انقلاب العاشر من يوليو سنة 1978 (ح3) / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

ثلاثاء, 07/21/2015 - 14:36

ب. من يحكم دولة الانقلاب الدائم على الشعب؟

من يحكم دولة الانقلاب الدائم على الشعب؟ سؤال كان حريا بنا طرحه منذ أمد بعيد، وتقديم إجابة صحيحة عليه، حتى نكون على بينة وهدى من أمرنا؛ إذ بدون ذلك سيستمر تيهنا إلى أبد الآبدين. وسنبقى عاجزين عن تحديد الاتجاه الصحيح، وتمييز الصديق من العدو كما هي حال بعض محترفي السياسة في بلادنا.

ولعل بداية الخيط الذي من شأنـه أن يوصلنا إلى كنـه هذه المعضلة هي الرجوع إلى الوراء قليلا، وإلقاء نظرة فاحصة على حقيقة ما جرى منذ عاشر يوليو 1978 فمنـه كانت البداية.
فمن يستقرئ الأحداث بترو وعمق سيستنتج بسهولة أن ما جرى في 10 من يوليو 1978 لم يكن - في واقع الأمر- انقلابا عسكريا بالمعنى التقليدي؛ أيْ عملا عسكريا يطوي النظام المدني القائم بحسناتـه وسيئاتـه، ويقيم مكانـه نظاما عسكريا يحكم فيه الجيش، مثل ما جرى في بعض البلدان العربية كمصر الضباط الأحرار، وجزائر بومدين وليبيا الفاتح.. بل كان - في جوهره- انقلابا "مدنيا" قام بـه، ضد مكاسب وخيارات وقيم الشعب الموريتاني، يمين الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال الداخلي؛ مستغلا الدعم الخارجي القوي ومناخ الحرب، ومستخدما عناصر على شاكلتـه وموالية له في الجيش، وأخرى ضالعة في الفضائح المالية التي ظهرت خلال الحرب، وكان التستر عليها من بين دوافع الانقلاب.
ويوما بعد يوم عزز ذلك الحلف سيطرتـه على الحكم كما أسلفنا، وصفّى من لم ينسجم معه من حلفاء الطريق، من ممثلي الفئات الوسطى، الذين رافقوه أثناء سلسلة الانقلابات والتحالفات المتتالية، ليكرّس - في النـهاية - بسط سيطرتـه التامة على الجيش والدولة والثروة في ظل عهد 12 /12/ 84، وأثناء فترتـه "الديمقراطية" بالذات، حين "شبت عن الطوق" والردع، جماعات الضغط "المافيوية" القادمة من رحم ذلك الحلف والراكضة خلف الغنى الفاحش السريع، والترف، على حساب المجتمع والدولة والقانون والقيم، وهيمنت على قيادة ومفاصل النظام، متجاوزة وملغية دور الزعامات التقليدية المنتجة نسبيا.
إنـهم هم الذين أسسوا الفساد نظاما للحكم، وقوضوا مفهوم الدولة، وفككوا مؤسساتـها، وقضوا على النظام والانضباط فيها وجعلوها "گَبلة": "خذ خيرها ولا تجعلها وطنا" واتخذوا القبيلة والجهة والعرق "أساس الملك" واستباحوا المال العام، ونـهبوا ثروات الوطن.
وهم الذين تآمروا على المؤسسة العسكرية فأفرغوها من أغلب عناصرها القيادية بواسطة الإعدامات والتصفيات، وقضوا على روحها القتالية والانضباطية، وانتـهكوا سلم الترقية فيها، وجوعوها، ومزقوها إربا، إربا.. حتى يتسنى لهم تطويعها والسيطرة عليها، وجعلها أداة لتحقيق مآربـهم، وحماية مصالحهم؛ وحتى تطمئن الجهات الأجنبية التي كان يؤرقها خطر تنامي قوة الجيش الموريتاني!
ولمن لا يستوعب مدى ما آل إليه وضع المؤسسة العسكرية من هوان في ظل نظام الانقلاب الدائم على الشعب، أن يعود إلى ما قبيل 12 /12/ 84 حين كانت قيادة المؤسسة العسكرية كلها عمليا في أيدي ثلاثة ضباط صغار تمت السيطرة على مقاليد الحكم في ذلك اليوم حين تمت السيطرة عليهم نـهارا جهارا، وبمنتـهى السرعة والسهولة؛ وأن يراجع أيضا إفادة النقيب عبد الرحمن ولد ميني أمام المحكمة الجنائية بوادي الناقة.. إذ لم يتغير وضع المؤسسة العسكرية في عهد 12/12 عن سابقه في عهد الرئيس هيدالة إلا إلى الأسوأ!..
وهم الذين فَلّسوا البنوك وشركات الدولة واستحوذوا عليها مجانا بلا ثمن، واجتاحوا الزراعة والتنمية الريفية، ووضعوا ثروات باطن الأرض وجوف البحار في المزاد العلني بثمن بخس دراهم معدودة يودع جلها في حسابات خارجية.
وهم الذين عمموا الرشوة، وبدلوا القيم، وأفسدوا الإدارة، ووأدوا التعليم والصحة والثقافة والفكر.. الخ؛ وتركوا الإنسان الموريتاني يواجه مصيره أعزل من كل شيء في عالمهم الهمجي الذي لا يرحم.
وهم الذين أدمنوا الانقلاب على إرادة المواطن منذ رئاسيات 1992، فاشتروا الذمم، وبدلوا اللوائح، وعندما هزموا أنزلوا الدبابات إلى الشوارع، وقمعوا الاحتجاجات، وحلوا الأحزاب، وأوقفوا الصحف، ومنعوا التجمهر.. إمعانا في اغتصاب السلطة والمال، والعبث بمقدرات البلاد دون وازع أو رادع.
وهم الذين وقفوا بالمرصاد، خلال المرحلة الانتقالية، لجميع محاولات التصحيح والإصلاح، فوظفوا المال الحرام في شراء الذمم والمناصب، وجاؤوا بمرشحين صوريين إلى الحلبة، وأبرموا التحالفات، ومولوا الحملات الانتخابية قطعة قطعة، وحجرا حجرا، ورفضوا قيام حكومة وحدة وطنية لمواجهة ما بعد الفترة الانتقالية؛ ثم ما لبثوا أن استحوذت طائفة منـهم على "رئيسهم" ليخلو لها وجهه دون غيرها، ولتستعيد - عن طريقه - ما ضاع من جبروتـها، وتصفي بواسطتـه ما تولد عن فترة الغرر الانتقالية من حسابات! فأوت طوائف أخرى إلى الجيش تحتمي بـه، وتحتكم إليه، وتسعى إلى الاستحواذ عليه من جديد!
ومن عجيب أمرهم أنـهم يؤازرون سيدي ولد الشيخ عبد الله ويعمرون محراب التسبيح بحمد شرعيتـه، ويشدون عضد الجنرال محمد ولد عبد العزيز خاشعين لجبروت سلطتـه، ويتبتلون مع أحمد ولد داداه في صومعة معارضتـه، ويهيمنون على معظم الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والصحافة والمخابرات! يقولون ملء أفواههم: "لا للجنرال الأرعن". ويصفقون بأيديهم و"أرجلهم" لـ"الرئيس القائد الملهم"! مع فرض العقوبات الدولية على "بلادهم" وضد فرض العقوبات الدولية على "بلادهم"! مع العلاقات القائمة الضرورية مع إسرائيل، وضد العلاقات الآثمة المهينة مع إسرائيل! وهم الرابحون في جميع الحالات، والمستفيدون من كل السياسات والصفقات! تحسبـهم جميعا وقلوبـهم ومصالحهم شتى! ومع ذلك، فلديهم هدف مقدس جامع واحد لا يحيدون عنـه جميعا؛ ألا وهو: أن يبقى الإنسان في هذا البلد مهدورا ومقهورا، وأن يظل شمل السلطة والمال ملتئما في الأيدي التي اجتمع فيها قسرا يوم أطيح بالنظام الوطني الذي كان يمنع ويدفع ويردع الجمع بين الأختين (السلطة والمال)! وهم على أتم الاستعداد لدفع أي ثمن - مهما كان باهظا- في سبيل ذلك الهدف المقدس!
...منـهم المسلمون، ومنـهم القاسطون، ومنـهم دون ذلك: موريتانيا الأعماق، وموريتانيا النفاق، وموريتانيا الشقاق، وموريتانيا الارتزاق، وموريتانيا الأعراق!
كم تساءلنا بسذاجة المواطن البريء العاني: متى ينتـهي النظام العسكري الجاثم على هوانا منذ نحو ثلاثة عقود لا يتبدل ولا يزول؟ بيد أن السؤال الجوهري الملح الذي يطرحه استقراء الوقائع الاجتماعية وقراءة تاريخنا الحديث هو: متى ينتـهي انقلاب المترفين المفسدين الدائم على الشعب الموريتاني؛ بالجيش أحيانا وبالحيل "الديمقراطية" أحيانا أخرى، ومتى يرفعون أيديهم عن الجيش والوطن، ومتى يتم الفصل - من جديد- بين الأختين: السلطة والمال؟

الفيديو

تابعونا على الفيس