يضع السؤال أعلاه تحدياً أمام مؤسسات التقدير الإستراتيجي وخبراء العلوم السياسية والعلاقات الدولية حول العالم وفي المقدمة منهم الفلسطينين، لتوفير إجابات على جملة أخرى من الأسئلة التي تتفرع عنه مثل: هل أنهت عملية روسيا في أوكرانيا نظام القطب الواحد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 1991، ورسخت العملية بالمقابل اساسات ومعالم نظام بديل؟
وماذا ستكون طبيعة النظام البديل، هل هو نظام ثنائي القطبية، او نظام متعدد الأقطاب؟ وهل ينطوي هذا التحول في النظام الدولي على تهديد لإسرائيل؟ وهل النظام الجديد الذي لم يقف على قدميه بعد سيُنصف الشعب الفلسطيني ويرفع عنه الظلم التاريخي الذي أوقعه عليه في تحولاته السابقة منذ بدايات القرن الماضي؟ وأين عليهم أن يتموضعوا في ظل هذه التحولات؟
وفي هذا الشأن أجادل في هذه المقالة أن العملية الروسية في أوكرانيا قد أطلقت رصاصة الرحمة على جثة نظام القطب الواحد، الذي يشهد تحولاً بطيئاً منذ العام 2008، الذي شهد إندلاع أزمة العقارات في السوق الأمريكية والتي أنتجت بدورها الأزمة المالية العالمية، وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد عبر عن ذلك في خطابه الذي رافق العملية والذي وصف بالتاريخي، بقوله أن “ما كان من نتائج بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي لن يعود ابداً”، في حين وصف الرئيس الفرنسي ماكرون العملية الروسية “بنقطة تحول في تاريخ أوروبا”.
من جهتها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول الإتحاد الأوروبي إكتفوا بفرض عقوبات إقتصادية على موسكو، في حين أعلنت الصين وإيران ودول أسيوية أخرى تفهمهم لدوافع العملية الروسية، الأمر الذي يدلل على محاور النظام العالمي الجديد.
أما من جهة الفلسطينيين الذين يعتبرون ضحية تحولات النظام الدولي الذي وكما قال الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في وثيقة إعلان الإستقلال العام 1988، قد إستبعد الفلسطينيين من المصير العام وهو يعيد صياغة منظومة قيمه الجديدة، فينبغي عليهم الحذر والإنتباه وعدم التسرع في التموضع لجانب أي من الأطراف، لا سيما وأنه من غير المتوقع أن تسعى القوى الكبرى المنافسة للقوى الإستعمارية الغربية التقليدية (امريكا وبريطانيا) والتي لن تعود بعد اليوم تتربع لوحدها على عرش قيادة النظام الدولي، مباشرة الى فرض الرؤية الدولية الخاصة بمعالجة الصراع على إسرائيل في المدى المنظور، خاصة وأن وحدة الفلسطينيين تغيب عنهم ويبدو أنها باتت بعيدة عن قدرة هذا الجيل على تحقيقها، علاوة على أن البعض من العرب الذين يعتبرون العمق الإستراتيجي للفلسطينيين، قد قطعوا شوطاً لا بأس به في الإنزياح لصالح الرواية الإستعمارية الصهيونية على حساب رواية الحق الفلسطينية، بمعنى ان قوى قيادة النظام العالمي الجديد لن تكون ملكية أكثر من الملك.
تجدر الإشارة هنا أن النكبة الفلسطينية أو القضية الفلسطينية تعتبر أحد منتجات تحولات النظام الدولي منذ بدايات القرن الماضي، حيث كان مشروع صناعة إسرائيل وتثبت وجودها في المنطقة أحد أهم منتجات هذه التحولات، الأمر الذي تجلى في وعد بلفور العام 1917 في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ثم في إعلان قيام دولة إسرائيل العام 1948، ونشأة نظام القطبين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك في التمدد وحسم صناعة الوجود في المنطقة من خلال مغادرة مقاربة الحرب والمعالجة العسكرية للصراع وإعتماد مقاربة التسوية السياسية بدلاً عنها بعد تسيد الولايات المتحدة الأمريكية للنظام العالمي وإختفاء الإتحاد السوفيتي في أعقاب نهاية الحرب الباردة العام 1991.
وكان المشروع الإستعماري المتمثل بإسرائيل، قد حقق إنتصارات إستراتيجية في مرحلة نظام القطب الواحد، إذ تمكنت إسرائيل مدعومة من واشنطن خلال هذه المرحلة من تغيير صورة الحركة الصهيونية من حركة عنصرية الى حركة تنشد العدل والديمقراطية وذلك من خلال شطب قرار الجمعية العام للأمم المتحدة رقم (3379) الصادر عن الجمعية العام 1975، والذي ينص على إعتبار الحركة الصهيونية (شكل من أشكال العنصرية والتمييز العرقي)، وإصدار قرار جديد في العام 1991 حمل رقم 86/46 يعتبر القرار السابق لاغياً، كما تحول هذا المشروع من مشروع إستعماري يتوجب مقاومته إلى مشروع يمكن التعايش معه من خلال ما يعرف بمسيرة السلام التي تبين لأصغر الفلسطينيين سناً أنها خدعة كبري غايتها فرض الإستسلام على الشعب الفلسطيني.
المفارقة هنا أنه بالتوازي مع جملة الإنتصارات التي حققها المشروع الإستعماري الصهيوني في فلسطين فقد تلقى هذا المشروع في نفس المرحلة أي مرحلة القطب الواحد ضربات في صميم جوهره تهدد مصيره ومستقبله برمته وتجرده من معظم ممكنات قوته المادية، إذ يشهد العالم منذ بداية الألفية الجديدة صعودا متسارعاً لدى الرأي العام الغربي، لا سيما على الصعيد الحقوقي والأكاديمي فيإعتبار إسرائيل دولة تفرقة عنصرية (أبارتهايد)، الأمر الذي يجعل من المرحلة الجارية من مراحل تحول النظام الدولي مختلفة عن سابقاتها من المراحل من حيث قدرة إسرائيل على إستثمار ممكنات شركائها (واشنطن ولندن) الديبلوماسية في التأثير على قرارات مؤسسات النظام الدولي.
ما تقدم يظهر أن العملية الروسية في أوكرانيا تنطوي على تهديدات لإسرائيل أكثر مما تنطوي عليه من فرص بما في ذلك من فرصة موجات جديدة من الهجرة لإسرائيل، وذلك مقابل أن ما تنطوي عليه من فرص للفلسطينيين في نضالهم ضد الإستعمار العنصري الإسرائيلي تبدو أكثر مما تنطوي عليه من تهديدات، حتى وإن كان الإتحاد السوفيتي أكثر إيذاءً للفلسطينيين في إعترفه قانوناً بإسرائيل العام 1948، لا سيما وأنه أي الإتحاد السوفيتي كان اول دولة تصوت لصالح اعتبار الحركة الصهيونية حركة عنصرية العام 1975.
وعلى ضوء ذلك هناك حاجة لمساهمات بحثية جادة من خبراء العلوم السياسية والعلاقات الدولية الفلسطينيين لدراسة ما يجري من تحولات على صعيد النظام الدولي والتبؤ بمآلاتها وتداعيات على النظام العالمي، لا سيما على الفلسطينيين الذين تمكنوا من فرض قضيتهم على أجندة النظام الدولي على الرغم من كل محاولات تهميشهم وإخراجهم من التاريخ، وعلى ضوء مخرجات هذه المساهمات يتوجب على النظام السياسي الفلسطيني تطوير تدخلات إستراتيجية قادرة على إستثمار هذه الفرص من خلال حسن إختيار جيش مقتدر ومؤهل من الشعب الفلسطيني لتحمل مسؤوليات تنفيذ التدخلات الجديدة