طالعنا الددو من جديد، بعد "الرؤى اليمانية" بفتوى "فقهو-سياسية" جديدة تستند إلى "قياس مع الفارق". فقد شبه حال مرسي باستشهاد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ليسحب شرعية خلافة عثمان رضي الله عنه وهو محصور، على مرسي وهو مسجون.
يقرر الددو أن "السجن لا يسقط شرعية الحاكم المسلم". ويستدل على تقريره بأن أحدا من المسلمين لم يطعن في إمامة عثمان "وهو محبوس". من هنا يبدأ التدليس. فالذي درجت عليه كتب تاريخ الإسلام هو وصف حال أمير المؤمنين بالحصر بدل الحبس وبين اللفظين اختلاف في معاجم اللغة.." حصَر الشَّخصَ : ضيَّقَ عليه وأحاط به "، و " حبَسَ الشَّخصَ أو الشَّيءَ : منَعَه وأمسَكَه وأخّره ، ضدّ خلاَّه ".
والحبس، في اصطلاح القانون:" أمر رسميّ أو قضائيّ ينصُّ على احتجاز أو استبقاء الشَّخص الموضوع تحت الوصاية للبتِّ في أمره". من هنا يظهر الفارق الأول بين حصار أمير المؤمنين وحبس مرسي، ولم يعد مرسي محبوسا وإنما أصبح سجينا بعد صدور الأحكام القضائية في حقه، وهو فرق شاسع آخر. يتعمد الددو إطلاق الحبس في حق أمير المؤمنين رضي الله عنه، فيقول عنه:"... في حصاره وهو محبوس..." ووصف مرسي بالحصر.."محمد مرسي ولو كان محصورا..." لإيهام السامع بتماثل الحالتين، بينما الواقع اختلافهما؛ فحال أمير المؤمنين في حصاره لا تشبه حال مرسي في سجنه لذلك لم يصف غير الددو، أمير المؤمنين بالمحبوس، ولا مرسي بالمحصور. ويزعم الددو أن البخاري روى عن عبيد الله بن عدي بن خيار:" أن عثمان أطل على الناس... أنت إمام سنة وهؤلاء إمامهم إمام بدعة..."و النص الذي وجدناه في فتح الباري مختلف عن نص الددو.." 663 قال أبو عبد الله وقال لنا محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي حدثنا الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فقال إنك إمام عامة ونزل بك ما نرى ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج فقال الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسن الناس فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم..." (باب إمامة المفتون والمبتدع). وقد أطلق الراوي "وهو محصور"، كما يرد في الآثار التي تتناول الفتنة، ولم يقل وهو محبوس. وفي شرح الحديث ما يبين الفرق بين الفرع والأصل.." قوله : ( إنك إمام عامة ) أي جماعة ، وفي رواية يونس " وأنت الإمام " أي الأعظم . (وما كان مرسي إماما أعظم) قوله : ( ونزل بك ما نرى ) أي من الحصار . (ولم يقل من الحبس أو السجن) قوله : ( ويصلي لنا ) أي يؤمنا . (وما كان مرسي يصلي للناس إلا في مناسبات متلفزة)
قوله : ( إمام فتنة ) أي رئيس فتنة ، واختلف في المشار إليه بذلك فقيل : هو عبد الرحمن بن عديس البلوي أحد رءوس المصريين الذين حصروا(خلاف حبسوا) عثمان ، قاله ابن وضاح فيما نقله عنه ابن عبد البر وغيره، وقاله ابن الجوزي وزاد : إن كنانة بن بشر أحد رءوسهم صلى بالناس أيضا .
قلت : وهو المراد هنا ، فإن سيف بن عمر روى حديث الباب في " كتاب الفتوح " من طريق أخرى عن الزهري بسنده فقال فيه " دخلت على عثمان وهو محصور (خلاف محبوس) وكنانة يصلي بالناس فقلت كيف ترى " الحديث . وقد صلى بالناس يوم حصر (خلاف حبس) عثمان أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري لكن بإذن عثمان ، ورواه عمر بن شبة بسند صحيح ، ورواه ابن المديني من طريق أبي هريرة . وكذلك صلى بهم علي بن أبي طالب فيما رواه إسماعيل الخطي في " تاريخ بغداد " من رواية ثعلبة بن يزيد الحماني قال : فلما كان يوم عيد الأضحى جاء علي فصلى بالناس .
وقال ابن المبارك فيما رواه الحسن الحلواني : لم يصل بهم غيرها . وقال غيره : صلى بهم عدة صلوات وصلى بهم أيضا سهل بن حنيف، رواه عمر بن شبة بإسناد قوي . وقيل صلى بهم أيضا أبو أيوب الأنصاري وطلحة بن عبيد الله ، وليس واحد من هؤلاء مرادا بقوله إمام فتنة . وقال الداودي : معنى قوله " إمام فتنة " أي إمام وقت فتنة ، وعلى هذا لا اختصاص له بالخارجي . قال : ويدل على صحة ذلك أن عثمان لم يذكر الذي أمهم بمكروه بل ذكر أن فعله أحسن الأعمال . انتهى ."
أضف إلى ذلك فرقا جوهريا بين خلافة أمير المؤمنين وحكم مرسي؛ فقد كان أمير المؤمنين يقضي بكتاب الله ويحرس الدين بالدنيا بينما حكم مرسي بالقانون الفرنسي، وطلب الحكم لجماعته باسم الديمقراطية. وحين حدثت فتنة الإخوان احتج بعض أهل العلم عليهم بقوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، فجادلوا بأن المقصود بأولي الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله. ولا يستطيع أحد من الإخوان ادعاء أن مرسي كان يحكم، أو في برنامجه السياسي، أن يحكم بما أنزل الله، فكيف يقاس حكمه على خلافة أمير المؤمنين؟ وكان أمير المؤمنين أحد من شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة (وإن تنقصه بعض كتبة الإخوان)، ومرسي ترجى له النجاة والله أعلم بحاله. وبذلك يلاحظ القارئ الكريم أن حصار أمير المؤمنين يختلف عن سجن مرسي وقياسه عليه قياس مع الفارق. و "القياس مع الفارق قادح من قوادح القياس الأربعة عشر."
وإذا سلمنا مع الددو أن "الحبس لا يسقط شرعية الحاكم المسلم"، فلا بد من تطبيق "قاعدته" هذه على حسن مبارك، وقياس مرسي عليه إذ حالهما أشد تشابها. فمرسي رئيس منتخب مثل مبارك، قامت ضده مظاهرات مليونية مثل مبارك، فأسقطه العسكر تحقيقا لآمال الشعب، مثل مبارك، وحبس، ثم سجن مثل مبارك. وإذا كان "الحبس لا يسقط شرعية الحاكم المسلم"، فلا شرعية لمرسي لأنه اغتصب شرعية مبارك، واستقالة مبارك تقاس على طلاق المكره.
وإذا طبقنا "قاعدة الددو" الجليلة هذه على بعض أحداث التاريخ الإسلامي أسقطنا إمامة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين على أهل قرطبة، وإشبيلية، وبلنسية، ومرسية، وأثبتنا الشرعية لسجين أغمات، ولم يقل بذلك أحد من العلماء الذين عاصروا تلك الأحداث.
يدلل الددو على شرعية مرسي بأن "العلماء صلوا معه..." وكم صلى علماء الإخوان خلف القذافي، وجندهم لمجادلة معارضيه من الجماعة الليبية المقاتلة، فأجمع علماء الإخوان على أنه إمام عدل يطبق شرع الله، ولا يجوز الخروج عليه، وأصدروا بذلك كتاب مراجعات الجماعة الليبية المقاتلة. أفرج عن السجناء الذين تعهدوا بعدم رفع السلاح على الدولة، وتلقوا تعويضات مالية مجزية، وقبض مشايخ الإخوان، ومنهم الددو نفسه، حرث الدنيا... حتى إذا شنت الغارة على ليبيا تولى علماء الإخوان النيتو فكفروا القذافي وأحلوا دمه، وما نقموا منه حدثا أحدثه بعد شهادتهم له وتزاحمهم على التصوير معه.
ما فعله الددو، ويفعله علماء الإخوان في الغالب، هو تبني مواقف سياسية تخدم الجماعة والحزب، ثم يقدونها على طريقة بروكست على مواقف في التراث يتخيرونها، فيصبح حكم مرسي نظير خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، والحصار مرادف للحبس، مثلما يرادف لفظ "راعنا" لفظ "انظرنا"، وقد نهى الله عن الأول، وندب إلى الثاني...
المستشار اسحق الكنتي