للأسرى حكاياتهم، صار لهم أرشيف كبير من الكتب والروايات والدواوين الشعرية، والتي تُصنّف ضمن ما يُعرف بأدب السجون.
هم لا يحتاجون لكتابة الروايات ولا السّير الذاتية، فبطولتهم قبل الأسر، وصمودهم فيه، وإصرارهم على تحدي الجلاد تكفي لكي يبقوا أحياء في ذاكرة الأحرار، لكن الكلمات تبقى مهمة كذكرى لأجيال قادمة، سيكون من حقها أن تعرف تاريخ فلسطين وأبطالها الكبار.
خلال عقود عرفت شخصيا الكثير من تلك الحكايات، لا سيما أن بعضها لرجال عرفتهم عن قرب، كما هو حال البطل المغوار، وصاحب الحكم الثاني في تاريخ محاكم الاحتلال، وقائد كتائب القسام في الضفة الغربية (إبراهيم حامد)، والذي يقضي حكما بـ54 مؤبدا.
المفارقة أنني تعرّفت أيضا إلى صاحب الحكم الأول، والذي راسلني من سجنه. أعني الأسير البطل، والقائد القسامي (عبد الله البرغوثي)، والمحكوم بـ67 مؤبدا، إذ قرأت كتبه ورواياته، وصدرت رواية منها بمقدمة مني؛ في إحدى طبعاتها.
قائمة المبدعين طويلة، وهي لأسرى من كل الفصائل دون استثناء، لا سيما أن انتفاضة الأقصى (2000) تحديدا قد شهدت عودة ميمونة من قبل "فتح" للمقاومة، وسجل رجالها فيها بطولات كبيرة.
قائمة المبدعين طويلة، وهي لأسرى من كل الفصائل دون استثناء، لا سيما أن انتفاضة الأقصى (2000) تحديدا قد شهدت عودة ميمونة من قبل "فتح" للمقاومة، وسجل رجالها فيها بطولات كبيرة
نصل الآن إلى بطل هذه السطور، ونموذج آخر للبطولات التي تزهو بها فلسطين؛ من بحرها إلى نهرها.
مؤخرا؛ وصلتني هذه الرسالة أدناه من هذا البطل، وهو الأسير أسامة الأشقر:
الأخ العزيز ياسر الزعاترة: أحييك أطيب تحية؛ راجيا المولى عز وجل أن تصلك مشاعري وكلماتي وأنتَ بألف ألف خير وصحة وعافية، فمن أرض البرتقال والليمون ومن جبال فلسطين وربوعها التي تزداد جمالا كلما عطّرتها دماء الشهداء، ومن الأرض التي احتضنتنا بين ذراعيها واحتضنّاها بين رموشنا نطيّر لكَ ومن خلالكَ لكل العظماء في زمن التراجع والخذلان أطيب التحيات، فمن لم تكن القدس بمساجدها وكنائسها بوصلته، فهو تائه لا محالة، وأنت أخانا خير من يؤشر على الوجهة الصحيحة والمسار السليم والالتزام الحقيقي لقضية أرهقت من بقوا طوال الدهر صامتين وزادت من عزيمة المحاربين أصحابها ومن يقف من خلفهم. أخيرا لك عظيم التحيات من إخوانك الأسرى الفلسطينيين، وكل الأمنيات بمزيد من التألق والنجاح. عنهم الأسير أسامة الأشقر.
في شهر تشرين ثاني (نوفمبر) الماضي، أطلقت هيئة شؤون الأسرى والمحررين، كتابا بعنوان "للسجن مذاق آخر"، للأسير أسامة الأشقر.
الكتاب من فصلين؛ يتحدث الأول عن واقع الاعتقال وظروف الحياة التي يعيشها الأسرى في سجون الاحتلال، فيما يتحدث الثاني عن حروب الظل بين المقاومة وبين أجهزة الاحتلال التي تعمل على اختراق بنية المجتمع الفلسطيني بهدف دفعه لقبول واقع الاحتلال.
لأسامة حكايته؛ كما لكثيرين من أسرى انتفاضة الأقصى، التي تمثّل واحدة من أروع مراحل النضال في التاريخ الفلسطيني، والتي جاء "صغار" ركبوا ظهر الشعب الفلسطيني، وصنّفوها ضربا من العبث الذي أضاع ما يسمونه "منجزات" سلطة؛ إنما صُمّمت لخدمة الاحتلال. وحين تمرّدت، كانت عملية "السور الواقي" وحصار عرفات رحمه الله (2002)، ومن ثم التآمر عليه، والتمهيد لاغتياله، وليأت من بعده خلْف أضاعوا البوصلة، وأعادوا السلطة لمهمتها البائسة في خدمة الاحتلال.
في انتفاضة الأقصى، توحّد كل الشعب الفلسطيني، وكان مروان البرغوثي، القائد الفتحاوي، يتعاون مع عبد الله البرغوثي، القائد القسامي؛ ليس تبعا لصلة القرابة، بل بروحية التوحّد في ميدان المقاومة.
أسامة الأشقر هو أحد أبطال تلك المرحلة من "كتائب شهداء الأقصى" التابعة لحركة "فتح"، والذي حمل السلاح وخاض تجربة المقاومة ضد الاحتلال وهو شاب صغير.
طاردته قوى الاحتلال ضمن من طاردت، لمدة عامين، إلى أن ألقي القبض عليه في تشرين ثاني (نوفمبر) من العام 2002، وبالطبع بعد أن اجتاحت قوات الاحتلال مناطق (أ) التي كانت قد تركتها قبل ذلك؛ ضمن اتفاقات أوسلو.
بعد فصول من التعذيب والتحقيق دامت 3 أشهر؛ حُكم على أسامة بالسجن المؤبد 8 مرات و50 عاما، وهذا يعني أن الغزاة يحمّلونه مسؤولية قتل 8 من جنودهم ومستوطنيهم، بجانب جرح آخرين (كل قتيل بمؤبد، وفق قانون الصهاينة).
ليست هذه كل الحكاية، فقد دخل أسامة السجن شابا صغيرا (18 عاما)، ومن هناك بدأ مسيرة التعليم، فانصهرت تجربة المقاومة والأسر، مع تجربة القراءة والتعليم الجامعي، فكان كتابه الذي صدر ومقالات أخرى يهرّبها من داخل السجن.
وليست هذه كل الحكاية أيضا، فثمة وجه آخر، تمثّله الشابة منار خلاوي، والتي تعرّفت بنبض البطولة ولغة الروح، وما تيسر من تواصل بسيط، على البطل، وقبلت أن يُعقَد قِرانها عليه في ذات اليوم الذي تم الإعلان فيه عن صدور كتابه.
فأن ترتبط شابة بأسير محكوم بمؤبدات، فتلك ليست مغامرة عادية، بل هي بطولة استثنائية لها رمزيتها التي تحلّق في سماء فلسطين،
لأسامة بطولته التي تشهد عليها سنواته الطويلة في الأسر منذ 2002، ويشهد عليها حكمه الطويل، لكن لمنار بطولتها أيضا، فأن ترتبط شابة بأسير محكوم بمؤبدات، فتلك ليست مغامرة عادية، بل هي بطولة استثنائية لها رمزيتها التي تحلّق في سماء فلسطين، وفي سماء أمّة كانت النساء فيها شقائق الرجال في ميادين البطولة، بل كثيرا ما حملن أعباءً أكبر كأمهات وزوجات، ولولا روعتهن، لما كان لأولئك الرجال أن يكتبوا تلك الملاحم في ميادين الجهاد والنضال.
لأسامة ومنار حكاية تنضم لسلسلة بطولات ولا أروع؛ كُتبت في فلسطين وعنها في الطريق إلى التحرر من دنس الاحتلال.
قد يلتقي أسامة بمنار قريبا إذا شملته صفقة تبادل مع المقاومة في قطاع غزة، وقد لا يُقدَّر له ذلك، وتبقى منار بانتظار صفقة جديدة، أو وقائع لن يتوقف شعبنا عن مطاردتها وانتظارها، تتمثل في التحرير (تحرير الوطن وكل الأسرى)، لأن القضية لا تتعلق بأسير أو أسرى وحسب، بل بوطن مسلوب ينبغي أن يتحرّر، وشعب تم تشريد أكثره، ويجب أن يعود.
سلام على أسامة وكل أحبابه في زنازين الغزاة، وسلام على منار، وكل الحرائر؛ إن كنّ في الأسر، أو كنّ يقبضن على جمر الصبر في انتظار الأبطال.