[3]
هذيان … / يس علي يس ..
هي ذاتها الدوامة التي ما فتئت تدور بها في ظلمات متكررة، مازالت تركض في هذي التضاريس الوعرة، تهبط وتصعد، تحمل حقيبتها الصغيرة بحرص، فهي آخر ما تبقى لها، والمشوار قد قارب على نهايته ولم يعد هناك متسع أو مجال لإفشاله، ترى فوهات البنادق من المرتفعات حولها تلمع تحت ضوء الشمس وتصوب ناحيتها، تحتمي بإحدى الصخور، لوهلة يصمت المكان تماماً إلا من صوت الرياح على الأشجار و زقزقات العصافير، أنفاسها تعلو وتهبط في ماراتون غريب، لن تترك أحداً يغتال حلمها بالتغيير، لن يقف حتى الموت في طريقها، فأهون عندها أن تتدثر بالتراب من أن تعيش جثة تمشي على قدمين في شوارع لم تعد تملك فيها إلا هذا البيت البائس وإخوة جائعون ووالدان لا يقويان على شيء، سمعت أصوات أقدام تقترب منها بتعجل، وبخطوات ثقيلة جداً على الأرض وعلى قلبها، همت بأن تنهض بسرعة محتضنة حقيبتها وتركض، ولكن اليد كانت أسرع فطوقتها بعنف، تبينت الرداء العسكري المموه، وارتطمت بها مؤخرة البندقية دون قصد، حاولت التملص، قاومت بكل عنف، كانت تركل بقدميها في الهواء وهو يضغط على صدرها لتثبيتها، فتحت عينيها ببطء، كانت هناك العديد من الوجوه التي تطل عليها وتحاول تثبيتها على السرير، سقف الغرفة من أعواد الشجر، والملابس بيضاء، تتراقص الصور أمام عينيها في فوضى كبيرة، تشعر بشيء بارد يوضع على جبينها تشعر ببعض الراحة، ها هو أخوها الأصغر كعادته يجلس إلى جانبها ويسألها عن الدراجة التي وعدته بها قبل فترة، احتضنته برفق، هو لا يدري أنها باعت جسدها للراغبين من أجل توفير لقمة العيش له وإخوته، كان يعتصرها الألم ولكن لا مفر فهي لم تتلق تعليماً كافياً لتكون موظفة، أهدرت نصف عمرها الصغير في الخدمة العسكرية الإلزامية هنا، ثم انصرفت بطلقة أصابتها وأبعدتها وتركت لدوامة الحياة بتذكار لا ينمحي أبداً، كان أخوها ينهض ببطء وانكسار جعل قلبها ينزف بحرقة تناديه دون أن يلتفت فقد كان في عيونه ما يكفي من دموع، تصرخ: توماس.. توماس.. توماس.. يختفي خلف الباب المفتوح تهم بالنهوض بسرعة للحاق به وتطييب خاطره.. لا تستطيع حراكاً فالأيدي الثقيلة تعيدها إلى مكانها، تفتح عينيها ببطء، عيون مشفقة، نفس الملابس البيضاء المتراقصة، ذات السقف ذي الأعواد، ونفس الشيء البارد يلامس جبينها.
بأقدام متورمة عبرت الحدود، لا شيء إلا الطبيعة القاحلة والأرض المنبسطة المحتشدة بالسراب، الشمس الساطعة، والجسد المنهك يجرجر الأقدام جراً، ما زال الطريق أمامها للوصول إلى أقرب نقطة يمكن أن تستقل من خلالها سيارات المهربين لتدفع لهم ما جمعته من مال وتصل إلى الأمان، تطلعات جميلة كانت تداعب مخيلتها وهي تتخيل نفسها هناك، تخدم أسرة كبيرة توفر لها الأمان والراتب الذي سيتم تحويله، ستشتري من أول راتب لها دراجة لشقيقها “توماس”، كانت وعدته كثيراً بها ولم تستطع التنفيذ، ستشتري لأمها ثياباً جديدة وتمنح أباها بعض المصروفات ليقضي بعض أموره الخاصة، لم تكن تفكر فيها أبداً، وكلما رفعت عينيها إلى الأفق أمامها يزيد الحمل على ساقيها ولكن لا مفر من الوصول، لم يعد لديها القدرة الكافية، قطعت مئات الكيلومترات سيراً على أقدامها مقاومة شتى الظروف الطبيعية ومتحملة الأوجاع، لم تعد قادرة على المسير، ها هي تتهاوى، تسقط، تمنع السقوط بذراعيها الخائرتين، عليها أن تنهض، ليس المجال مجالاً للتراجع، هيا “هيلين” قارب الطريق على الانتهاء، انهضي، تحاول بقوة متحدية، الأيدي الثقيلة التي مازالت تسيطر على صدرها وتثبتها في السرير، همهمات، عيون مشفقة، والسقف ذي الأعواد والشيء البارد على الجبين، أناس من حولها تتبين ملامحهم رويداً رويداً، والعيون المشفقة، كانت القطعة المبللة على جبينها تخفف من تأثير الحمى عليها، كم مضى من الوقت وهي على هذه الحالة؟؟ أين هي الآن؟؟ من هم هؤلاء الناس؟؟، أسئلة لم تجتهد للإجابة عليها، كان الصداع يكاد يفجر رأسها، والعيون بالكاد تتفتح لتتبين معالم الأشياء، ضوء النافذة اجتذب بصرها إلى هناك، سماء ولا شيء سواها، سموم لافحة تخترقها لتزيد سخونة الجو أكثر، الجوع يقبضها، تنظر إلى منضدة صغيرة من الحديد الصدئ وضع عليها إناء مغطى، نظرت إليه طويلاً، امتدت يد لتناولها إياه في وقت كانت فيه أيادٍ أخرى تساعدها على الجلوس، تمسك بكلتا يديها برأسها، الصداع يتزايد، والجوع لا يترك لها مساحة للتراجع، تستند بظهرها على الحائط الطيني، وتتناول الإناء، تشرب، يعيدها طعم الذرة إلى أمها والبيت، تنتفض، تتلفت تهم بالنزول من السرير أيادٍ تثبتها، تسمع رجاءات بمواصلة الشراب، تستلقي مجدداً وأيدٍ حانية تتلمس جبهتها ورقبتها، تفتح عينيها، الملابس البيضاء، سقف الغرفة من أعواد الشجر، والعيون المشفقة الحانية مركزة عليها، طعم الذرة الدافئ على لسانها، أمها وتوماس الصغير وأبوها، العمل هنا، العساكر الذين يلاحقونها، المشوار، التعب، قدميها المتورمتين، والأمل في الوصول، الصداع يتزايد، والحمى ترتفع تتململ، والأيدي تعيد وضع القطعة المبلولة على جبينها تشعر بالراحة أكثر، تعود إلى غيبوبتها وموجة الهذيان .
نقلا عن مجلة أنهار الأدبية