يسعى الإعلام الأمريكي جاهدا لمحو الصورة القبيحة لبلادهم وشعبهم، التي رأتها جميع شعوب العالم في السادس من كانون الثاني (يناير) المنصرم، عندما اجتاح عشرات الآلاف من البيض المناصرين للرئيس السابق دونالد ترامب مبنى الكونغرس الأمريكي، حيث مجلسا النواب والشيوخ لمنع إشهار فوز جو بايدن على ترامب ليصبح الرئيس الـ 46 للولايات المتحدة، وسط هتافات متشنجة تطالب بقتل النواب الذين لم يناصروا ترامب.
والمفارقة الكبرى هنا ليس فقط أن بلدا يزعم أنه قائد العالم الحر والمتحضر يتصرف مواطنوه بإزاء مواطنين آخرين بوحشية مفرطة، بل في أن مرتكبي تلك الهجمة البربرية كانوا من الأمريكيين البيض الذين ينظرون إلى سود وسمر بلادهم وبقية بلدان العالم على أنهم برابرة متخلفون وهمجيون.
(عطفا في مقالي هنا قبل أسبوعين بعنوان "منصات بالبشاميل وسجائر بالكراميل"، والذي تناولت فيه الكيفية التي يتحول بها الناس إلى مدمنين للموائد الافتراضية لمنصات التواصل الاجتماعي، وكيف أنها تلغي وتعطل عقول الكثيرين، فقد نجحت الشرطة الأمريكية في اعتقال 150 ونيف من الذين اقتحموا الكونغرس لأنهم استسلموا لغواية منصات انستغرام وفيسبوك، وبثوا صورا حية لأنفسهم وهم يقومون بتهشيم نوافذ الكونغرس، ويطالبون بشنق برلمانيين معينين بالإسم).
في عام 2000 فاز جورج دبليو بوش بمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة في ظروف مثيرة للجدل على خصمه آل غور، ودخل إلى البيت الأبيض ليكتشف أن الفريق العامل مع سلفه بيل كلينتون قام بإحكام إغلاق كل درج / جارور وخزانة ملفات في كامل المبنى بأشد أنواع الغراء بأسا، كما حولوا خط الهاتف المخصص لاتصال الرئيس بكبار موظفيه الى جهاز داخل خزانة ملابس، ونزعوا حرف دبليو W (الذي يرمز للإسم الأوسط للرئيس الجديد) من كل لوحات مفاتيح الكمبيوترات في المبنى، مع ترك رسائل تحوي عبارات بذيئة وجارحة على طاولات المكاتب التي يستخدمها الطاقم العامل مع الرئيس الجديد، ثم عشنا وسمعنا حسرة الإعلام الأمريكي على خروج أنصار ترامب على مقتضيات التسليم والتسلم السلمي للسلطة حسب "الأصول الأمريكية المرعية".
يسعى الإعلام الأمريكي جاهدا لمحو الصورة القبيحة لبلادهم وشعبهم، التي رأتها جميع شعوب العالم في السادس من كانون الثاني (يناير) المنصرم، عندما اجتاح عشرات الآلاف من البيض المناصرين للرئيس السابق دونالد ترامب مبنى الكونغرس الأمريكي،
كان حفل تنصيب جون آدمز رئيسا للولايات المتحدة في عام 1797 أيضا شاهدا على غوغائية المشهد السياسي الأمريكي، فقد احتشد الآلاف أمام المنصة التي كان يؤدي فيها القسم، ولكن ليهتفوا بحياة الرئيس المنتهية ولايته الثانية والأخيرة حسب الدستور الأمريكي ـ جورج واشنطن ـ فوقع آدمز في حرج بالغ لأن الحفل تحول إلى "وداع" لواشنطن دون أن يحظى هو بأي تحية من الجماهير.
ويعتبر مؤرخون كثر ولاية جيمس بيوكانن الرئاسية (1861) الأسوأ في التاريخ الأمريكي، وجاءت نذر ذلك السوء مع يوم تنصيبه حيث توفي 36 ممن تناولوا العشاء معه خلال الحفل العشاء، وعلى ذمة صحيفة نيويورك تايمز فقد كان ذلك نتيجة تسميم الطعام بهدف اغتيال بيوكانن، وعزز تلك الفرضية أن الرجل عانى من تسمم غذائي بعد الحفل بفترة قصيرة وظل يعاني من متاعب صحية لأمد طويل.
في عام 1865 كان على أندرو جونسون ان يؤدي القسم نائبا للرئيس أبراهام لنكولن، وكان يعاني وقتها من رهق عام نجم عن إصابته بمرض التيفود، ورأى جونسون أنه وليكون في كامل لياقته البدنية، لا بد أن يشرب بعض الكحول في الليلة السابقة لحفل آداء القسم، وهكذا جلس مع ندمائه وشرب حتى حسب المهر ديكا، ولكنه اكتشف في اليوم التالي، أي يوم آداء القسم أن حالة السكر من الليلة السابقة ما زالت تلازمه، فقرر مداواتها بالتي كانت هي الداء وواصل الشرب، ولما جاء الدور عليه ليلقي كلمته كنائب للرئيس صار يبرطم ويهذي، ثم أحس بالتعب و"جلس" وسط ذهول الحضور، وقرر بعض النواب الشروع في إجراءات عزله ولكن لنكولن تمكن من إقناعهم بالعفو عنه واعطائه فرصة ثانية.
أما حفل التنصيب الذي يؤكد أن روح الهرج والفوضى كامن في الجينات الأمريكية، وأنها ليست أمرا طارئا نتج فجأة خلال أو بعد انتهاء ولاية ترامب، فقد كان عند تنصيب اندرو جاكسون رئيسا في عام 1829، وكان الرجل شعبويا يجيد دغدغة عواطف الجماهير بمعسول الكلام و"يعمل من البحر طحينة" كما يقول المثل المصري، وحضر حفل التنصيب عشرات الآلاف، وبعد آداء القسم دخل كبار الزوار إلى البيت الأبيض لتناول العشاء، فإذا بالآلاف أيضا يجتاحون المبنى بأحذيتهم القذرة ويهجمون على موائد الطعام وقوارير الشراب، ولما عمت الفوضى المكان لجأ العاملون في المبنى إلى حيلة تقديم الخمر والمثلجات عبر النوافذ لمن هم خارج المبنى، ونجحت الحيلة وانسحب من كانوا بالداخل الى الخارج لينعموا بالخدمات "المجانية"، وأصبح الصبح والمئات سكارى وصرعى حول المبنى، وكأنما كل ذلك لم يكن كافيا فقد نشبت حرب كلامية بين زوجتي وزيرين مع ثالثة اتهموها بأنها ساقطة و"دون المستوى"، واستمرت تلك الحرب لأيام وانتهت باستقالة ثلاثة من وزراء حكومة جاكسون قبل أن يكملوا أسبوعا في مناصبهم.
ما أوردته أعلاه من سلوكيات شهدها البيت الأبيض الأمريكي ومحيطه في مناسبات يحاول الأمريكان أن يضفوا عليها الكثير من القداسة، شاهد على أن تشدق الأمريكان بالتحضر، وتباهيهم بـ "التقاليد الأمريكية المرعية"، لا تسنده وقائع، فعلى مدى ستين سنة هي عمر بروز الولايات المتحدة في الساحة الدولية، كانت قارات إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية مسارح لوحشية الأمريكان، فجاء ترامب وفتح القمم فخرج الغوغائيون وسادوا في الشوارع، فكان أن تم فتح ملفات أسلاف ترامب ليتضح أن من فرضوا انفسهم سادة للعالم المتحضر هم في الواقع سادة العالم "المتبربر".