ماتت نوال السعداوي. وكأيّ شخصية مثيرة للجدل، تقع في منطقة استقطاب حادّ بين تيارات أيديولوجية متباينة، وفي لحظة تتسم باليأس والتوتّر، من بعد الهزيمة الظاهرة للثورات العربية.. لا بدّ وأن تحظى وفاة هذه الشخصية بقدر من التجاذب، من جوانب متوقّعة ومفهومة، وأخرى غير ذات معنى، وهي مشاهدة، يمكن منها الخلوص إلى بعض النقاط، وذلك بغض النظر عن الشخص الذي صار موضوع ذلك التجاذب.
في ما هو متوقع، أن يتهم الطرف المتبني للراحلة خصومها بأنّهم لم يقرؤوا لها شيئا، وهو اتهام لا يخلو من المغالطات، ويذكّرني ببعض صناع السينما حينما كانوا يدافعون عن أفلام بعينها، إزاء هجمة تتعرّض لها، بأنّ المهاجمين لم يشاهدوا الفيلم، في حين أنّه إذا تأكّد لهم أنّ المهاجم قد شاهد الفيلم بالفعل، ينتقلون لتعييره بأنّه يقول ما لا يفعل، بمشاهدته ما لا يرتضيه.. الاتهام ونقيضه، والحالة هذه، لا يزيد على كونه مكايدة رخيصة، وهذا ما يبدو في كثير من أوجه السجال حول نوال السعداوي.
كأيّ شخصية مثيرة للجدل، تقع في منطقة استقطاب حادّ بين تيارات أيديولوجية متباينة، وفي لحظة تتسم باليأس والتوتّر، من بعد الهزيمة الظاهرة للثورات العربية.. لا بدّ وأن تحظى وفاة هذه الشخصية بقدر من التجاذب، من جوانب متوقّعة ومفهومة، وأخرى غير ذات معنى
والاتهام بعدم القراءة يذكّرني بنقاش، شهدته بعد وفاة محمد شحرور على صفحة أحد الأصدقاء على موقع فيسبوك، مع سيدتين كانتا، وللمفارقة، تنحدران من جذور فكرية إسلامية، تهاجمان منتقدي الرجل، إحداهما كانت شديدة الادعاء بأنّ شحرور غيّر فيها كثيرا، والأخرى تنعى على الإسلاميين مسارعتهم إلى نقد المختلف (وكأنّ المختلف لا يقيم مشروعه على تحطيمهم!)، فلما تدخّلت في النقاش، ووثقت شيئا من أقوال الرجل، فرّت الأولى، وأقرّت الثانية بأنّها لم تقرأ له شيئا، بل لم تسمع ولم تشاهد له شيئا، وبهذا يتبيّن أنّ الأمر في قضايا كهذه، سريعا ما يتحوّل إلى اصطفافات، وتفريغ أزمات نفسية؛ يندرج فيها الاتهام بعدم القراءة. فحتى بعض الذين يتبنون الشخصية الراحلة، يظهر أيضا أنهم لم يقرؤوا لها، بل لا يعرفون بعض مواقفها المهمّة المعلنة، وهذا حاصل في حالة نوال السعداوي.
الاتهام بعدم القراءة، ممن لم يقرأ، أمر يفيض بالدلالة، ولكن فلنتجاوز عنه إلى ما هو أكثر جوهرية؛ بالتأكيد على أنه لا يلزم أيّ أحد أن يقرأ المنتج الفكري، لأيّ أحد، لكي يأخذ موقفا من المقولات الأساسية، التي باتت معلومة الضرورة في نسبتها لصاحب ذلك المنتج، وإنما يعيب المرء أنه لم يقرأ؛ في حال كان باحثا وقصّر في الإحاطة بتراث الشخصية المبحوثة، أو في حال زعم أنه قرأ وهو لم يفعل، أو في حال نسب قولا لأحد ولم يتثبّت من صحة نسبته له، وما سوى ذلك، فلا يلزمنا لاتخاذ موقف، من مقولات ثابتة النسبة، أن نقرأ منتج صاحبها ولا بعضه.
العالم يضجّ بالمقولات، والأفكار، والأديان، والمذاهب، والاتجاهات، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه قرأ كلّ ما ضجّ به هذا العالم حتى بلغ درجة من الاطمئنان إلى ما يعتنقه. وزعم كهذا عَتَه خالص، والسعي لأن يطلع المرء على كل ما قيل هو جنون محض. فثمّة مقولات أساسية، يكفي نقضها ببداهة العقل لإثبات تهافتها والإعراض عنها، وثمة مقولات أساسية في منظومة ما، دينية أو فكرية، قوية لدرجة أنّ بعض ما يشكل لا يمكن أن يُنقض به الأساس القوي، وثمة مقولات يكفي مجرد ثبوت نسبها لأخذ موقف منها. فحتى الملحد العتيّ الذي في الذروة من الادعاء، لا يمكنه الزعم بأنّه قد قرأ كلّ تراث الأديان والمتدينين، وكلّ ما كتب في إثبات وجود الله، وكلّ ما قيل في مناقشة دواعي الإلحاد الفلسفية والعلمية والنفسية، وما سوى ذلك، حتى بات واثقا من صحة موقفه، هذا بالرغم من أنّ الإلحاد موقف عدميّ، قد يستدعي من صاحبه، إن كان متجرّدا للحقّ، مزيد بحث وتساؤل.
إنّ مطالبة نقّاد نوال السعداوي بقراءة كلّ ما كتبت؛ تشغيب لا معنى له، ما دام نقادها لا ينسبون لها شيئا لم تقله. كما أنّ الظهور التلفزيوني جزء من الأداء الفكري والثقافي للشخصية، فمن قال شيئا في التلفزيون يتحمّل المسؤولية عن قوله، فكيف إذا تبين في النقاشات أن بعض حماة حمى السيدة سعداوي أنفسهم، كانوا يجهلون حقيقة مواقفها السياسية، المنحازة للسيسي ومذبحته ضدّ خصومه، وهو أمر ستندرج فيه بالضرورة ممارسات أجهزة السيسي المنتهكة للمرأة، بل إنّ سعداوي نفسها، في بعض مناظراتها التلفزيونية كانت تبدو كمن لم يطلع على ما تنتقده، ثم لا يستحي المدافعون عنها من اتهام خصومهم بعد القراءة!
انحيازها الجارف لنظام السيسي، ودفاعها عن ممارساته، والتي بعضها تضمّنت انتهاكا مريعا لحقوق المرأة، تعني أن مشكلتها مع الصورة لا مع الحقيقة. فما دام نظام السيسي لا يسمّي نفسه نظاما إسلاميّا، بل يسحق الذين يسمّون أنفسهم إسلاميين، فلا مشكلة لديها مع السيسي، مهما اقترف
يسوقنا ذلك إلى دوافع سعداوي نفسها، في تبنيها لعدد من القضايا، مثّلت جوهر نشاطها وطرحها. فانحيازها الجارف لنظام السيسي، ودفاعها عن ممارساته، والتي بعضها تضمّنت انتهاكا مريعا لحقوق المرأة، تعني أن مشكلتها مع الصورة لا مع الحقيقة. فما دام نظام السيسي لا يسمّي نفسه نظاما إسلاميّا، بل يسحق الذين يسمّون أنفسهم إسلاميين، فلا مشكلة لديها مع السيسي، مهما اقترف مما يفترض أنه يتعارض مع مبادئها. والأمر نفسه كذلك مع بعض من تصدّر للسجال دفاعا عنها بعد موتها، فهو منحاز لها لمجرد أنه تسامع بأنها عارضت الأديان ونادت بحقوق المرأة، ثمّ هو لا شأن له بما هو خلف ذلك، وذلك لأنّ الأمر لا يزيد، كما قلنا، عن كونه مكايدات وعقدا نفسية!
من التناقضات في هذا الإطار؛ أيقنة سعداوي وإحطاتها بالحمى، فتصير أي معالجة لأفكارها بعد موتها إساءة لها وإهدارا لرمزيتها، في حين أن مشروعها كان المسّ بأقدس ما يستقرّ في وجدان مئات الملايين من الناس، لنكون أمام مفارقة عجيبة، تؤلّه فيها سعداوي، ويؤنسن فيها الله تعالى! وما لا يقلّ عن ذلك طرافة، أنّها لو كانت صاحبة منتج فكري، فالطبيعي أنه لا يبقى بعد موت الإنسان إلا أفكاره، والأفكار في هذه الحالة محلّ اختلاف، والناس في مواقع التواصل ليسوا في حلقات أكاديمية، وإنما يعبّر كلّ عن مواقفه إزاء تلك الأفكار بلغته وأسلوبه، هذا وليست كلّ فكّرة تستحقّ التعامل معها بجدّية، فبعض الأفكار تافهة إلى درجة تكفي أن يقال عنها تافهة!