خسر الوطن العربي مؤخرا شخصية قومية وعروبية مميّزة، هو الدكتور خير الدين حسيب. وهو من مواليد الموصل في العراق ولكنه أقام نصف عمره في لبنان، وقضى قسما كبيرا من حياته متنقلا بين العواصم والمدن العربية من أجل إطلاق المشروع النهضوي العربي، وتطوير وتجديد العمل القومي بعد الانتكاسات المتتالية للأحزاب القومية العربية ومشاريعها المختلفة.
حسب العارفين بشخصية خير الدين حسيب، فإنه كان متأثرا في بداية حياته بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وقد تولى عدة مناصب مهمة في المؤسسات العراقية ومنها محافظ البنك المركزي. وبعد انقلاب حزب البعث عام 1968 تم وضعه في السجن بسبب الخلاف الناصري- البعثي، وبعد خروجه من السجن تولى التدريس في جامعة بغداد، لكن لم يطل به المقام في العراق بسبب المضايقات التي تعرض لها من النظام البعثي الحاكم آنذاك، فانتقل إلى بيروت ليطلق منها سلسلة مؤسسات قومية وعربية مهمة.
ومن أهم المؤسسات التي ساهم أو شارك بتأسيسها خلال الخمسين سنة الماضية انطلاقا من بيروت وعواصم عربية أخرى: "مركز دراسات الوحدة العربية" و"مجلة المستقبل العربي"، و"المنظمة العربية للترجمة"، و"المنظمة العربية لمكافحة الفساد"، و"مخيّم الشباب العربي". ولم يبخل في دعم منظمات عربية عديدة تُمثّل العمل العربي الوحدوي المشترك عبر المؤسسة الثقافية والصندوق العربي، وهذه كلّها من بنات أفكار خير الدين حسيب. كما دعم تأسيس منظمات عديدة مثل "الجمعية العربية للعلوم السياسية" و"الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية" و"الجمعية العربية لعلم الاجتماع".
وكان من المشاريع المهمة التي أطلقها أو ساهم في تأسيسها بالتعاون مع شخصيات عربية وإسلامية متنوعة: المؤتمر القومي العربي، ومشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، والمشروع النهضوي العربي، والحوار القومي- الديني، والمؤتمر القومي- الإسلامي، ومؤسسة القدس، والحوار العربي- الإيراني، والحوار العربي- التركي، وجائزة الرئيس جمال عبد الناصر.
وكان للدكتور خير الديب حسيب، عبر مركز دراسات الوحدة ولاحقا المؤتمر القومي العربي، الفضل في إجراء مراجعة نقدية للعلاقة بين التيار القومي والتيار الديني والإسلامي في الوطن العربي، وإنهاء قطيعة استمرت عشرات السنين بين القوميين والإسلاميين، كما تبنى ودعم خيار المقاومة في مواجهة الاحتلال الصهيوني في لبنان وفلسطين، والاحتلال الأمريكي للعراق، وساهم في إطلاق العديد من المشاريع الفكرية والنهضوية، ودعم العديد من المفكرين والباحثين الشباب من خلال تبني إصدار كتبهم وإصداراتهم المتنوعة.
وقد يكون لدى الكثيرين من الذين عملوا أو تعاونوا مع الدكتور حسيب ملاحظات شخصية أو إدارية أو تنظيمية على أدائه، خصوصا اتسامه بالإدارة المركزية ومتابعة كل التفاصيل العملية، ودفاعه الشديد عن آرائه ومواقفه وأحيانا توجيه النقد القاسي للآخرين، لكنه كان حريصا على العلاقة الشخصية الإيجابية مع الذين ينتقدونه أو يختلفون معه.
يحسب للدكتور حسيب أنه نجح في تطوير العمل القومي العربي والمشروع القومي العربي بعد تعرضه لانتكاسات كبيرة أدت إلى تراجع شعبيته، وفشل معظم التجارب التي خاضها في الدول العربية
وقد تميّز نشاط مركز دراسات الوحدة العربية بإطلاق مئات الكتب والموسوعات والدراسات، إلى جانب المؤتمرات والندوات العلمية والفكرية، وقد أصبح المركز مدرسة قائمة بذاتها في عالم المؤتمرات والنشر والتوزيع، وإطلاق الأفكار والمشاريع وتطوير العمل القومي العربي.
ويحسب للدكتور حسيب أنه نجح في تطوير العمل القومي العربي والمشروع القومي العربي بعد تعرضه لانتكاسات كبيرة أدت إلى تراجع شعبيته، وفشل معظم التجارب التي خاضها في الدول العربية، ومن ثم تابع صعود تجربة الحركات الإسلامية وتطورها، وصولا إلى توليها الحكم في بعض الدول العربية والانتكاسات التي واجهتها.
وكان حريصا على تقديم الأفكار الجديدة، ورغم تقاعده عن العمل الإدراي والتنظيمي من مركز دراسات الوحدة العربية قبل حوالي أربع سنوات، فقد استمر بمواكبة العمل القومي العربي والحوار مع القيادات الإسلامية، والبحث عن سبل متعددة لاستكمال المشروع النهضوي العربي القائم على الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان والاستقلال.
وأهمية خير الدين حسيب أن معظم المؤسسات أو المشاريع التي ساهم بتأسيسها أو إطلاقها، وأهمها المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومركز دراسات الوحدة العربية، لا تزال مستمرة وتقوم بدورها بفعالية رغم الظروف السياسية والمالية الصعبة.
وتشير المديرة العامة الحالية لمركز دراسات الوحدة العربية، الأستاذة لونا أبو سويرح، إلى أن المركز مستمر في عمله المؤسساتي عبر إصدار مجلة المستقبل وعشرات الكتب والدراسات وعقد المؤتمرات والندوات الحوارية، وهو يركز عمله اليوم على الهوية العربية والتحديات التي تواجهها اليوم وفي المستقبل، والعقد الاجتماعي الجديد في الوطن العربي والذي يتجاوز أزمات التنمية وؤسس للحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية، وواقع اللغة العربية والتحديات التي تواجهها.
وتؤكد أبو سويرح: في السنوات الأخيرة اتسم الوضع في الوطن العربي بالسيولة العالية وباتساع غير مسبوق في جريان الأحداث، سواء على الصعد المحلية أو العلاقات العربية مع دول الجوار الطبيعي، أو المتغيرات في الصراع العربي- الصهيوني، لذا يتوجب على مركز دراسات الوحدة العربية أن يقوم بدوره المنشود في التفاعل مع الأحداث وعدم الاكتفاء بمراقبتها، وأن يعود لدوره الذي تأسس من أجله كمركز فكر وتوجيه والعمل بصورة شفافة وأكثر فعالية للوصول إلى صناع القرار، من خلال التفاعل المستمر والجدي مع الواقع المعاش على جميع الصعد؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
المهم اليوم هو كيفية مقاربة الواقع العربي في ظل التحديات المختلفة، وفشل الدولة الوطنية والأحزاب العربية والإسلامية والتراجع الكبير لدور التيار القومي العربي، وفي ظل تحديات كبيرة سياسية وفكرية وميدانية واستراتيجية، وبروز تيار رسمي جديد يعمل للتطبيع
برحيل الدكتور خير الدين حسيب في الثاني عشر من آذار/ مارس الحالي يفقد العمل القومي العربي شخصية مميّزة وفذّة؛ تركت إرثا مهما من المؤسسات والمشاريع والأفكار، لكن المهم اليوم هو كيفية مقاربة الواقع العربي في ظل التحديات المختلفة، وفشل الدولة الوطنية والأحزاب العربية والإسلامية والتراجع الكبير لدور التيار القومي العربي، وفي ظل تحديات كبيرة سياسية وفكرية وميدانية واستراتيجية، وبروز تيار رسمي جديد يعمل للتطبيع مع العدو الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية، وإعادة تصعيد الصراع مع إيران أو تركيا تحت عناوين مختلفة.
والسؤال الأهم: من يمكن أن يحمل المشعل العربي لتجديد المشروع العربي الفكري والسياسي، وكي يستطيع الوطن العربي أن يقدّم مشروعه التحرري والاستقلالي بموازة المشاريع الأخرى في المنطقة، ولا سيما المشروع التركي والإيراني، ولمواجهة المشروع الصهيوني والأمريكي، وللتصدي لكل عمليات التفتيت المناطقية والمذهبية والجغرافية؟
نحن أمام تحديات عديدة ونحتاج لمراجعة شاملة لكل المشروع العربي، سواء من قبل التيار القومي أو الإسلامي أو الليبرالي، والمطلوب اليوم تفعيل وتطوير المؤسسات القائمة كي تقوم بدورها الفاعل في هذه المرحلة الصعبة.