عشر سنوات مرّت على الربيع العربي والذي حمل لنا الكثير من الآمال والأحلام بخروج العالم العربي من المآسي والأزمات والمشاكل والهموم، لكن النتائج كانت قاسية وصعبة؛ بين انهيار دول، وعودة القمع الدكتاتوري، وحروب وصراعات أهلية، وانتشار التطرف والعنف، واستعادة الهويات المذهبية والطائفية والعشائرية، وتحوّل العالم العربي إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وسقط مئات الآلاف من الضحايا وهاجر وتهجّر الملايين من المواطنين العرب، وانتشرت المجاعات وزاد الخوف والقلق على المستقبل.
وباستثناء التجربة التونسية التي نجحت في تحقيق انتقال ديمقراطي وسلمي للسلطة وبناء منظومة سياسية جديدة قائمة على أسس الديمقراطية والتنوع ووضع دستور جديد متطور، فإن معظم الدول العربية التي مرّ عليها الربيع العربي عانت وتعاني من أزمات متنوعة داخلية وخارجية، وبعض هذه الدول تواجه اليوم ظروفا أسوأ مما كانت تواجهه قبل الربيع العربي وتحولت مجددا إلى الدكتاتورية والقمع، فيما دول أخرى تعاني من الحرب والصراعات الداخلية والخارجية.
لكن هل أقفلت أبواب الحلول في عالمنا العربي؟ وأين هي الخيارات الجديدة للخروج من المأزق الراهن؟ وما هي الأفكار الجديدة التي طرحت خلال السنوات الأخيرة من أجل البحث عن آفاق جديدة لاستعادة دور الدولة الوطنية، ومواجهة التحديات المختلفة والتأقلم مع المتغيرات الإقليمية والدولية؟
في مواجهة هذه التحديات المتعددة برزت عدة دعوات مهمة في العالم العربي، ومنها الدعوة لمراجعة تجربة الإسلام السياسي، أو دور الحركات الإسلامية وعلاقتها بالسلطة والحكم والقوى الداخلية والخارجية، وتقييم ما قامت به خلال السنوات العشر الماضية، إضافة لضرورة دراسة أسباب بروز التيارات العنفية المتشددة وكيفية استعادة الصورة الصحيحة للإسلام والدين.
كما شهدنا نقاشات مهمة خلال السنوات الأخيرة حول موضوعين أساسيين، الأول حول الدعوات للتكامل الإقليمي والكونفدرالية المشرقية والقيم المشرقية والإمبرطورية المشرقية الثقافية، وذلك لمواجهة الصراعات والحروب الإقليمية والمذهبية والطائفية، وصدرت العديد من الدعوات من أجل حوار عربي- تركي- إيراني- كردي لمعالجة مختلف الأزمات. وقد تجددت هذه الدعوات مؤخرا بعد انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وانتخاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي سيطرح رؤى أمريكية جديدة حول قضايا العالم والمنطقة.
ومن الموضوعات المهمة التي أعيد النقاش حولها خلال هذه السنوات العشر الصعبة قضية الدولة الوطنية في العالم العربي، حيث تواجه هذه الدولة تحديات عديدة داخلية وخارجية وتعاني من أزمات متنوعة.
وفي إطار هذه النقاشات وبعد مرور عشر سنوات على الربيع العربي، صدر مؤخرا تقرير هام عن المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق (وهو أحد أهم مراكز الدراسات في لبنان والعالم العربي ولديه عشرات الإصدارات التنموية والسياسية والاستراتيجية)، وهذا التقرير تحت عنوان: "الدولة الوطنية في العالم العربي: المعضلات والتحديات خلال عقد من الاضطرابات واللا يقين".
وتضمن هذا التقرير العديد من الدراسات الهامة لعدد من المفكرين والباحثين العرب حول التحديات التي تواجه الدولة الوطنية في العالم العربي وكيفية مواجهة هذه التحديات. وهو يشكّل إضافة مهمة إلى عشرات الدراسات والكتب والتقارير والأبحاث التي نشرت خلال السنوات العشر الأخيرة حول المشاكل والأزمات التي يواجهها الوطن العربي.
لكن أهمية هذا التقرير كونه صادرا عن مركز دراسات وأبحاث قريب من حزب الله، وهو أحد الحركات الإسلامية الفاعلة اليوم في لبنان والعالم العربي. وقد كتب رئيس المركز الدكتور عبد الحليم فضل الله في مقدمة التقرير حول إشكالية الدولة الوطنية: "إن الدولة الوطنية هي بمعنى ما خشبة الخلاص مما نحن فيه، كونها تملك ما لا تحظى به المنظومات السياسية الأخرى ما فوقها وما دونها (أحزاب، اتحادات إقليمية، منظمات دولية، شراكات عالمية). فهي الضمانة التي لا غنى عنها للنهوض وإعادة البناء، ولمواجهة الاستحقاقات الصعبة كالوباء الأخير أو الإرهاب أو الانهيارات الاقتصادية. وهي الطريقة الفعالة الوحيدة لبث الطمأنينة في الجماعات القلقة، وتهدئة الهويات الفرعية وإبرام المصالحات الضرورية بينها. كما أنها المنطلق نحو صياغة تفاهمات إقليمية لإنهاء الحروب أولا، وللوصول تاليا إلى نظام جديد يعزز حضور منطقتنا في العالم. إنها أيضا المضمار المناسب والوحيد للمضي قدما في تطوير أنظمة الحكم والتوافق قائمة على عقود اجتماعية جديدة ومتوازنة إذا لزم الأمر".
هذه الرؤية الهامة والمختصرة التي يقدمها الدكتور عبد الحليم فضل الله من موقعه البحثي، وعلى ضوء خلفيته الفكرية الإسلامية، تشكل مدخلا مهما للنقاش حول نظرة الأحزاب والحركات الإسلامية والقومية في العالم العربي لمفهوم الدولة الوطنية ودورها.
وقد سبق للدكتور معين الرفاعي (المعروف باسم أبو عماد الرفاعي)، وهو القيادي في حركة الجهاد الإسلامي منذ ثلاث سنوات، أن أعدّ دراسة دكتوراة (نشرت لاحقا في كتاب) حول موقف الحركات الإسلامية من الدولة والسلطة، وضرورة إعادة النظر في هذا الموضوع المهم. وقد أثار كتابه آنذاك الكثير من ردود الفعل السلبية في أوساط بعض الحركات الإسلامية.
اليوم وبعد عشر سنوات على الربيع العربي، وبعد كل هذه التجارب في الحكم والمعارضة من قبل كل الحركات الإسلامية واليسارية والقومية، نحتاج مجددا لإعادة التفكير في كل هذه الموضوعات والقضايا، وخصوصا حول الدولة الوطنية وعلاقتنا بها، وكيفية بناء هذه الدولة، لعلها تكون جسر الخلاص من الأزمات التي نعاني منها، دون أن يعني ذلك التخلي عن الدعوات للتكامل أو التعاون الإقليمي أو القومي أو الإسلامي، أو البحث عن أشكال ومبادرات جديدة لوقف كل هذه الصراعات والحروب والأزمات في وطننا العربي، وتلك مهمة الباحثين والمفكرين الأحرار في هذا الزمن الصعب.