لو كان ديفيد بن جوريون (1886- 1973) حيًا اليوم، لصُعق مرتين، مرة لأنه قال فى عام 1948: «الكبار سيموتون.. والصغار سينسون»، لكن وقائع حرب غزة الأخيرة كذّبت مقولته، ومرة أخرى لأن صحيفة إسرائيلية نافذة (هاآرتس) نشرت فى صفحتها الأولى، الأسبوع الماضى، صور 67 طفلًا فلسطينيًا قتلتهم إسرائيل خلال عدوانها على غزة، تحت عنوان: «هذا هو ثمن الحرب».
لا يبدو أن مقولة «بن جوريون» عن «موت الكبار ونسيان الصغار» تحققت بكل تأكيد، فمن خلال متابعة ما جرى على مدى أيام القتال الـ11 وما تلاها، تبين أن هؤلاء الصغار لم ينسوا أسس الصراع، ولم يغفلوا عن مساراته، ولم يُحجموا عن الانخراط فيه.
ولا يبدو أيضًا أن استراتيجيته الإعلامية- التى أراد من خلالها أن يُجيِّش وسائل الإعلام الإسرائيلية كلها لخدمة قرار الدولة وممارساتها ضد الفلسطينيين، فى مشهد تعبوى دائم- حظيت بنجاح.
لم يكن ما فعلته «هاآرتس»، عندما نشرت صور عشرات الأطفال الفلسطينيين الذين قضوا فى القصف الإسرائيلى على غزة، فى وقت سابق من هذا الشهر، العمل المعارض الوحيد للحرب ولأداء حكومة نتنياهو خلالها، لكنه كان أحد عناصر تغطية واسعة صبت فى مجملها فى تخطئة قرار العدوان وآلياته، واعتباره «تأجيجًا للنزاع»، ونوعًا من «الاقتتال العبثى»، و«إشاعة الكراهية».
كما لم تكن «هاآرتس» وحدها فى هذا الصدد، بل إن مواقف مشابهة أخرى ظهرت فى بعض وسائل الإعلام الرئيسية، وقد برز هذا بوضوح فى بعض التغطيات ومقالات الرأى فى صحف عدة، كما انعكس كذلك فى تعليقات حفلت بها بعض برامج المتابعات الإخبارية المسائية فى فضائيات رائجة، فضلًا بالطبع عن تغير واضح أمكن معاينته فى تفاعلات مستخدمى وسائط «التواصل الاجتماعى» من الإسرائيليين والمتعاطفين مع الدولة العبرية.
يشير أى تقييم دقيق لمواقف الإعلام الإسرائيلى، بشقيه «التقليدى» و«الجديد»، من الحرب الأخيرة ضد الفلسطينيين، إلى تغيير واضح يمكن قياسه، وهو تغيير ينقل الإعلام الإسرائيلى من خانة التعبئة والتحشيد التى أرادها مؤسِّسو الدولة العبرية إلى خانة أقل اتساقًا فى المواقف والآراء، بما يحمله هذا من إمكانية لنقد الحرب وسياسة الحكومة، وإظهار قدر من التعاطف مع ضحايا القصف من المدنيين الفلسطينيين.
لم يكن هذا هو شكل الإعلام الذى أراده «بن جوريون» وخلفاؤه من القادة الإسرائيليين، منذ أسس «هيئة رؤساء تحرير الصحف»، فى أعقاب إعلان الدولة، وهى الهيئة التى ألزمت السلطات من خلالها جميع رؤساء التحرير فى الصحف الإسرائيلية كافة بالامتثال لقراراتها.
تحدث «بن جوريون»، فى اجتماع تدشين الهيئة لرؤساء تحرير الصحف، ليعطيهم ما يمكن وصفه بالتوجيه الاستراتيجى لعملهم، فقال: «يجب علينا أن نزن أقوالنا، ولا نعطى العدو معلومات، ولا نزرع الفتنة والفوضى فى شعبنا».
ستستمر إسرائيل بعد ذلك فى الامتثال لتوجيه «بن جوريون» الاستراتيجى، وستسخر آلة الدعاية والإعلام من أجل الإعلام الحربى، حتى إن رئيس الوزراء اللاحق «شارون» سيضم إلى صلاحياته سلطة «الرقابة على أنظمة البث»، فى العام 2001. وستظل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعتبر أن الإعلام جزء أساسى فى معاركها ضد العرب وغيرهم من المناهضين لسياساتها، وستوفر كل الموارد والمعايير والأسس التنظيمية والقانونية اللازمة لكى تضمن الإعلام ظهيرًا ومؤيدًا على طول الخط.
لكن التغير حدث لأسباب عديدة، بعضها يتصل بالتنافس الداخلى على السلطة، وبعضها يختص بصعود لافت للحس النقدى إزاء الممارسات العنصرية البغيضة للاحتلال، وبتغير فى مسار المعالجة الإعلامية العالمية فى عصر «السوشيال ميديا». والشاهد أن المشهد الإعلامى الإسرائيلى يتغير فى مقاربة الصراع، وهو تغير يصب بالتأكيد فى مصلحة الفلسطينيين الآن ولاحقًا، ورغم أنه قد يخصم من رصيد الحكومة الإسرائيلية الحالية فى إدارتها للأزمة، فإنه ربما يفيد إسرائيل على المدى البعيد.
* نقلا عن "المصري اليوم"