فقد كان فيها الأفران التي تنتج محركات ‏صواريخ الفضاء التي صارت أميركا تشتريها من روسيا. وقد ورثت روسيا عن الإتحاد السوفياتي ذلك البرنامج المتقدم عن ‏الصواريخ فوق الصوتية ، التي جرى تطويرها لتصبح صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت بخمس مرات متفوقة في ذلك ‏على الولايات المتحدة التي ما زالت متخلفة عن روسيا في هذا المجال 5 – 6 سنوات‎ . ‎
وفي الحديث عن تداعيات محتملة للحرب الجارية في اوكرانيا، يلح سؤال يتردد كثيرا في وسائل الاعلام ومواقع التواصل : ‏هل تؤثر العقوبات على اقتصاد الاتحاد الروسي وتدفع قادته لمراجعة حساباتهم وربما لرفع الراية البيضاء أمام الولايات ‏المتحدة وحلف شمال الأطلسي “الناتو”. على المدى المباشر يبدو تأثير تلك العقوبات محدودا . فقد احتاط الرئيس بوتين ‏لمثل هذا الاحتمال ، أي احتمال المواجهة مع الولايات المتحدة والناتو منذ ان فرض الغرب على روسيا عقوبات في أعقاب ‏قرار ضم القرم الى روسيا الاتحادية عام 2014 . فعلى مدار تلك السنوات نجحت الحكومة الروسية في تقليص الواردات ‏وقلصت الى حد كبير من الاستهلاك . وجمعت روسيا احتياطيا ضخما من الذهب والعملات الأجنبية فارتفع احتياطها بنهاية تشرين الاول من العام الماضي إلى 623.2 مليار دولار، ونوعت تلك الاحتياطيات لتتضمن أصولا أجنبية تشمل النقد الأجنبي ‏والذهب ، وأصبح البنك المركزي الروسي يملك صندوقا تقدر موجوداته بنحو 630 مليار دولار يكفي لاستيراد احتياجات ‏البلاد لمدة عام كامل بوتيرتها الحالية‎ .‎
كما شهد الاقتصاد الروسي تطورا بالغ الأهمية من حيث العلاقات التجارية مع الصين عبر عقود لتصدير الغاز وقعت لمدة ‏‏25 عاما. وأصبح البنك المركزي الروسي يملك الكثير من اليوان الصيني ، الأمر الذي يجعل الاقتصاد الروسي أقل ارتهانا ‏لنظام الدولار . هذا إلى جانب فائض حساب جاري يقدر بنسبة 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ودين عام يبلغ 20 بالمئة ‏من الناتج المحلي الإجمالي وهو من بين أقل المعدلات في العالم. يضاف الى ذلك ان زيادة أسعار النفط بفعل هذه الحرب ‏وتداعياتها توفر لروسيا هذا العام أرباحا لم تكن متوقعة تقدر بـ 1,5 تريليون روبل (17,2 مليار دولار) من الضرائب على ‏أرباح شركات الطاقة
الى جانب هذا كله فإن العقوبات الأكبر التي فرضتها الولايات المتحدة وعديد دول الاتحاد الاوروبي واليابان بتقييد قدرة ‏روسيا على الوصول إلى نظام المدفوعات العالمية (سويفت) وفرض حظر كامل على الاستثمارات في روسيا ، من شأنها أن ‏تضع قيودا ثقيلة امام روسيا وتحد من قدرة بنوكها على الوصول إلى نظام سويفت لمدفوعات التصدير والاستيراد وما يترتب ‏على ذلك من احتمالات خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي في النصف الثاني من عام 2022 بمقدار 3,5 بالمائة . هنا يبدو ‏ان حسابات الولايات المتحدة في فرض عقوبات على روسيا كحساباتها عندما أقرت الإدارة الأميركية إخراج الجمهورية ‏الاسلامية في ايران من نظام “سويفت” في عام 2018، فقد خسرت إيران ثمن حوالي 50% من صادراتها من النفط ‏و30% من حجم تجارتها مع العالم. لا شك ان العقوبات التي فرضت على النظام المصرفي الروسي واستبعاد عدد من ‏البنوك الروسية من شبكة “سويفت” قيد في حدود لا يستهان بها من قدرة روسيا على تلقي المدفوعات عن صادراتها، ‏وسداد مقابل وارداتها ، مما تسبب في هبوط الروبل الروسي‎.‎
غير ان ايران شيء وروسيا الاتحادية شيء آخر، خاصة وأن النظام البنكي في روسيا غير مكشوف تماما امام العقوبات ‏كما هو الحال بالنسبة للجمهورية الاسلامية في ايران . تخطئ الولايات المتحدة كما تخطئ دول الاتحاد الاوروبي اذا هي ‏راهنت على ان النظام البنكي الروسي مكشوف تماما ولا يملك خيارات امام هذه العقوبات القاسية، فالبنوك الروسية لديها ‏هي الاخرى حلول متعددة ومن هذه الحلول التحول الى نظام” يونيون باي ” الصيني للمدفعوعات، الذي يمكن استخدامه ‏في 180 دولة في جميع أنحاء العالم في موازاة نظام سويفت. ولمزيد من التوضيح فإن نظام سويفت يرمز الى “جمعية ‏الاتصالات المالية العالمية بين البنوك”، الذي بدأ العمل به عام 1973 م واتخذ من بلجيكا مركزا له ويربط أكثر من 11 ألف ‏بنك ومؤسسة مالية في أكثر من 200 بلد في نظام مراسلة إلكتروني يتم من خلالها اكثر من 42 مليون عملية تحويل مالي ‏يوميا، وهو نظام مرتبط بالدولار الأميركي ، واستطاعت الولايات المتحدة التحكم به بعد أحداث 11 ايلول، 2001، بعد ان ‏فرضت رقابة شديدة عليه وجعلت جميع التحويلات المالية فيه تمر عبر طرف ثالث ، وهو أحد البنوك الأميركية، بحجة ‏محاربة تمويل الإرهاب‎ .‎
ويساعد روسيا الاتحادية في هذا المجال كذلك عضويتها في مجموعة بريكس للاقتصادات الصاعدة والتي تضم أيضا البرازيل ‏والهند والصين وجنوب أفريقيا، إذ يستهدف هذا التجمع زيادة التعاملات الاقتصادية والتجارية بين أعضائه، وبالنظر إلى ‏وجود أزمة الطاقة لدى الدول الصاعدة فسيكون من السهل على روسيا تسويق نفطها لديه‎.‎
وهكذا فإن العقوبات الاقتصادية ليست على درجة من الفعالية بحيث تدفع روسيا الى التراجع او التوقف في منتصف الطريق ‏، وقد تبين ان هذه العقوبات سلاح ذو حدين فبقدر تأثيرها السلبي على الاقتصاد الروسي ، فإن لها ارتدادات عكسية على ‏إقتصادات الدول المشاركة في فرض هذه العقوبة وعلى إقتصادات الدول النامية أيضا. خاصة وأن الاقتصاد الروسي، الذي ‏يحتل المكان العاشر عالميا، يتمتع بمزايا قوية خاصة من خلال استحواذه على ثلاث سلع إستراتيجية لا غنى للدول ‏الاوروبية تحديدا عنها وهي الغاز والنفط والقمح‎ . ‎
فأوروبا بشكل عام تعتمد بنحو 40 % من إحتياجاتها من “الغاز الطبيعي” على روسيا وفرض العقوبات الاقتصادية على ‏روسيا بإخراجها من نظام “سويفت ” سيقود إلى أزمة في قطاع الطاقة في دول الاتحاد الأوربي لأنها ستفتقد لوسيلة تسدد ‏من خلالها إلتزامتها نحو روسيا نظير مشترياتها من الغاز، فضلا عن الانعكاسات السلبية الواسعة لو فكرت روسيا وقف ‏إمدادات الغاز وما يترتب على خطوة من هذا النوع من أزمات يترتب عليها تعثر النشاط الصناعي والخدماتي وإرتفاع ‏معدلات التضخم والبطالة . كما تُعتبر روسيا ثاني اكبر منتج للنفط في العالم بمعدل 11 مليون برميل يوميا، وأكبر أسواق ‏النفط الروسي هي دول الاتحاد الأوروبي والذي يشكل النفط الروسي حوالي 27% من إحتياجاتها السنوية . وكذلك هو الحال ‏بالنسبة للقمح، فروسيا تعتبر من أكثر الدول المنتجة والمصدرة للقمح في العالم.
ويصدّر القمح الروسي إلى معظم دول ‏العالم لجودته وأسعاره المنافسة مقارنة بالدول الأخرى، وإذا تم فصل روسيا عن نظام “سويفت” بشكل كامل ومحكم فإن ‏تصدير القمح إلى الدول المستوردة يمكن ان يتوقف وسيؤدي إلى إرتفاع سعر الخبز في العديد من دول العالم‎ ‎
من الواضح والحالة هذه، أنّ دول الاتحاد الاوروبي تعرّض نفسها لخسائر أكبر من تلك التي تطال الولايات المتحدة بفعل ‏العقوبات، لأنّ التواصل الجغرافي بين روسيا وهذه الدول يسهل الروابط الاقتصادية فضلا عن الروابط الامنية. وقد يكون ‏من السهل على الولايات المتحدة تصعيد عقوباتها الاقتصادية على روسيا بسبب ضآلة حجم التبادل التجاري والاستثمارات ‏بين البلدين ، لكن الوضع مختلف تماما مع دول الاتحاد الاوروبي فالروابط والمصالح الاقتصادية المتبادلة أعمق بكثير، ‏وإذا أخذنا المانيا الاتحادية نموذجا على ذلك فإن نحو 6000 شركة ألمانية تنشط في روسيا مع ما يرافق ذلك من وظائف ‏مرتبطة بهذه العلاقات بين البلدين تقدر بنحو 400 ألف وظيفة. وبشكل عام فإن الاتحاد الأوروبي يعتبر أكبر شريك تجاري ‏لروسيا، بنحو 37% من إجمالي تجارة هذه الدول مع العالم في أوائل عام 2020، وفقاً للمفوضية الأوروبية‎ . ‎
وفي المحصلة يبدو واضحا، ان روسيا الاتحادية كانت تعد نفسها لمثل هذه العقوبات منذ العام 2014 أي منذ الاعلان عن ‏عودة القرم الى الحضن الروسي وما صاحب ذلك من عقوبات غربية . فقد بنت روسيا الاتحادية لنفسها اقتصادا شبه محصن ‏من تداعيات هكذا عقوبات ووضعت أمن البلاد في كفة والوضع الاقتصادي في الكفة الاخرى ووازنت بين الأمرين بكيفية ‏فاجأت الكثيرين وأربكت حساباتهم . هنا لا يبدو مفيدا ترداد صدى الدعاية المعادية لروسيا الاتحادية، والادعاء بأن الامور ‏في طريقها الى تسوية تقوم على توفير سلم أمان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكنه من النزول عن الشجرة ، فالرئيس ‏الروسي لم يصعد أصلا على شجرة بل هو يقف على أرضية اختارها بعناية ومناسبة لحساباته في تصحيح مسار تاريخي ‏خاطئ لتوازنات قوى تجاوزتها تطورات متسارعة في الثورة العلمية والتكنولوجية، وهي تطورات عبر عنها وزير خارجية ‏الصين عندما قال، أن للصين علاقات استراتيجية مع روسيا هي الأكبر في العالم ، والتزام دائم لتعزيز التعاون معها وبأن ‏العلاقات مع موسكو قوية بصرف النظر عن التحديات العالمية، داعيا الى العمل معا لتجاوز الحالة الصعبة التي يمر بها العالم ‏من خلال التسليم بتعددية الأقطاب باعتبارها أساسا للوفاء بالالتزامات الدولية وأساسا لإدارة عالم اليوم بشكل منصف‎ .

الفيديو

تابعونا على الفيس