"الديمقراطية هي حكم الشعب. وهي - على علاتـها الكثيرة - مرحلة من الرقي الحضاري، لا ينالها إلا من يستحقها. فكما تكونون يولى عليكم".
قصة الموريتانيين مع الديمقراطية، تشبـه أسطورة "سيزيف" الذي عاقبتـه الآلهة "بعذاب أبدي قائم على دفع صخرة من أسفل جبل إلى أعلاه،
حتى إذا بلغ القمة تدحرجت الصخرة إلى أسفل، وكان عليه معاودة العمل من جديد"!. أو كمأساة "ياجوج وماجوج" الذين يقضّون النـهار حفرا لِيَظْهَروا سد ذي القرنين، وحين لا يبقى بينـهم وبين نـهاية النفق إلا ذراع، يحول ظلام الليل بينـهم وبين الهدف، فيبيتون في انتظار الصباح؛ وعندما يعودون في الغد يجدون ما حفروا بالأمس قد ردم فيستأنفون الحفر من جديد!:
دستور الجمهورية الأولى مزقه قادة جيش عجزوا عن حماية الوطن، في حرب كيدية غير متكافئة، فآثروا احتلاله عنوة!
ودستور الرئيس محمد خونا ولد هيداله لم ير النور قط!
ودستور الجمهورية الثانية البديع ظل حبرا على ورق يدبّج استبداد الحاكم وطغيان الحاشية وشقاء ومعاناة الشعب المسكين!
والإصلاحات الدستورية التي أسست للجمهورية الثالثة؛ والتي هلل لها العالم وكانت ثمرة نضال مرير، وحصيلة تشاور واسع، تجتاز اليوم امتحانا صعبا لن تنجو منـه إلا بتضافر جهود القوى الوطنية الحية وتحليها بدرجة عالية من المسؤولية والشجاعة والحكمة!
أهي لعنة أزلية تطارد بلاد المليون شاعر، أم إنـها خطيئة النشأة وجزاؤها التيه والعمه، أم إن الأمر لا يعدو كونـه تجليا لإحدى سنن الكون "كما تكونون يولى عليكم"؟ وبالتالي فإن البون ما يزال شاسعا جدا بين ما نصبو إليه وما نستحق!
كيف تحول الحلم إلى كابوس؟
(شرط النـهايات تصحيح البدايات)
من خصائص "الديمقراطية الموريتانية" التي أنجبتـها حركة 3 أغسطس 2005 وكان حملها وفصالها تسعة عشر شهرا، أنـها فاجأت العالم - وخاصة العرب- فانبـهر بـها الجميع وتعامل معها كما لو كانت معجزة نزلت من السماء، وليست عملا بشريا عرّابـه الجيش. وقد ساعد في إضفاء وترسيخ تلك الصورة الزائفة، ما يقوم بـه الإعلام المنحرف – بشكليه: العام والخاص- من إطراء لكل عمل رسمي، بدل إخضاعه للنقد وتسليط الأضواء على عيوبـه بغية تصحيحها وتفادي تفاقمها وتحولها مع الزمن إلى سرطان ينخر الجسم كله.
وعلى الرغم من أن بعض المهتمين بالشأن العام دقوا ناقوس الخطر منذ اللحظات الأولى، وشخّصوا مكمن الداء؛ محذرين من وجود أخطاء جسيمة قد تؤدي - في ظل الأوضاع الموبوءة الراهنة- إلى انـهيار التجربة الوليدة بكاملها، إن لم تؤخذ في الاعتبار، وتتم معالجتـها بحزم وسرعة بالِغَيْن؛ فإن صريخهم ضاع في ضجيج النصر الوهمي، ومراسيم تقاسم الغنيمة الوافرة، دون أن يترك صدى معتبرا.
ولعل أهم تلك العوامل السلبية التي اكتنفت "نشوء وارتقاء" تلك التجربة وتركت بصماتـها القوية عليها هي:
1. نقض المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية العهد الذي قطعه على نفسه أمام شعبـه وأمام العالم بالحياد والشفافية. وقد تجلى ذلك في تدخله السافر ضد الأحزاب السياسية "التي تكوّن الإرادة السياسية وتعبر عنـها" حسب نص الدستور، وبعثه فلول النظام المطاح برأسه من مرقدها قوى سياسية "مستقلة" أوعز لها بالترشح ووفر لها المساندة والدعم؛ وفي استيراده لمرشح رئاسي "مؤتمن" فرضه قسرا على الناخبين. وقد اعترف الرئيس نفسه بذلك على شاشة الجزيرة قبيل الإطاحة بـه بأيام!كما أكده قادة الجيش أنفسهم غير ما مرة.
2. هشاشة الطبقة السياسية الموريتانية، وتشرذمها على أسس عشائرية وجهوية وعرقية ومللية، واختراقها - في معظمها - من طرف أجهزة الأمن الداخلية، وعملاء القوى الأجنبية، ومختلف عصابات المافيا المتحكمة في مفاصل الدولة. وما يصدق على الطبقة السياسية يصدق على أغلب منظمات المجتمع المدني، والصحافة، وطبقة المال والأعمال التي يُسِيل لعابـها الاستثمارُ في شراء ذمم الساسة والمناصب والاستحواذ على مراكز نفوذ تضمن لها نـهب المال العام و"الكسب السريع المضمون" بدل الاستثمار في الاقتصاد ودفع عجلة التنمية إلى الأمام، الذي هو وظيفتـها الطبيعية وسبب وجودها!
3. ضعف الرئيس "المنتخب" وعجزه عن تحقيق شيء معتبر مما وعد بـه، وانصرافه المبكر عن حلفائه و"أغلبيتـه" إلى أحضان "أغلبية" أخرى أدسم.
وفي مثل هذا الوضع، أليس من الوهم والضلال البعيد، أن لا نتوقع انـهيار حلم تضافرت جهود قوى أساسية في الدولة والمجتمع بغية بنائه على هواها خدمة لمصالحها الضيقة الآنية، بدل أن يبنى على أسس ثابتة ومتينة، قابلة للحياة والبقاء، وتلبي المصالح العليا للوطن؟
أسباب وطبيعة الانقلاب
ويتبين مما أسلفنا أن الصرح السياسي الذي تمخضت عنـه المرحلة الانتقالية، والذي وصف تمويها بـ"الديمقراطية" لم يكن صرحا ديمقراطيا صحيحا قابلا للتطور والبقاء؛ بل كان مسخا خداجا يحمل في طياتـه أسباب انـهياره وتلاشيه.. خاصة أن التحالف الذي تلاعب بالانتخابات وفرض بقوة الدولة والمال الحرام تربع ثالوث سيدي - الزين - مسعود على سدة الحكم، لم يكن منسجما؛ بل كانت مصالحه ونواياه متضاربة كل التضارب، رغم أن هدف إفشال الديمقراطية وإيصاد الباب في وجه نجاح قوى التغيير، كان قد وحده مرحليا.
فقادة انقلاب الثالث من أغسطس على نظام معاوية ومن على شاكلتـهم من "المستقلين" كانوا يريدون تغييرا على مقاييسهم يضمن لهم تجاوز السلطة التي انقلبوا عليها ويحميهم من الجموح إلى آفاق المعارضة. وفي سبيل ذلك رأوا في رموز النظام وفلول السلطة المطاح بـها حليفا مرحليا في سبيل بلوغ هدفهم؛ أما رموز النظام وفلول السلطة المنـهارة فكانوا يرون في قادة انقلاب الثالث من أغسطس و"مستقليهم" - رغم ما يكنونـه لهم من ضغينة - سندا يكفل لهم إقصاء المعارضة وزعيمها أحمد ولد داداه عدوهم الرئيسي يومئذ. وبعدما ينكسر طموح التغيير فلا تكون الإطاحة بالانقلاب وآثاره الكارثية عليهم سوى مسألة وقت.
وأيا كان مدى دقة هذه الحسابات، فإن سنة شهباء من "العهد الديمقراطي العتيد" كانت كافية - دون ريب - لإظهار عيوبـه وهشاشتـه، وتبديد كافة الآمال المعقودة عليه، ومنبئة عما يخبئه من فساد وعجز واضطراب وضياع.. الشيء الذي وضع أكثر من علامة استفهام حول مستقبل البلاد الغامض في ظل ذلك العهد.
وبدأت الأزمة التي لا مناص منـها بين الإخوة الأعداء مع ميلاد حزب السلطة الذي أفصح اسمه المُخْفَى "عودة" (حزب العهد الوطني للديمقراطية والتنمية) عن ماهيتـه. لقد ارتأوا جميعا، وهم القادمون من خارج الأحزاب السياسية والمشهد السياسي العلني، أن يشكلوا حزبا للسلطة في كنف "الرئيس المنتخب وأغلبيتـه". ولكنـهم دخلوا مباشرة -في سبيل ذلك - في صراع محموم من أجل السيطرة على ذلك الحزب واستخدامه أداة للسطو على السلطة والانفراد بـها. وقد استطاع رموز النظام وفلول السلطة الحالمون بالعودة فرض سيطرتـهم على الحزب الجديد وتنصيب ممثلهم السيد يَحْيَ ولد الوقف رئيسا له، وإقصاء الآخرين.
ولم يتئد المنتصرون؛ بل حملوا رئيس الجمهورية - الذي أصبح، بقدرة قادر، يأتمر بأمرهم - على إجراء تعديل وزاري، من وراء ظهر الجيش، حمل إلى مقاليد الحكم رموز الفساد وفلول السلطة المطاح بـها. عندها شعر قادة الجيش بالخطر الداهم فأشهروا أسلحتـهم: تداعى النواب "المستقلون" والمعارضون لحجب الثقة عن حكومة يرفضها الجيش والشعب، وبدأ الحديث عن مساءلة مؤسسة حرم الرئيس الخيرية الغارقة في الفساد.
وتشبث الرئيس بحكومة ولد الوقف؛ مهددا بحل البرلمان إذا تمادى في نـهج حجب الثقة عنـها، ودافع عن حرمه المصون أيما دفاع. وتمسك النواب بدورهم - معتمدين على الجيش والشعب - بحق البرلمان في حجب الثقة والرقابة والمساءلة. فتجلت معالم الأزمة السياسية عميقة للجميع.
لقد كان من الممكن والواجب، أن تسوى تلك الأزمة بصورة ديمقراطية ودستورية تكفل مصالح البلاد وتجنبـها اضطرابا هي في غنى عنـه، لو كانت لدينا ديمقراطية صحيحة، وحُكّم العقل. ولكن المفسدين دفعوا بالأمور في اتجاه التصعيد والمزايدة.. منوهين بشرعية رئيس الجمهورية، وصلاحياتـه التي تخوله حل البرلمان، وإقالة قادة الجيش. وألحوا في مطالبتـه بذلك، دون أن يضعوا اعتبارا لميزان القوة الراجح في غير صالحهم.
ابتلع الرئيس الطعم بسرعة، فهدد من جديد بحل البرلمان، ومنع انعقاد دورة برلمانية غير عادية دعت إليها أغلبية النواب، فرأوا في ذلك خرقا لترتيبات الدستور، وتعطيلا لسير المؤسسة التشريعية، يرتب اتـهامه بالخيانة العظمى.. كما استخدم ما لديه من نفوذ مادي ومعنوي لرد بعض نواب الأغلبية عن الانسحاب من حزبـه وتشكيل حزب جديد.
ولما لم يُجْدِ كل ذلك في إخماد ثورة المشرعين وتضييق الخناق عليه وعلى حرمه المتـهمة، أصدر الرئيس - في وهن من الليل - أمره بإقالة جميع قادة القوات المسلحة وقوى الأمن، وعيّن قادة آخرين مكانـهم، رغم ما ينطوي عليه ذلك من خطر على وحدة الجيش وأمن وسلامة البلاد.
.. وعندها أطاح بـه الجيش وخلعه.
تلكم هي أهم أسباب الانقلاب؛
أما طبيعتـه، فإنـه - خلافا لما يوهمنا البعض- ليس انقلاب قبيلة أوجهة أو فئة معادية للديمقراطية تسعى إلى الارتداد بالبلاد إلى الوراء وتريد البقاء في السلطة؛ بل هو امتداد لحركة الثالث من أغسطس يتبنى أهدافها ويقوده قادتـها ويحافظ على روحها ويسعى إلى تصحيح مسارها، ومن المؤكد - حسب جل المحللين - أنـه ما كان ليكون لولا أن أملتـه الضرورة حين أطيح بشرعية الثالث من أغسطس 2005 وعاد رموز النظام الفاسد إلى الواجهة وأصبح الوضع غداة السادس من أغسطس 2008 أسوأ في أهم مفاصل الحياة الوطنية مما كان عليه عشية الثالث من أغسطس 05 أو مثله على أقل تقدير!
موريتانيا إلى أين؟
هناك أخطار انزلاق حقيقية تـهدد موريتانيا!
إن الوضع الراهن مرشح لأحد احتمالين: فإما التصحيح والانفراج؛ وهو الاحتمال الرئيسي لقوة عوامله، وحكمة ومسالمة الموريتانيين. وإما الفوضى لا قدر الله.
ومن نافلة القول التأكيد على أن إنجاح احتمال التصحيح والانفراج يتطلب ويفرض تضافر جهود كافة القوى الوطنية من أحزاب ومجتمع مدني وبرلمان ومؤسسات وقوات مسلحة وقوى أمن.. الخ، والتشاور والتنسيق مع أصدقائنا وشركائنا في العالم؛ وذلك من أجل تحقيق أمور جوهرية ملحة من بينـها:
1. وضع خطة وطنية انتقالية محددة المدة تضمن صيانة المكاسب الوطنية والديمقراطية، والحفاظ على كافة المؤسسات القائمة، وتنظيم انتخابات رئاسية حرة وشفافة لا يترشح لها العسكريون، ولا يرشحون لها، وبمجرد إعلان نتائجها تعود القوات المسلحة إلى ثكناتـها مكرمة ومحمية وموحدة.
2. تشكيل حكومة انتقالية نظيفة تُختار على أساس الكفاءة كي تتولى تسيير البلاد، وتصحيح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومحاربة الفساد، والإرهاب، وتجارة المخدرات، والفقر والمرض..
3. صيانة واحترام كافة الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين بغض النظر عن مواقفهم السياسية وانتماءاتـهم الاجتماعية.