كم أعشق الشتاء! ربما لا أدري تحديداً ما الذي أحبه فيه، هل هو برده؟ رغم أني لست ممن يحتملون البرد، فما إن تنخفض درجات الحرارة حتى تهاجمني آلام المفاصل مثل قطيع من النمور الجائعة، في النهار يؤلم مفاصلي القيام بالنشاطات اليومية العادية، أما الليل فله حكاية أخرى من المعاناة.. يضغط عليَّ أفراد الأسرة دائماً أن أتناول حبة "روفينال" ولكني أعارض بشدة، وأبذل جهدي للتماشي مع ما أعانيه بدون مسكنات ألم.
أستلقي في السرير وأدفن نفسي بين أغطيتي الدافئة الناعمة.. ولكن آلام المفاصل تنفلت من عقالها وتحاصرني وتشرع بنهشي.. وتنفلت معها أفعى الذكريات وتنسلُّ إلى وعيي بقوة..
تقف ذكرى أسرانا في المعتقلات أمامي في الظلام مثل مارد أرجله في غرفتي ورأسه يلامس السماء.. يضم يديه إلى صدره ويحدق في وجهي ويسألني: أين أنتم منهم؟؟ تتنعمون وهم يعانون.. ويدفعون ثمن شجاعتهم ودفاعهم عن الوطن.. وأنتم تنسون.. ألا تستحون؟؟ أسأل نفسي: كيف ينامون؟ هل يشعرون بالدفء الآن؟ هل هم جائعون؟ هل فراشهم وأغطيتهم تكفي كلا منهم ليشعر بالراحة؟ ماذا يفعل المرضى منهم؟ هل لديهم دواء يسكن آلامهم؟ هل لديهم ماء ساخن في صنابير المياه؟ هل زنازينهم تليق بالبشر؟؟
وبما أنني قرأت وسمعت الكثير عن المعتقلات الصهيونية التي يحتجزون أبناءنا فيها، فإنني أعرف إجابات تلك الأسئلة.. فتصدر عني آه عميقة تحمل ألماً لا ينفك يؤرقني!
تقفز أفعى الذكريات إلى سجون بعض الدول العربية (لن أحرج الموقع بذكر أسمائها).. أتذكر أشخاصاً بعينهم، وأسأل نفسي عن أحوالهم في هذا الطقس البارد، وغالبيتهم من كبار السن ويعانون أمراضا شتى قد يكون أخفها وأبسطها التهاب المفاصل وآلامها.. وجميعنا نعلم أنهم يُعذبون طوال الوقت ويساقون إلى الموت ببطء ليبدو وكأنه موت طبيعي.. تحاصرني آلام الروح والجسد.. فأتقلب في الفراش مثل المحموم تفرض صور تعذيبهم نفسها عليَّ، وأقول، إلهي.. قسوة عيش وعذاب سجن لا يهدأ.. لطفك بنا يا إلهي!
تنسلُّ أفعاي إلى سوريا.. أمنعها من أن تهرب نحو سجون الظلم والطغيان لأن أعصابي لم تعتد تحتمل المزيد، ورغماً عني تسحل نفسها ناحية مخيمات اللجوء في داخل الأراضي السورية، أتذكر تلك الطفلة.. شقراء شعثاء.. يتضح تماماً أن شعرها لم يلامسه الماء على سبيل الاستحمام منذ مدة، ترتدي معطفاً مهترئاً لوثه الطين، تتنقل بين الخيام في جوف الوحل بأقدام حافية لتحضر دلواً من الماء من صنبور يقع في طرف الأرض التي أقيم عليها المخيم.
وكلما اشتد قرع المطر في الخارج، فرضت صورة اللاجئين نفسها على ذهني بقسوة.. خيام مقامة في العراء، فوق أراضٍ أُشبع طينها بالماء حتى غدت موحلة طرية يصعب السير فوقها دون أن تنغرس فيها الأقدام والسيقان أيضاً.. أعداد لا تحصى من أُسر تتكدس داخل خيام ليس بمقدورها أن تقاوم ضراوة الرياح، ولا سطوة البرد أو جبروت الأمطار والثلوج. بطانيات رقيقة قليلة العدد وفراش لا يحجب رطوبة الأرضية وبردها على الأجساد التي تغطي الأرض، لا أظنها تترك تلك الأجساد تشعر بالدفء أو الراحة.. أطفال.. نساء.. رجال.. شيوخ.. يجمع شملهم الألم والتشرد والجوع والشعور بالمهانة، ويقرض الذل أيامهم ويتمنون الموت في كل لحظة.. بعد أن شتتهم طغاة الأوطان وسرقوا منهم البسمة والأمل والمستقبل الواعد!
تتسلسل صورٌ للخيام يغرق داخلها بالماء والوحل، لم يترك البلل أي شيء فيها دون أن يمسه.. وطفل صغير يقف في قلب الخيمة باكياً ينادي أمه قائلاً: ماما.. أريد أن أنام.. أنا جوعان.. بردان.. دفئيني ماما!
صورٌ تقطع نياط القلوب!!
أحملق في العتمة أمامي.. فألمح طابوراً ممتداً من المظلومين، لا يكاد ينتهي.. روهينغيا.. إيغور.. معتقلين في سجون طغاة العرب الممتدة من المحيط إلى الخليج.. مشردين بين مطرقة الحروب وسندان الفقر..
تقفز ذكريات الشتات واللجوء الفلسطيني أمامي، وتقف مثل سدٍّ منيع يمنعني من التقدم..
يا إلهي.. نكبة ونكسة وحروب ظالمة.. و.. ذكريات لا تُمسح من الذاكرة مهما حدث.. نتذكر مآسي الآخرين ومآسينا التي تأبى أن تنتهي وتزول.. يدبُّ الرعب في أوصالنا ونخشى تكرار التجربة مرة أخرى.
- ألن ينتهي ظلم البشر للبشر؟؟ ألن يشبع البشر من نهش لحوم بعضهم بعضاً؟؟ ما ذنب هؤلاء؟؟
- إلى متى؟؟
ليت الألم يتوقف عند حدود المفاصل.. ولكنه الوجع الإنساني الذي يأبى أن يهدأ ويشعر ببعض الرحمة!