ذكرى يناير والصراع على الرواية و"الصورة"

أربعاء, 01/27/2021 - 20:32

بعد أن سيطرت قيادة الجيش في مصر على مفاصل السلطة منذ انقلاب يوليو 2013، استطاعت أن تفرض هيمنتها على كل شيء. كان لا بد لذلك أن يحدث، فالانقلابات العسكرية مثلها مثل الثورات المسلحة تجب ما قبلها، وتصنع نخبها الخاصة.

أحكمت السلطة الانقلابية قبضتها على القضاء، والأمن، والإعلام، والسياسة، ولكن هذا لم يكفها ولن يكفي أي سلطة انقلابية في أي دولة في العالم، لأن السيطرة الأهم بعد كل هذه السلطة الشمولية هي على "الرواية"، رواية الحاضر عبر التطبيل للحاكم، ورواية الماضي القريب، ليتماشى مع رغبات السلطة ومخاوفها.

من هنا تحاول السلطة الحاكمة أن تلغي ثورة يناير، وأن تحولها لشيء هلامي غير معلوم الملامح، فمرة تسميها "أحداث يناير"، وأخرى يصفها الجنرال بالأيام "التي انكشف فيها كتف مصر"، بينما يتكفل الإعلام الأكثر تطبيلا بدون خجل بوصفها بالكارثة أو الفوضى أو الشغب.

وقد نتساءل، لماذا تمارس السلطة تزوير الرواية مع أنها تتحكم بكل شيء ولا يفترض أن تخشى شيئا؟ ولماذا لا تستخدم الثورة وتربط نفسها بها، وتعتبر نفسها جزءا من إرث يناير الذي تحترمه نسبة كبيرة من الشعب المصري والشعوب العربية بل وشعوب العالم؟

لا نجد جوابا على هذا التساؤل سوى أنها تخشى هذا الإرث، لأنه يذكرها بهزيمتها أمام الشعب المصري، ولأنها تخاف أن يسجل في الذاكرة الشعبية الجمعية أن الأقلية الحاكمة من تحالف السلطة والأمن والمال قد اضطرت أن تنحني يوما للشعب القائد، والأهم من ذلك أنها تشعر بالذعر من إلهام هذه الثورة للأجيال القادمة التي لم تعشها بتفاصيلها، وهي تدرك، أي السلطة، أن هذا الإلهام قد يشكل رافعة لثورة جديدة في أي لحظة.

وإذا كانت السلطة تحاول بكل قوتها وإمكانياتها أن تسيطر على رواية تاريخ ثورة يناير، فإن من يؤمنون بهذه الثورة أحق بمحاولة التصدي لتزوير التاريخ.

قد يعتقد أبناء يناير أن تاريخا حديثا عمره عشر سنوات لا يزال حاضرا ولا يمكن تزويره، ولكن الواقع يقول إن الأنظمة الشمولية تعمل على تزوير تاريخ اليوم وليس فقط التاريخ الممتد لسنوات قريبة، كما يجب الأخذ بعين الاعتبار أن الجيل الذي كان أبناؤه أطفالا وقت الثورة لم يشهد منها شيئا، ولم يسمع في الإعلام سوى رواية النظام، ولذلك لا بد من الدفاع عن صور الثورة التي لا يمكن أن ينساها من عايشوها، حتى يبقى إلهام يناير على الأقل بعد أن ضاعت أهدافها، ولو مؤقتا.

ثمة صور لا تنسى من يناير، شاهدها حتى غير المصريين عبر الشاشات، وشكلت إلهاما عظيما لهم. هذه الصور يجب أن تبقى حاضرة، وتنقل من جيل إلى جيل، إلى حين تشكل الظروف اللازمة لثورة جديدة تنهي الفساد وتحقق أحلام الحرية والعدالة الاجتماعية.

صورة الميدان الذي جمع كافة فئات الشعب المصري، بجميع التوجهات، وتنوع الطبقات الاجتماعية، والنسيج الديني باختلافاته. وحينما نقول "الميدان" فلا يعنى به فقط ميدان التحرير، وإن كان يمثل أيقونة لميادين العرب كلهم وليس المصريين فحسب، وإنما يقصد به كل ميادين مصر التي شهدت تجمعات شعبية هائلة للمطالبة بحقوقها المشروعة.

لم تعرف هذه الميادين خلافات حادة، ولم تشهد انتهاكات بحق الناس أو المنشآت، وكانت مثالا للتنظيم والترتيب والنظافة. كانت الميادين تمثل الروح المصرية الحقيقية، ولذلك فهي تستحق أن تروى للأجيال.

صورة الثبات في المواقف الشعبية، والتصدي للعبث الرسمي ومحاولات التلاعب برفاق الميادين، خصوصا بعد موقعة الجمل، وكيف استطاع المتظاهرون أن يلملموا جراحهم، وأن يحتفظوا بسلميتهم، ولكن بنفس الوقت أن يثبتوا على مواقفهم لحين سقوط رأس النظام.

كان هذا الثبات رمزا لقوة الشعب في مواجهة الأقلية التي تسرق وطنهم، ويجب أن يبقى هذا الرمز قصة تروى من جيل إلى جيل.

صورة الشباب الذي يتصدى بصدره العاري لدبابة الأمن، والمصلين الذين يودون صلاة جمعة الغضب بمواجهة سيارات الأمن على كبري قصر النيل، وصور الشهداء الذين دفعوا دماءهم لأجل شعبهم ووطنهم، وصور المتظاهرين وهم يردون بالرفض على خطابات مبارك، وصور لجان التأمين يوم سحب الشرطة من المدن في جمعة الغضب، وصور لجان تنظيم الميدان، وصور الشباب الذين قرأوا القرآن أو ألقوا أشعار أحمد فؤاد نجم وفؤاد حداد وبيرم التونسي أو غنوا الشيخ سيد درويش والشيخ إمام، أو رسموا أحلامهم "جرافيتي" على الجدران.

آلاف الصور التي لا يمكن لمن عايشها أن ينساها، ومن حق الأجيال التي لم تشهدها أن تنقل وتروى إليهم، فهي تمثل تاريخا لأجيال كاملة، وتمثل حياة أخرى للشهداء الذين دفعوا دماءهم ثمنا لها، وتلخص أحلام مئات الملايين في مصر وغيرها من الدول العربية.

إذا كان من صنعوا يناير وعاشوها بضحكاتها وآلامها وانتصاراتها وهزائمها لا يستطيعون استعادة أهدافها اليوم، فلا أقل من أن ينشروا روايتها، وأن ينقلوا صورها للأجيال القادمة، فالصراع على رواية التاريخ لا يقل أهمية عن الصراع على المستقبل!

الفيديو

تابعونا على الفيس