الإعراض عن دروس يناير

أربعاء, 01/27/2021 - 20:35

هذه هي الحقيقة التي يتعامى عنها كل مَن كان طرفا في ثورة الخامس والعشرين من يناير، سواء كان من نخبة الحكم، أو من أطراف المعارضة، فلا أحد استفاد من مسببات الثورة لئلا يثيرها، ولا أحد استفاد من مسار نجاحها ليتتبّع الخُطى.

لم تكن الثورة في مصر بسبب تزوير انتخابات 2010، ولم تكن بسبب مقتل الراحل خالد سعيد، فهذه الأسباب هي التي يقوم الساسة بتصديرها لمشهد الثورة، لتبدو التظاهرات منفعلة بالأوضاع السياسية، صحيح أن الأوضاع السياسية أخذت حيزا من الاهتمام العام، وكانت هي الوحيدة في الخطاب الإعلامي للوجوه السياسية خلال أحداث الثورة، لكن الأوضاع الاقتصادية وآثارها على المجتمع شكلت الاهتمام الكاسح لعموم المتظاهرين، بل هي التي دفعت المتظاهرين إلى التضحيات بالروح، وهذا الزعم لا يقلل أبدا من تضحيات من اشتبك على أساس سياسي.

إجمالا، هناك عوامل مشتبكة دفعت المتظاهرين إلى الاشتباك، وهي عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية وفكرية أيضا، لكنني أزعم أن الكتلة الأكبر من المتظاهرين احتجت على أساس الوضع الاقتصادي الآخذ في التردي آنذاك.
عوامل مشتبكة دفعت المتظاهرين إلى الاشتباك، وهي عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية وفكرية أيضا، لكنني أزعم أن الكتلة الأكبر من المتظاهرين احتجت على أساس الوضع الاقتصادي

إذا ذهبتُ لأعضد مزعمي، فالحال أن الشعار الأساسي للثورة كان يقول: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية"، والعيش والعدالة الاجتماعية شعاران اقتصاديان؛ فالأول يرمز إلى أساس الحاجات الاقتصادية وهي المأكل، والثاني كان يهدف إلى العدالة في توزيع الدخول، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن مناطق الاشتعال الكبرى كانت في أماكن شعبية، مثلا حي المطرية في شرق القاهرة ظل شاهدا لأيام على معركة غير متكافئة بين آلاف الجنود وآلاف المواطنين البسطاء، لكنها انتهت باشتعال عشرات سيارات الأمن المركزي التي واجه جنودها المتظاهرين، كما شهد ميدان الجيزة الذي تجاوره مناطق شعبية، اشتباكات شرسة انتهت بنفاد الذخيرة من قوات التأمين، ثم وقف القادمون من المحافظتين على مشارف ميدان التحرير (ميدان رمسيس للقادمين في القاهرة، وكوبري قصر النيل للقادمين من الجيزة). ويشهد الجميع ببطولات البسطاء حتى نفاد الذخيرة من قوات الأمن واضطرارهم إلى الانسحاب أمام مئات الآلاف من الغاضبين، الذين بسطوا سيطرتهم على الميدان لثمانية عشر يوما، أنهوا فيها حكما امتد لثلاثين عاما تقريبا.

كما لا يمكن إغفال الدور الذي قام به أبناء السويس في الأيام الحاسمة بين 25 و 28 كانون الثاني/ يناير، فقد استطاعوا إبقاء حالة الاحتجاج في الشوارع ببسالة، وتسببت دماء أبناء السويس الذكية في إبقاء النار مشتعلة في النفوس حتى اليوم المشهود (جمعة الغضب 28 كانون الثاني/ يناير).

كانت فترة ما قبل الثورة تشهد تصاعدا غير عادي في الاحتجاجات المرتبطة بالأوضاع الاقتصادية، وقد أصدر "المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" و"مؤسسة أولاد الأرض لحقوق الإنسان" الإصدار الأول من سلسة "العمال والحراك الاجتماعي"، بعنوان "عمال مصر 2009". ورصد الكتاب الآتي:

"الاحتجاجات العمالية التي تمت خلال عام 2009، تقدّر بحوالي 478 احتجاجا عماليا منها 184 اعتصاما، و123 إضرابا، و79 تظاهرة، و27 تجمهرا، و65 وقفة احتجاجية. وشكلت الاعتصامات 38 في المئة من أشكال الاحتجاج العمالي، تليها الإضرابات بنسبة 26 في المئة، ثم التظاهرات بنسبة 17 في المئة، والوقفات الاحتجاجية بنسبة 14 في المئة، ثم التجمهر بنسبة 6 في المئة.

كما توضح الجداول (الواردة في الكتاب) توزيع نسب الاحتجاجات على القطاعات المختلفة؛ فقد بلغت احتجاجات موظفي الحكومة 47 في المئة من إجمالي الاحتجاجات عام 2009، تليها نسبة 37 في المئة من عمال القطاع الخاص، وأخيرا 16 في المئة من عمال قطاع الأعمال العام، حيث قام عمال القطاع الخاص بأكثر من 175 احتجاجا؛ منها 70 اعتصاما، و43 إضرابا، كما قام موظفو الحكومة بحوالي 226 احتجاجا، منهم 76 اعتصاما و46 إضرابا. أما عمال قطاع الأعمال فقاموا بحوالي 77 احتجاجا، منها 37 اعتصاما، و24 إضرابا. كما أن الكتاب تعرض لحوالي 126 ألف عامل فقدوا وظائفهم خلال عام 2009، كذلك إقدام 58 عاملا على الانتحار لعدم ملائمة دخولهم مع احتياجات أسرهم".
هذا التردي الاقتصادي لم يكن محصورا على العمال والموظفين، بل طال كل القطاعات في الدولة، كما كان التوجه الجديد نحو سيطرة نخبة من رجال الأعمال على الحكم، سببا في تجاهلهم لمطالب المجتمع الأساسية

إذاً كان اتجاه تصفية القطاع العام سببا في كون أغلب الاحتجاجات العمالية، قبيل الثورة بعام، منسوبة لموظفين أو عمالٍ حكوميين، كما أن فقدان 126 ألف عامل لوظائفهم ليس بالرقم الهيّن أبدا، نظراً لامتداد أثره على أسرة العامل أو الموظف، فضلا عن وجود ما يقرب من خمسة عمال شهريا يحاولون الانتحار.

هذا التردي الاقتصادي لم يكن محصورا على العمال والموظفين، بل طال كل القطاعات في الدولة، كما كان التوجه الجديد نحو سيطرة نخبة من رجال الأعمال على الحكم، سببا في تجاهلهم لمطالب المجتمع الأساسية والتعامل بمنطلقات الربح والخسارة المالية، لا المصلحة الوطنية والتكافل الاجتماعي، فكان رد الشارع حينها بقلع تلك النخبة بأكملها.

عقب انقلاب تموز/ يوليو 2013، تم استبدال تلك النخبة بأخرى عسكرية، لكنها أصبحت أشرس في التعامل الأمني، وأَشْرَه للمال، وأصبحت التردي الاقتصادي لا يجري ببطء كما كان قبل الثورة، بل أصبح التردي سريعا كالوقوع من على منحدر زَلِق.

عمدت النخبة الجديدة كذلك إلى غلق أي مُتنفّس للمعارضة سواء على مستوى السياسيين، أو على مستوى عموم المصريين الذين يدخلون السجون لكلمة على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا التوجه بسبب أنهم تصوروا أن المتنفّس سيجعل المصريين أكثر جرأة على المعارضة، ومن ثَمّ قد يعيدون الكَرَّة ويرفعون أصواتهم إلى الحد المطالب بالتغيير، لكن فات هؤلاء الجهابذة أنهم وضعوا الوطن في قِدْر مغليّ محكم الإغلاق، وليس أمام الغليان إلا الانفجار.
الذين شاركوا في صناعة الحلم وتحقيقه، فقد أعرضوا عن الدرس الوحيد لنجاح الثورة، وهو خفوت كل نزعة شخصية وحزبية إزاء المصلحة الوطنية؛

هذا بالنسبة إلى نخبة الحكم، أما الذين شاركوا في صناعة الحلم وتحقيقه، فقد أعرضوا عن الدرس الوحيد لنجاح الثورة، وهو خفوت كل نزعة شخصية وحزبية إزاء المصلحة الوطنية؛ كان الشباب الذي يُعِدّ للحراك من كل الأطياف السياسية الناشطة حينها (إسلاميين ويساريين وليبراليين)، ولم يسْعَ طرف من الشباب لإقصاء الآخر، بل ولم يسعَ طرف لإبعاد أي وافد سياسي أو أهلي من المشاركة في قرارات الحراك والمطالب، كما أن النزعة الوطنية غلبت سنوات من الشحن الداخلي بين المسلمين والمسيحيين، ومن هنا نجحت الثورة.

أدرك العسكر خطورة الائتلاف، فصنعوا سريعا عشرات التنظيمات الصوريّة ليحدث اضطراب في مشهد الثورة، كما استمالوا كل طرف على حدة. وللأسف استجابت الأطراف للاستمالة، وبدلا من الجلوس مع بعضها للتفاهم اختاروا التآمر على بعضهم مع ورثة النظام السابق.

ليس ذلك وحسب، بل عندما جاء وقت استدعاء الشارع للتصويت، تعرّض البسطاء، الذين افْتدَوْا وطنهم بأرواحهم، للتجهيل والتحقير لأنهم ينتخبون طرفا دون آخر، وأصاب الطرف الناجح الغرور، فدخل الشقاق بين رفاق الثورة ورفاق النضال لسنوات سبقت 2011، فكفر الشارع بهم، بعدما سَلَّمهم قِياد الحكم بدمائه.

ومن باب الشِّقاق دخل ورثة النظام البائد إلى سُدّة الحكم مرة أخرى، وهو الأمر الذي لم يكن هناك مفر منه، منذ أن تقاتل أبناء الثورة في ميدانها في أول ذكرى لها.

أكثر ما يؤلم أن تتحول ذكرى الثورة لمندبة كما نرى كل عام، والمندبة يأس وعجز، واليائس العاجز لا يصنع حاضرا ولا يُعتَمَد عليه بناء مستقبل. وكان الأجدر بنا أن نجعل الذكرى في كل عام موجة احتجاج جديدة لتحقيق المطالب التي لن تتوقف أبدا حتى نِيْلها "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".

الفيديو

تابعونا على الفيس