يوم فاتح آذار (مارس) الجاري، أعلن وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان المغربي عن تراجعه عن تقديم استقالته التي لم يكن قد مر عليها إلا أيام. مصطفى الرميد كان قد أرجع أسباب استقالته إلى "حالته الصحية وعدم قدرته على الاستمرار في تحمل أعباء المسؤوليات المنوطة به"، وهي أسباب حاول الكثيرون القفز عليها وربطها بتصدعات في الحكومة وحزب العدالة والتنمية بخصوص التجاوزات المسجلة في تدبير ملف حقوق الإنسان أو الخلاف بخصوص ملف "التطبيع" مع الكيان الصهيوني وزيارة قيل إنها قريبة لوفد حكومي إلى الأراضي الفلسطينية المستعمرة.
لكن "أحلام" المشككين تبخرت بمجرد اتصال هاتفي من ملك البلاد وصفه مصطفي الرميد بكونه حمل "كلمات أبوية تفوح بالحنان، وعبارات تشجيعية تتقاطر بندى المواساة، فكانت علاجا كافيا، وبلسما شافيا"، فما كان من الوزير غير "واجب الطاعة وسرعة الاستجابة"، فأعباء المسؤوليات لم تعد بذات الحمل الثقيل. هي قصة تلخص حال الطبقة السياسية بالمغرب ولا يمكن أن تصدر إلا عن "دماغ متكيفة" كما يقول إخواننا المشرقيون.
وجهان لعملة واحدة
ليس المرء بحاجة إلى مخدر ليصاب بحالة تخدير تبطل حاسة المنطق لديه بل للمنصب ولكراسي المسؤولية مفعول أشد وأقوى. وما تلازم نقاش مشروعي قانونين، يبدوان في ظاهرهما بلا رابط موضوعي، لكنهما في الواقع مجرد وجهان لعملة واحدة ابتليت بها "النخبة السياسية" المغربية ومعها المجتمع وفق منطق "الكيف السياسي" إلا دليلا لم لا يحتاج إلى دليل. فالارتباط المرضي بالمنصب حالة لا جدال فيها، ومساهمة المال الحرام، بما فيه المتحصل من تجارة الممنوعات، في تحديد الخرائط السياسية حقيقة قد نختلف في حجمها لكننا لن نستطيع نفي وجودها وتأثيرها.
وجد حزب العدالة والتنمية، قائد الائتلاف الحكومي، نفسه معزولا عن بقية الطبقة السياسية الممثلة في البرلمان كما الغائبة عن كراسي التمثيلية الشعبية، وهو يواجه مسارا محسوما لإقرار قانون انتخابي جديد يعتمد قاسما انتخابيا على أساس المسجلين في اللوائح لا المشاركين في التصويت. القاسم الجديد يجعل من المقاطعين للانتخابات أهم محدد للخريطة الانتخابية دون أن يمنحهم مقاعد للتمثيل، ويحول العملية الانتخابية لمجرد عملية توزيع للمقاعد على الأحزاب المشاركة دون اعتماد المنافسة أو "الوزن" الانتخابي خصوصا مع إلغاء العتبة، وهي نسبة من الأصوات المعبر عنها كانت مطلوبة لولوج الأحزاب لقبة البرلمان وحصولها على دعم الدولة الموزع على التنظيمات السياسية من المال العام.
حزب العدالة والتنمية اعتبر القاسم الجديد "خطرا على الديمقراطية" وأنزل جميع برلمانييه في جلسة التصويت بالبرلمان أملا في إسقاطه لكنه فشل. إنزال برلماني لم يسبق أن شهدته المؤسسة التشريعية يوما بالرغم من القوانين التي تم تمريرها ضدا على مصالح الشعب، أو فئات محددة منه، دون أن يثير ذلك لدى الحزب وممثليه حرجا أو رغبة في الدفاع المستميت عن الإرادة الشعبية ومصالح عموم المواطنين، الهدف الأسمى لإقرار شيء اسمه الديمقراطية، التي لا نخاف من الإجهاز عليها إلا حين تمس نيرانها مناصب ومقاعد كانت مضمونة حتى اليوم وفق نظام الاقتراع القديم.
الارتباط المرضي بالمنصب حالة لا جدال فيها، ومساهمة المال الحرام، بما فيه المتحصل من تجارة الممنوعات، في تحديد الخرائط السياسية حقيقة قد نختلف في حجمها لكننا لن نستطيع نفي وجودها وتأثيرها.
لقد روجت الدولة، وتبعتها الأحزاب كما عادتها، للنظام الانتخابي اللائحي النسبي باعتباره الأفضل لمواجهة ما تمت تسميته "بلقنة" المشهد الحزبي، بما يعنيه من تفتيت للأصوات وما يستتبعه من صعوبة تشكيل تحالفات قوية على المستويات المحلية والوطنية. كما اعتبر هذا النمط وسيلة ممكنة لمواجهة تدخل المال في توجيه إرادة الناخبين بشكل يسمح بالوصول لخريطة تمثيلية أقرب لموازين القوى على الأرض.
كان هذا في زمن كانت فيه "الأحزاب اليسارية" تملك من الشرعية الشعبية رصيدا يمكنها من المنافسة قبل أن تأكله نيران المشاركة في التدبير الحكومي، لتصير مجرد رقم مكمل قد يتحول في الانتخابات القادمة إلى صفر على الشمال.
من هنا جاء الحديث عن الرغبة في المحافظة على تمثيلية كل الحساسيات السياسية وهو حق أريد به باطل، كما هو الحال مع من يدعون أن النظام الجديد سيكون دافعا إلى المشاركة التي لم تتوقف نسبها من الانحدار مع توالي المحطات الانتخابية وفقدان الأمل في انبثاق طبقة سياسية قادرة على تحمل "أعباء المسؤوليات".
الدولة التي كانت أصوات الأموات والمقاطعين تحتسب بـ "رعايتها" فتصدر الخرائط الانتخابية من مكاتب وزارتها للداخلية بدل صناديق الاقتراع، هي نفسها الدولة التي "بلقنت" الساحة الحزبية فأضعفت "الأقوياء" واستقطبت "الطامحين" وأغرت "ضعاف النفوس" بتبني الانشقاقات، وهي ذاتها الدولة التي تفتقت عبقريتها عن القاسم الانتخابي الجديد وأوعزت للأحزاب، معارضتها وموالاتها، بالسير به إلى الاعتماد ولو تمنّع وزير الداخلية عن دعمه وكأن الواقفين وراء إقراره يملكون القرار. هكذا تحول شعار محاربة "البلقنة" إلى "تعزيز التعددية السياسية"، وتحول السعي إلى "القطبية" الحزبية من نعمة نرجوها إلى نقمة نستعيذ منها. هي "دماغ متكيفة" كما يقول إخواننا المشرقيون.
المشروع ليس جديدا
ولأن "الكيف السياسي" وصل مداه، فقد تحولت مناقشة وإقرار الحكومة لمشروع قانون يتعلق بالاستعمالات المشروعة للقنب الهندي المعروف مغربيا باسم "الكيف"، إلى مناسبة جديدة للتجاذب السياسي بدوافع انتخابية أكثر منها مبدئية.
فالمشروع ليس جديدا أو بدعة طفت على سطح النقاش السياسي بالمغرب حيث بادرت بعض الأحزاب منذ مدة إلى المناداة باعتماده بما فيها حزب الاستقلال "المحافظ". لكن تبنيه في فترة ماضية من طرف حزب الأصالة والمعاصرة، في إطار انتخابوي صرف يهدف لتعزيز مكانته في الشمال المغربي المعروف تقليديا بكونه مهد الزراعة وكذا التصنيع الذي يحولها إلى مخدر الحشيش، جعل حزب العدالة والتنمية يتخذ، يومها، موقفا رافضا بالمطلق للنقاش حد تصنيف رئيس حزب الأصالة "مافيوزيا" على لسان رئيس الحكومة آنذاك عبد الإله بنكيران.
هذا الأخير جعل من تبني حكومة سلفه سعد الدين العثماني للقانون مناسبة لتصفية حساب قديم مع "تيار الاستوزار" بالحزب ليعلن قطع علاقاته مع وزراء حاليين وسابقين دعموا المقترح، وكأن الأمر مشكلة عائلية أو نقاشا حزبيا داخليا. عبد الإله بنكيران، الذي ينعم بتقاعده الوزاري، وعينه على عودة محتملة لقيادة الحزب، حول الموضوع لصراع ظاهره شخصي وباطنه صراع تموقعات داخل التنظيم ساعدت عليها كثير من المحطات الخلافية التي ظهرت مع تسلم العثماني دفة القيادة بديلا عنه وسط اتهامات بـ"خيانة" العهد ومغازلة السلطة ورجالها.
ينسى البعض أن تدخين "الكيف" تقليد وعرف راسخ في كثير من المناطق لا يمكن تجاوزه لا بالخطاب الأخلاقي ولا بوعود تنمية مبنية للمجهول. وفي انتظار تحقق ذلك فمصير نبتة القنب الهندي التحول لحشيش مخدر يسمح لـ "الكيف السياسي" بالاستدامة وبسط السيطرة على كل الأجواء.
السعي لتقنين زراعة الكيف وتخصيص وكالة وطنية وتعاونيات فلاحية لجمعه وتصنيعه لا يختلف في حقيقته عن تقنين زراعة الكروم وصناعة الخمور ولا زراعة التبغ وصناعة السجائر وتسويق المنتجين في السوق المحلية والدولية والاستفادة من عائداتهما في دعم ميزانية الدولة بالضرائب والمكوس.
صناعة التبغ تساهم في ميزانية الدولة بما يفوق الثلاثة بالمائة. أما صناعة الخمور فتبلغ عائداتها الضريبية ملايين الدولارات كما تشغل عشرات الآلاف من المواطنين. التقنين لم يكن السبب في انتشار تعاطي الخمر ولا السجائر، كما أنه لم يساهم في التخفيض منهما.
الطابع التجاري والاقتصادي هو الغالب في العمليتين وهو التبرير الذي يقدمه الداعمون باعتباره فرصة لاستقطاب "استثمارات عالمية متخصصة في الاستخدامات المشروعة للنبتة في المجالات الطبية والصناعية". أما المعارضون فيعتبرون أن التقنين سيساهم في "ارتفاع مساحات زراعة المخدرات وتفاقم ظاهرة الاتجار بها في عموم البلاد".
وبين الرأيين تنتصب حقوق المزارعين التي يرى البعض أنها ستُصان بتحريرهم من ربقة أباطرة المخدرات، في حين يجد آخرون أن "التطبيع" مع النبتة معناه تحولها من الندرة إلى الشيوع وهو ما سيفقدها أهميتها في السوق ويؤدي إلى تراجع مداخيل الفلاحين والمزارعين.
يبدو أن الخطاب الأخلاقوي أو الديني لم يعد لهما مكان في النقاش في ظل الإقرار بـ "إمارة المؤمنين" قاعدة للحكم. أما قطع العلاقات بين أفراد الحزب الواحد دون قدرة على قطع الصلة النهائية به والانطلاق في تجربة جديدة "طاهرة" غير مأمونة الامتيازات، فمجرد بروفة من بروفات التسخينات لما قبل الانتخابات القادمة التي لا يحددها القاسم الانتخابي وحده بل الضرب على وتر الدفاع عن التقاليد والأعراف والأخلاق.
ينسى البعض أن تدخين "الكيف" تقليد وعرف راسخ في كثير من المناطق لا يمكن تجاوزه لا بالخطاب الأخلاقي ولا بوعود تنمية مبنية للمجهول. وفي انتظار تحقق ذلك فمصير نبتة القنب الهندي التحول لحشيش مخدر يسمح لـ "الكيف السياسي" بالاستدامة وبسط السيطرة على كل الأجواء.