تونس ليست صغيرة وليست صرة العالم

سبت, 03/27/2021 - 10:58

هناك محاذير وأوهام مؤكدة في علاقة بتونس كما تتموقع في العلاقات الدولية، وهناك مواقف ثابتة وأخرى متغيرة، وهناك مواقف ظاهرة وأخرى خفية. وهناك مستويات مختلفة لـ"تونس"، إذ توجد تونس كـ"خطر أمني"، وأخرى كـ"مصدر لهجرة غير نظامية"، وأخرى كـ"موقع طليعي في الديمقراطية" أو أيضا "منصة إخوانية"، كـ"قاطرة الربيع العربي" أو "قاطرة ربيع الخراب"، وأخرى كـ"دولة صغيرة معزولة"، وأخرى كـ"جارة"، وأخرى كـ"الأخت الصغرى". تعريف تونس ليس واحدا حتى بالنسبة للطرف الإقليمي أو الدولي الواحد.

لنبدأ بالمحاذير؛ أولها لا يجب التهوين من أهمية تونس في السياق الراهن، إنها دولة صغيرة ديمغرافيا واقتصاديا ولكن هذا لا يعني أنها كذلك سياسيا، بما هي الموطن الوحيد للمخبر الديمقراطي المنبوذ عربيا هيب الضرورة تتصدر وضعا ما في التوازنات السياسية. كما لا يجب في ذات الوقت أن نصدق من يريد أن يراها صرة العالم ومركز المؤامرات والسياسات، وأنه في مقر الخارجية الأمريكية في واشنطن يصبحون على تونس وينامون عليها. ولا تحصل مثلا حالة طوارئ في واشنطن إن هاجمت عبير موسى مثلا (وبطريقة قذافية مصطنعة) السياسة الأمريكية وأنه "طز في أمريكا". هو معطى يتم التعامل معه أساسا من قبل الممثلية الديبلوماسية الأمريكية في جهة البحيرة شمال العاصمة تونس.

وهنا لندخل بعض التفاصيل: كيف ترى واشنطن تونس؟ واشنطن الجديدة مع وزير خارجية "ليبرالي" التوجه يؤمن بشكل علني بنظرية التدخل من أجل الدمقرطة، وعبّر مرارا عن موقف داعم لمسار الانتقال الديمقراطي، الأمر سيكون سهلا. لكن واشنطن ليست فقط شخص وزير الخارجية، وليست حتى الرئيس بايدن، هي كتلة معقدة من الحسابات؛ بعضها طارئ يتغير بتغير الإدارات من "واقعية محضة" إلى ليبرالية"، ولكن أيضا بيروقراطية عميقة مستقرة تتعامل مع الدول الأخرى حسب إحداثيات رتيبة مستمرة. إذ يجب أن يفهم الساسة في تونس أنهم في واشنطن لا يفكرون فينا باستمرار، إذ يتركون كثيرا من من الشؤون التي نراها عظيمة لبعض البيروقراطيين الإداريين لترتيبها.
يجب أن يفهم الساسة في تونس أنهم في واشنطن لا يفكرون فينا باستمرار، إذ يتركون كثيرا من من الشؤون التي نراها عظيمة لبعض البيروقراطيين الإداريين لترتيبها

أحد الاسئلة الكبيرة التي ننتظر إجابة من واشنطن لها منتصف نيسان/ أبريل تتمثل في موقف صندوق النقد، وإمكانية تجديد اتفاقية صندوق النقد للاقتراض مع تونس. ليس فقط لأن واشنطن مقره، بل أيضا لأن أهم محددي سياساته وقراراته ممثلون للإدارة الامريكية، حتى قرار ضمان القروض الأمريكي سيكون رهين قرار مجلس إدارة صندوق النقد.

فرنسا الطرف الأكثر هيمنة تاريخيا والأقرب، خاصة بسبب الهيمنة التجارية والقرب الثقافي والتأثير العميق في مستوى النخب، ربما أكثر حديثا على تونس، لكن ليس كما نتخيل أيضا.. لا ينام ولا يصبح ساسة باريس على الوضع في تونس، العالم رحب حتى من الزاوية الفرانكفونية الضيقة، ربما ليبيا أكثر أهمية في النظرة الاستراتيجية الفرنسية من تونس رغم أنها ليست قريبة ثقافيا. من أكبر الأوهام أن بارس تدعم قيس سعيد، في حين أنها بالتشارك مع نخبة الأعمال المرتبطة بشكل كبير (الأوتيكا ومنظمة الأعراف)، تدافع فعليا وبقوة عن المشيشي، حتى الآن على الاقل.

لا تريد فرنسا تونس غير مستقرة، لكنها مثل واشنطن لا ترتاح لرئيس "غير متوقع"، وخاصة عندما يعلن على غير العادة وبما "لا يتناسب مع موازين القوى"، كما يقولون، موقفا جذريا من قضية رئيسة "متوسطية"، أي موضوع التطبيع مع إسرائيل. ربما يفهمون الموقف الجزائري ولكنهم يمارسون ضغطا رهيبا عليه، بينما يبدو موقف الرئيس "غريبا"، والأرجح "يستحق العقاب". أيضا فرنسا طرف رئيسي في صندوق النقد. وباريس وواشنطن لن تتوانيا البتة عندما يتعلق الأمر بتوظيف ورقة الاستدانة في السياق السياسي.
تريد فرنسا تونس غير مستقرة، لكنها مثل واشنطن لا ترتاح لرئيس "غير متوقع"، وخاصة عندما يعلن على غير العادة وبما "لا يتناسب مع موازين القوى"

الجزائر، الجارة الإقليمية و"الأخت الكبرى" بحكم موازين القوى ولا يمكن إلا تهتم بتونس، لا تزال تعبر مجالا سياسيا داخليا مضطربا وعملية لإعادة توزيع أوراق السلطة، ورئيس يريد ملأ مكانه كاملا رغم المرض. ورغم ذلك ولأنها مهمومة بحدها الغربي واحتمالات تطور الصراع مع الرباط، فهي لا تريد "وجع رأس" من الحد الشرقي. لا يمكن ألا ترى في الاستقرار السياسي والحد من مخاطر الإرهاب في تونس مصلحة استراتيجية. تونس التي تستهلك كثيرا من الغاز الجزائري هي بالمعنى اللوجيستي في التركيبة الجزائرية، والانخراط الجزائري في المعادلة التونسية كان واضحا سنة 2014، وبعض "التوافق" حدث فعليا عبر الجزائر، ولو أن اللقاء الشهير كان في باريس.

قوى الخليج المتنافرة في السابق ليست بذات التنافر في الحاضر، لم يعد بالضرورة أحد مصادر التنافر الاتفاق أو الاختلاف حول دور الإسلام السياسي في تونس. أصبحت مصلحة رأب الصدع الخليجي أهم من حسم هذه المسألة في هذا الاتجاه أو ذاك، وهذا لا يعني ضرورة أن الرابح من المصالحة الخليجية التي بصدد التجسم والتوسع هي حركة النهضة مثلا.
تركيا أيضا معنية بهذه الحسابات. مبدئيا العلاقة قوية بالنهضة، لكن العقل التركي تحركه المصالح وليس المبادئ، ومثلما قرر عقد صفقة مع مصر السيسي فهو غير معني كثيرا بدعم طرف دون آخر مثلما حصل في ليبيا

تركيا أيضا معنية بهذه الحسابات. مبدئيا العلاقة قوية بالنهضة، لكن العقل التركي تحركه المصالح وليس المبادئ، ومثلما قرر عقد صفقة مع مصر السيسي فهو غير معني كثيرا بدعم طرف دون آخر مثلما حصل في ليبيا، هذا إذا سلمنا بأن هناك تطابقا كاملا في مستوى القرار التركي بين مختلف مراكز القوى من مخابرات ودفاع وخارجية وشبكة رجال أعمال. ربما جزء مهم مما سيكون عليه الموقف التركي في تونس سيكون متأثرا جدا بالتطورات في ليبيا.

ليست صغيرة، لكن أيضا ليست صرة العالم. لا يمكن للساسة في تونس النظر للشأن الداخلي دون احتساب تعقيدات وجهات النظر المتباينة والمعقدة لأطراف الإقليم والأطراف الدولية.

الفيديو

تابعونا على الفيس