عاشت البشرية عبر عصور طويلة، حياة مختلفة من حيث النظام، ومن حيث تشكل النسيج الاجتماعي، حيث أن الشعوب تمايزت عبر حقب على أساس لوني وعرقي، شكل اختلافا كبيرا بين التجمعات البشرية وعرفت صراعات ومواجهات طيلة قرون فيما بينها فقط لأنها مختلفة، لكن في حالات عديدة استطاع البشر إيجاد أرضية سواء، يبنون عليها ما تيسر من ثقة، وينصهرون في مجتمعات منيعة وقوية للمضي قدما جنبا إلى جنب في تحاش واضح للصدام، ومن أجل أن يضمن كل طرف مصالحه ضمن المصلحة العامة، كل ذلك باعتبار أن تلك التجمعات صارت تتحول إلى كيانات وإمارات ودول، بعضها شهد امتزاجا بين ثقافات وأعراق مختلفة ليجمع بينها الاشتراك في الماضي والحاضر والمستقبل، والشعور بالانتماء لذلك الكيان أو الوطن.
وفي إسقاط مباشر على عصرنا اليوم فإن الدول كيانات ذات وحدة ترابية وسياسية، لها مقوماتها وأملاكها التي يحمونها بقوة القانون وبقوة الجيش، وتدخل ضمنها الحوزة الترابية، والعلم والنشيد الوطني، وهو ما يُحرص على تعليمه لأبناءهم منذ الصغر عليها، وإشباعهم قيم هذه المقومات الهامة التي تجعل منهم دولة مخالفة ذات خصوصية عن بقية البلدان، وتعتبر رموزا لها إذا مست فإنه يعتبر تهديدا لقيم تلك الدول ومقدساتها التي بنيت عليها، لذلك فإن كل ما يؤثر على احترام تلك الرموز يعتبر تطاولا على المبادئ والقيم التي تأسست عليها تلك الدول.
إن معظم البلدان المتقدمة لها سر كبير تحتضنه بين ذراعيها جعلها تسير إلى مراتب أمامية بين البلدان، وهو وضعها قيمة لكل ما يرمز للوطن، والرفع من درجته ليحظى بالهيبة والاحترام، لأن التقليل من شأنه يعتبر استنقاصا من قيمة الدولة أو الجمهورية أو ذلك الكيان المستقل المبني على جملة من القيم والمبادئ والذي لا يعتبر ملكا فقط للشعب الحالي وإنما هو وديعة من الأسلاف، وتركة للأجيال القادمة لا يمكن أن يفرط فيه أبدا، ولا تركه عرضة للتقليل من شأن صورته ولا مرتكزاته الجمهورية أو الوطنية الأصيلة.
إن حصيلة الأسباب والنتائج المتأتية بعد تشكيل تلك الدول - عبر عصور - تعتبر تراثا وطنيا، يتم إعلاؤه عاليا كرموز للجمهورية، أي أنه ما يعبر عن مفاهيم التشكل الأولى لتلك الدول، والبنود التي احترمها الجميع لتأسيس الدولة، وحقيقتها وملابساتها، ويدخل في ذلك العلم الوطني والنشيد الموحد، والحوزة الترابية، والأعراق المشكلة للمجتمع الموحد، أو الإمارات المشكلة للاتحاد، وغيرها كثير جدا، تختلف حسب اختلاف كل كيان عن الآخر.
إن أقرب مثال نعيشه في هذا السياق هو قانون الجمهورية الذي أجازته مؤخرا الجمعية الوطنية في فرنسا والذي يهدف إلى منع نشر الكراهية عبر الانترنت ومنع الإساءة إلى الموظفين، ورغم بعض الانتقادات التي قابلت القانون، إلا أنه حظي بتصويت نواب عن الشعب كانوا هم الغالبية وذلك لقدم فرنسا في ميدان الديمقراطية وأهمية حماية الأشخاص والثوابت الجمهورية التي أسست عليها، كما أنه يأتي ليعكس الوعي بأهمية التقنين، وضبط مجالات الحياة لحماية حرية المواطنين، التي تختلف عن حرية الإنسان المطلقة والتي لا تحدها أية ظروف، بيد أن التعايش الإنساني داخل كيان الدولة يجعل الجميع عرضة لانتهاك حريتهم بسبب تداخل الحريات المطلقة، وهو ما يأتي القانون من أجله لحماية حرية المواطنين، لتنتهي حرية كل فرد عند بداية حرية الآخر.
إن تعدد القوانين ومحاولتها تغطية كافة مناحي حياة المواطن/ الإنسان، أمر ضروري وإيجابي للغاية، فبدلا أن تترك الحبل على الغارب في السيل الجارف من الرسائل المسيئة، بفعل فوضى حرية التعبير المطلقة، والتي بإمكانها أن تنقلب عواقبها إلى الضد، يجب أن تصنف تلك الممارسات إلى محظورات مجرمة بقوة القانون، ليستظل بظلها ضحايا التشهير والفضح غير الأخلاقي، كذلك ليكون القانون حاميا بالنص للثوابت التي تجعل للدولة مقومات الاستقلال وروابط الوحدة الوطنية، والسيادة على كامل الرقعة الترابية، وذلك لإبعاد مطامع أعداء الوطن وكيد الكائدين وكل من تسول له نفسه التفكير في الإضرار بأي رمز من رموز الجمهورية التي نعيش فيها ونشعر بالانتماء إليها، ونرتاح فيها مواطنين معززين مكرمين، ننعم بالاستقلال التام، ولا غنى عنها ولا بديل.
ويشكل مشروع القانون الذي تم تقديمه للجمعية الوطنية الموريتانية هذه الأيام والمشهور بقانون "الرموز"، بالفعل القانون الممثل لإرادتنا كموريتانيين ننتمي لهذا الكيان، لهذه الجمهورية، لهذا الوطن الذي يجمعنا ونتمسك به، ونخاف عليه، وندافع عنه بالغالي والنفيس ضد أي خطر يتهدده، أو أي عدو يفكر بالإضرار بوحدته أو ضرب تماسكه وهدوءه، فكيف بفوضى عارمة، ودفق لا ينقطع من الرسائل المكتوبة والصوتية التي تموج في ردهات وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاته المختلفة، والتي تهدف إلى التقليل من صورة كيان الدولة، وصورة الجمهورية شيئا فشيئا، للتأثير على شعور الانتماء لدى المواطنين، ولبث الفتنة بين أعراق هذا المجتمع المتماسك بعرى الأخوة والوحدة الوطنية، والضرب في أساس التعايش الفريد من نوعه، لتوسيع الهوة بين الشرائح قصد قطع أواصر التكافل الاجتماعي وأخلاق المجتمع المسلم التي تحتم علينا التعاون، وتقدير الجار واحترامه.. إن هذا القانون هام جدا لإيقاف دعاة الفرقة والفتنة والشحناء، إنه بتناغم بشكل كبير مع مبدإ "درء المفسدة"، والذي حث عليه الإسلام الحنيف.
إن وجود هذا القانون (قانون الرموز) الذي يحمي الوطنية فينا ويحمي شعورنا بالانتماء لوطن عزيز وغال، لهو طود نجاة من انتكاسة الرفة التي نروم لوطننا، ومهدد صريح لمنعتها وهيبتة أجهزة الدولة، حيث أن الوطن وديعة لدينا من الأسلاف والأجداد، نحافظ عليه للأجيال القادمة أحسن مما كان، أكثر قوة ونماء وتماسكا، لا أن يكون أضعف أو أن يتشرذم ويُقسم لا قدر الله.
ويعتبر الشعب أحد أبرز مقومات الوطن ورموزه ولا يغتفر بأي حال من الأحوال التقليل من شأنه، أو الاستنقاص من قيمته، أو وصف تنوعه وتشكلاته وألوانه المختلفة بأوصاف لا تليق، كما أن خياراته وقراراته محترمة بقوة الدستور الموريتاني، ومن ذلك اختياره لمواطن يضع فيه ثقته لإدارة وتسيير البلاد، يرأس مؤسساتها وسلطتها التنفيذية، فهو محل ثقة الشعب ويأخذ حصانته من ذلك، كما أن الإساءة الشخصية له أثناء أداءه لمهامه هي إهانة للشعب الذي اختاره وأعطاه مأمورية من خمس سنوات كاملة، بعدها يمكن أن يطلع الشعب على ما أنجز.
إن أهمية الشعور الوطني لما يمثله من بقاء واستمرار الكيان الوطني، وتوريث القيم لأجيال المستقبل يجعلنا نحمي هذا الشعور، وتنمتيه وتعليمه للأجيال القادمة، والاستعداد لافتداء الوطن بدمائنا والتضحية بكل غال من أجل نماءه واستقلاله، حيث أن بدون وطن ننعم فيه بالحرية والاستقلال والكرامة، أحسن ألا ننعم بالحياة ولعل أحسن ترجمة لهذا المعنى ما أنشده ابن الرومي:
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ
وألا أرى غيري له الدهرَ مالكاً
عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً
كنعمةِ قومٍ أصبحُوا في ظلالِكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إِليهمُ
مآربُ قضاها الشبابُ هنالكا
إِذا ذَكَروا أوطانهم ذكرَّتهمُ
عهودَ الصِّبا فيها فَحنُّوا لذاكا
فقد ألفتهٌ النفسُ حتى كأنهُ
لها جسدٌ إِن بان غودرَ هالكا