تقوم الأجهزة الأمنية في مصر بتكليف مقاولي وعمال البناء بتشييد سجون جديدة في مصر، وأحدث هذه السجون في مدينة السادات، حيث يتم نقل عمال البناء معصوبي الأعين إلى مواقع تشييد السجن الجديد. ووفقا لبيانات موثوقة وموثقة، فإن عدد سجون مصر وصل إلى 68 سجنا في العام 2019، منها 26 سجنا شيدت في عهد المنقلب السيسي.
وفي واقع الأمر أنه إذا أردنا أن نتحدث عن إنجازات حقيقية للسيسي، فإن إنجازه والذي يتصور أنه حالة أمنية تسهم في التنمية؛ هو عملية بناء السجون وزيادة عددها، حتى أنه يبشر الجميع بالسجون.. لا يسمح بمعارضة أي كانت، وكأن لسان حاله يقول للموطن المصري لا تقلق ستجد لك مكانا في سجن ما، نعمل على سجنك وإراحتك. هكذا يبدو أن تلك المنظومة الانقلابية قد تبنت شعار "سجن لكل مواطن" أو "زنزانة لكل مواطن". وبحق فإن مصر تحولت إلى "مصر المحبوسة"، ذلك أن طالبا قد حل لزيارة أهله ضيفا فاستقبله زبانية الأمن واختطفوه قسريا ثم ذهب إلى السجن، وهم دائما جاهزون بالتهمة "الانتماء إلى جماعة إرهابية".
لسان حاله يقول للموطن المصري لا تقلق ستجد لك مكانا في سجن ما، نعمل على سجنك وإراحتك. هكذا يبدو أن تلك المنظومة الانقلابية قد تبنت شعار "سجن لكل مواطن" أو "زنزانة لكل مواطن". وبحق فإن مصر تحولت إلى "مصر المحبوسة"
كتب أحد الطلبة المبتعثين للخارج متسائلا: ماذا يريد هذا النظام من الشباب؟ وماذا يريد من الباحثين؟ وأكد أنه كان يفكر بزيارة مصر في إجازة إلا أنه بعد القبض على ذلك الباحث المصري قرر ألا يذهب وإلى الأبد، قائلا: ماذا يريد هذا النظام منا؟ أيريد سجننا أم قتلنا؟ وكأن كل شاب يعمل على تكوين نفسه علميا وثقافيا هو بمثابة مشروع تهديد لذلك النظام، وبات هؤلاء الشباب من المطلوبين، ومصر تحولت إلى سجن كبير. فبعد اختطاف أحد المواطنين لثلاثة أيام في وزارة الداخلية، وكان في عهدة أمن الدولة وزنازينها، خاطب أحد الأجهزة أهل ذلك المواطن بالحضور لاستلام جثته، وأجبرهم على دفنه ليلا. وكانت أجهزة الأمن قد اختطفته خلال مروره بكمين أمني بمدينة العاشر من رمضان، وقامت بإخفائه قسريا قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت التعذيب. وعند استلام الجثمان منع الأمن الأسرة من معاينته بصورة كاملة أو حتى حضور الغسل والتكفين، وسمحوا لابنه بمعاينة وجهه فقط. تم رصد هذه الحادثة في تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، كما ورد في خبر موثوق وموثق لدى منصة "نحن نسجل".
هذا هو حال المواطن فهو تحت السجن، ومن في السجن تحت التعذيب يصل الأمر إلى مشارف القتل العمد من جراء معاملة مشينة أو تعذيب مستمر. وحتى لا يقول أحد إننا نبالغ، فلدينا شهادة اللواء إبراهيم عبدالغفار، مأمور سجن العقرب السابق وهو منهم، على قناة الحياة المصرية بعد الثورة، متحدثا وواصفا حال "سجن العقرب"، بأنه سجن لا تدخله شمس ولا هواء، والهواء فيه بالكاد على قدر الاستنشاق، كما أنهم حريصون على أن تكون رائحة السجن عفنة طوال الوقت، وهو مصمم على حد قوله "اللي يدخله ميرجعش منه تاني إلا ميت". فداخل السجن كانت تتم حملات من قطاع السجون وبإشراف وحضور من ضباط أمن دولة؛ تفتش وتضرب المساجين وتمدهم على أرجلهم، ويطلقون الكلاب لهبشه السجناء ونهشهم.
هذا هو حال المواطن فهو تحت السجن، ومن في السجن تحت التعذيب يصل الأمر إلى مشارف القتل العمد من جراء معاملة مشينة أو تعذيب مستمر. وحتى لا يقول أحد إننا نبالغ، فلدينا شهادة اللواء إبراهيم عبدالغفار، مأمور سجن العقرب السابق
هذا الكلام الذي يقوله هذا اللواء مسجل وموثق، وهو ما يعني أن سجن العقرب يعد أمثولة في سجون مصر لكسر معنويات من يدخله، خاصة سجين الرأي أو السجين السياسي، فمن المهم كسره معنويا لأنهم يعتبرونه خارجا عن النص وخارج على الدولة، وحملات وحفلات الاستقبال (كما تسمى) كانت ولا تزال سلوكا مستمرا ومكررا ضمن تشريفة رسمية في الضرب والتعذيب، وأطباء السجون إنما يتعاملون مع المساجين كالضباط سواء بسواء، فيعتبرونهم أعداء ولا يهتمون بعلاجهم، ويكتبون ما يملى عليهم من مباحث السجن ممتثلين لأوامر ضباط من أمن الدولة.
وهذا سجن العازولي يجمع في زنازينه كل هؤلاء الذين يعدون خطرا، فيتم بتعذيبهم حتى يصابون بالعاهات، بل إن بعض هؤلاء ومع حبسهم غير الآدمي قد ينسون، فهم يتعرضون لما يشبه غسيل المخ القذر، حتى أن بعضهم لا يتذكر كثيرا عن حاله وأحواله قبل دخول السجن.
ونشرت مؤسسة "كوميتي فور جستيس" تقريرا مهما عن أعداد الذين توفوا داخل أماكن الاحتجاز منذ العام 2013، وقد تعدت الألف، وعلى وجه التحديد 1058 مواطنا، وذلك منذ حزيران/ يونيو 2013 وحتى تشرين الأول/ أكتوبر 2020. وقد حمل التقرير عنوان: "كم ريجيني في مصر منذ العام 2013". وأكت هذه المنظمة أنه في إطار مشروع مراقبة مراكز الاحتجاز في مصر والذي يعد من أهم مشروعات المنظمة، تم رصد ارتفاع ملحوظ في عدد الوفيات داخل مراكز الاحتجاز في مصر في العام 2020، حيث وصل العدد إلى 100 حالة. وذكر التقرير أنه بتحليل أسباب الوفاة على مدار تلك السنوات يتضح تصدر غياب الرعاية الصحية لأسباب الوفاة، بالإضافة للتعذيب الوحشي.
ومع ذلك، فإن هذا النظام الانقلابي يحاول بوسائل شتى تصوير السجون وكأنها منتجعات صحية أو فنادق متميزة، فيجلب المجلس القومي العسكري لحقوق الإنسان الذي يأتمر بأمره ليصدر المجلس تقاريره عقب الزيارات المتفق عليها مع وزارة الداخلية بأن السجون في أفضل حال. فماذا عن تلك التقارير التي تصدر عن منظمات دولية تهتم بالشأن المصري، خاصة حال السجون وحالات الاختطاف القسري، وعن القتل تعمدا بكل الوسائل سواء التعذيب أو الإهمال الصحي وعدم الاهتمام بهؤلاء الذين يمرضون بتوفير رعاية صحية مناسبة، وكذلك تجاهل خطر فيروس كورونا على المساجين في ظل حالات التكدس غير المسبوقة، والتهوين من كل أمر يتعلق بالتحذير من ذلك سواء من داخل أو خارج، بل ومعاقبة من يحذر من هذه الكارثة بالسجن في ظل هذه الظروف.
النظام الانقلابي يحاول بوسائل شتى تصوير السجون وكأنها منتجعات صحية أو فنادق متميزة، فيجلب المجلس القومي العسكري لحقوق الإنسان الذي يأتمر بأمره ليصدر المجلس تقاريره عقب الزيارات المتفق عليها مع وزارة الداخلية بأن السجون في أفضل حال
والأمر يمتد حتى في معاملة النساء ضمن سلسلة ممنهجة من الانتهاكات التي تحدث داخل سجن القناطر، فالمسجونات لأسباب سياسية بلغ عددهن 225 سجينة، بالإضافة إلى 13 مختفية قسريا، أيضا 183 تحت الحبس الاحتياطي. وقد أصدرت منصة "نحن نسجل" تقريرا مفصلا حول هؤلاء السجينات والطريقة التي تُعاملن بها داخل تلك السجون، ويقع بعضهن تحت التعذيب وكذلك الإهمال الصحي.
نعم إن مصر صارت "مصر المحبوسة" التي كتم صوتها وسجن أهلها واعتقل كثير من شرفائها، وظل هؤلاء تحت كل صنوف القهر وتلفيق التهم والتجريم من غير مسوغ. وللأسف الشديد تبدو هذه الحالة التي وصلت إليها حقوق الإنسان في مصر وحال السجون ممتدة إلى خارج الأسوار. فهؤلاء الذين في خارج السجون هم في حكم المحبوسين لا يستطيعون أن يتنفسوا بحرية، وهم تحت الاتهام في أية لحظة، وربما يزداد عدد المطاردين.
فبناء سجون جديدة وبشكل مستمر إنما يشكل مؤشرا على استقبال مزيد من المعتقلين، ويؤكد أن تلك المنظومة الانقلابية تقوم بكل ما من شأنه أن تجعل كل مواطن تحت التهديد. وتستكمل المنظومة الإعلامية ذلك من خلال تهديد هؤلاء المصريين الذين قد يبدون بعض التحفظ على أمور أو سياسات انقلابية، فتوجه الخطاب إليهم: "مش عاجبكم غوروا".
فالأمر هنا بين مصر المحبوسة كسجن كبير وبين النفي الإجباري أو الاختياري، وهكذا وصل حال المواطنة المصرية لأن تُنعت بصدق وبحق بأنها "المواطنة المسجونة".