استحسن الحكيم البشري تسمية مؤسساتنا الأصيلة بمؤسسات الأمة عندما تعرضت لذلك في رسالتي للدكتوراة، فكانت حكمة البشري البالغة ضمن الفكرة المؤسسية حول مؤسسات الأمة التي واجهت إضعافا ربما كان مقصودا من الدولة القومية المركزية؛ التي بدا لها أن تقوم بنقض عرى الروابط والوشائج فيما بينها. ذلك أن تكافل مؤسسات الأمة والمؤسسات المجتمعية تحقق عناصر الترابط والتماسك فيما بينها وداخلها، بما يعد سداً لكل مداخل الفساد الذي قد تهدد بنية تلك التكوينات في داخلها أو تفسد عناصر العلاقة بين هذه التكوينات بعضها البعض.
ولا شك أن اجتماع تلك المؤسسات على هدف يشير إلى ضرورة مواجهة تضخم وتضخيم السلطة؛ هو أحد العناصر الإيجابية ضمن مفهوم المجتمع المدني حينما يرتبط بالواقع العربي، إلا أن هذه المؤسسات المجتمعية أو مؤسسات الأمة يرد عليها "بنية" و"وظيفة" و"مقصداً" من عناصر تسرب الفساد، ويؤدي ذلك إلى إضعافها، مما يشكل أهم قابليات اختراقها وتبديل وظائفها الأساسية في مواجهة السلطة.
ومن أهم هذه الشواهد التي تسهم في ذلك؛ الشعوبية المؤسسية التي تشير إلى مجموعة من الممارسات الفاسدة، التي ترتكز في تحديد مطالبها على قاعدة من البراغماتية والمصلحية الفئوية المادية، أي الانغماس في الشأن الخاص دون العام. وهذه المطالب وتعامل السلطة معها يمكن أن تمثل مداخل إلى رشوة مؤسسات المجتمع والأمة في محاولة لعزلها بعيداً عن حركة المؤسسات الأخرى، وهي أمور تشكل مدخلاً من السلطة لاختراق بنية هذه المؤسسات الداخلية، إضافة إلى إفساد جوهر العلاقة بين تلك المؤسسات وبعضها البعض. الشعوبية المؤسسية حينما تجعل محور حركتها الشأن الخاص، تهمل العام الذي يرتبط بقضايا الأمة التي يجب أن تكون لها أولوية ضمن حركة هذه المؤسسات.
ضمن عناصر الاتفاق العام بين مؤسسات المجتمع- الأمة الأهداف العامة التي تجعلها محور حركتها، وهذا بدوره يشير إلى ضرورة إيجاد أسس وقواعد اتصال بين مؤسسات المجتمع- الأمة، بما يوفر لها الاستقلالية عن السلطة من جانب، كما تعضد تضامنها وتماسكها من جانب آخر.
إن هذا الفصل بين الشأنين العام والخاص يصير قضية تجب مراجعتها في ضوء التناسق بين الحركة في المجالين، وهذا بدوره يؤكد مواجهة عناصر التفتيت في هذا المجتمع، وذلك من خلال استثمار حقائق التعدد القادر على إحداث التكامل في عرض المطالب والتعبير عن حاجات الأمة، وهو ما يعني ضرورة التفكير في كيف أن التعددية، مفهوماً وممارسة، تقود وفق عناصر القابلية للتجزئة وبيئة مواتية للتأزيم إلى التفتيت في المواقف والحركة.
تساؤل مشروع في هذا السياق يتطلب بحثاً علمياً متأنياً: لماذا تتحول التعددية إلى عناصر مكرّسة للتفتيت والتجزئة، سواء في نظرها عبر المؤسسات الخاصة بها، أو عبر الحدود القومية، خاصة مؤسسات المجتمع على طول الوطن العربي؟
التعددية التي تفترض تنوع التكامل غالباً ما تمارس في أشكال تشير إلى التشرذم وتفتيت القوى. ومن أوضح النماذج على ذلك ووفق توجهات مسبقة؛ محاولة قوى ثقافية أو سياسية استبعاد قوى أخرى من المشروع الحضاري أو بناء مستقبل الأمة.
إن الاختراق الداخلي لمؤسسات المجتمع والأمة من جانب السلطة- الدولة سيكون بلا شك أحد ميكانزمات السلطة للدفاع عن مكاسبها، خاصة أن السلطة ستتجه بصورة دائمة إلى الحلقات الأصعب في داخل تلك المؤسسات، إضافة إلى الاختراق المفصلي في هذه المؤسسات التي تشكل أضعف مناطقها، بما يتيح السيطرة عليها في الحركة سواء بشل فاعليتها الحركية أو توجيهها.
تكافل هذه المؤسسات وتعددها في القيام بالوظائف في سياق تقسيم العمل وتوزيع الأدوار والتنسيق بينها، هذا التكافل يشير إلى ضرورة تأسيس قواعد للتضامن والتماسك كإحدى الأولويات ضمن مكونات حركاتها، وبما يستثمر أقصى فاعليات هذه المؤسسات، ويشكل سداً لأهم منافذ الاختراق السلطوي لتلك المؤسسات.
كذلك فإن من أهم عناصر التأسيس للمؤسسات المجتمعية أن تحذر من عمليات الاختراق الخارجي بحثاً عن الاستقلال المادي الذي يسند حركتها، لأنها - ربما - في تحقيقها هذا الاستقلال الداخلي، تمد جسور عناصر فقدان هذا الاستقلال وبناء قواعد تبعية للخارج، نظنها أقسى في نتائجها وأخطر في مؤثراتها. أما حركة التعبئة لتبني قضايا الأمة من جانب مؤسسات مختلفة عالمية ودولية وإقليمية، فإن ذلك مما يحسن القيام به وعليه، دون أن يؤثر ذلك في تصور مصالح كيان الأمة وأولويات قضاياها.
غني عن البيان أن أول العناصر التي يتأكد من خلالها أهمية سد منافذ الفساد التي تشكّل قابليات الاختراق الداخلي والخارجي؛ ما يتعلق بضرورة تأسيس قواعد ممارسة داخلية تتأبى بشكل أو بآخر عن الفساد أو الانحراف أو الاستبداد، ذلك أن فساد التكوينات الداخلية سيؤدي ضرورة إلى ضعفها بما يحقق إمكانات هائلة لاختراقها، وليس من المنطقي أن تطالب تلك المؤسسات بمجموعة من المطالب ثم تنتهكها في الممارسة الداخلية (أي داخل المؤسسة المجتمعية ذاتها).
كذلك فإنه من أهم عناصر فساد هذه التكوينات للمجتمع- الأمة أن تتغاضى العناصر الفاعلة فيها عن مصادر تعظيم قوتها الإضافية تارة بالممارسة الشعوبية، وتارة أخرى بالاستبعاد. وأهم من هذا وذلك موقف سلبي نظنه لا يتأسس على قاعدة منهجية تجاه ما أسميت داخل الوطن العربي بأنها مؤسسات تقليدية، في إشارة إلى "المحاضن الطبيعية" التي يمكن أن تقوم بدور فاعل في مواجهة تضخم السلطة- الدولة، وتكثيف فاعلياتها في هذا الاتجاه. فالمؤسسات المسماة بالتقليدية ليست إلا محاضن طبيعية تشكل خط الدفاع والحماية الأخير للفرد، وهي التي لا يجوز تكسيرها، بل من الواجب استثمار قدراتها وفاعليتها وتوظيفها داخل النسيج الحضاري الاجتماعي.
كل ذلك يشير إلى ضرورة فتح ذرائع لتوطيد عُرى ووشائج مؤسسات المجتمع- الأمة، بما يؤكد ضرورات الحوار بينها. بيئة الحوار وتهيئتها لا تعني حسم مادة الاختلاف والخلاف وانقطاع الأزمات، بل تعني ضمن ما تعني ضرورة التعامل بمناهج منضبطة تحرر النزاع وتحقق أصوله وتحدد آليات الخروج منه في سياق يعتبر الواقع بكل تشابكاته، يقترن بذلك إرساء تقاليد داخل هذه المؤسسات، وقواعد لممارسة النقد الذاتي.
وأولى القضايا التي تستحق الاهتمام من جانب تلك التكوينات؛ "الإنسان"، وهو أصل القضية وما عداه فرع عليها. والإنسان في منطقة العرب ووفق ميراث طويل من الممارسات والانتهاكات؛ حقوق مهدورة وواجبات واهنة. يتطلب ذلك أن تطالب هذه المؤسسات بحد الكفاف الإنساني من الحقوق التي تُنتهك بصورة يومية.
ويرتبط بذلك الاهتمام بثانية القضايا، وهي قضية السلطة من جانب آخر وما آلت إليه في التصور. "السلطة التنين" يجب لو أريد تهميشها أن تظل تكليفاً لا تشريفاً. كما يتضمن ذلك، وبشكل موازٍ، ضرورة إبداع آليات مختلفة تعين على تهميش السلطة في نفوس الشعوب، إذ السلطة مشكلة تربوية ثقافية، وقد ساهمت الجماعات الأكاديمية في تضخيم ظاهرة السلطة، إذ جعلتها محوراً للتحليل السياسي، وجعلت كل تحليل أو بحث يتعلق بها أو ينبع منها أو يرتد إليها بشكل أو بآخر.
تهميش السلطة عملية تربوية ممتدة، لا بد أن تتعانق مع رؤية الإنسان في حقوقه وواجباته وفاعلياته في المجتمع السياسي.
وثالث القضايا يرتبط بحقيقة العلاقة السياسية دون أن نقع في دائرة الاختيار الملعون؛ الإنسان باعتباره مواطناً من جانب والسلطة من جانب آخر. فحينما تتحوّل المشاركة إلى فريضة، والسلطة إلى تكليف، يمكن تحويل فكرة تهميش السلطة إلى إجراءات، فتعيد هذه التكوينات تعريفها وتراجع النظرة إليها، وتحرك مؤسسات أمة قادرة على الفعل والفاعلية استقلالاً عن السلطة.
إن عناصر التبعية للسلطة تتأتّى من جانبي العلاقة السياسية، ولا يصلح في هذا المقام أن نرجع الخلل في هذه العلاقة إلى إكراه السلطة فحسب، دون البحث عن قابليات تغلغل السلطة في النفوس (الجماعة المثقفة- والصحفيون- وعلماء الدين)، وهي ليست إلا نماذج لتشوّه العلاقة السياسية.
مؤسسات الأمة فكرة حاضنة للمواطنة وتقوية أواصرها، وهي معنى الحكمة في فكرة مؤسسات الأمة وتفعيلها لا إضعافها أو تأميمها أو نقضها وهدمها.. وللوقوف على حكمة البشري في مسألة المؤسسية بقية.