كان يوم 5 حزيران/ يونيو 2017 أحد الأيام الثِّقال في تاريخ المنطقة التي انغمست في ظلمات الاستبداد وجنايته على كل شيء، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والوعي والعافية، واجتمعت في هذا اليوم ذكرى مرور نصف قرن على أم الهزائم العربية عام 1967، مع بدء المقاطعة والحصار لدول الرباعي العربي لجارتها قطر. وبعد ثلاث سنوات ونصف من هذه الكارثة، ائتمر الخماسي العربي في مدينة العُلا السعودية لتوقيع اتفاقية مصالحة بحثٍّ أمريكي.
استشعر المحبون لأوطانهم والمحبون لائتلاف الوطن العربي مرارةَ الوجود الأمريكي، أو على وجه الدقة فرض القرار عبره، لكن ربما يصلح في هذا المقام قول القائل "وداوني بالتي كانت هي الداء"، ومن أشعل النيران قام بإطفائها. وأيّا كانت النوايا فما يعنينا إنهاء المقاطعة بصورة رسمية، وإن بقي ما في النفوس على حاله، ولو مؤقتا.
تمتاز هذه المنطقة بأنها لا تزال تحتفظ بإرث مجتمعات ما قبل النظام السياسي الذي يرتكن إلى الحدود كأحد مقومات الدولة، فالقبائل متشعبة في دول الجوار، والأواصر فرّقتها الحدود وإن لم تقطعها، لهذا كانت مشاهد اجتماع الأسر والعائلات تصنع سعادة ما بعدها سعادة، وطغت هذه المشاهد على مرارة الحضور الأمريكي، بل وعلى هشاشة الاتفاق.
تمتاز هذه المنطقة بأنها لا تزال تحتفظ بإرث مجتمعات ما قبل النظام السياسي الذي يرتكن إلى الحدود كأحد مقومات الدولة، فالقبائل متشعبة في دول الجوار، والأواصر فرّقتها الحدود وإن لم تقطعها، لهذا كانت مشاهد اجتماع الأسر والعائلات تصنع سعادة ما بعدها سعادة
إن وصف الاتفاق بالهشاشة لا يمثل أمنية لدى القائل بذلك، ولا رغبة في دفع الأمور إلى هذا المنحنى، بل جاء الوصف وفاقا لملابسات ما قبل الاتفاق، وظهور تململ من الدول غير المفاوِضة لقطر (الإمارات والبحرين ومصر)، لكن وجود اتفاق هشّ خير من قطيعة مزقت العائلات، وفتحتْ باب العداء بين الأشقاء.
إن تاريخ العداء بين الأنظمة السياسية العربية طويل، صحيح أنه لم يكن بمثل تلك الحدة من قبل لكنه تاريخ طويل، لكن لا توجد مرحلة لم يحدث فيها نزاع عربي- عربي، وكان غزو القوات العراقية للكويت هو المثال الأكثر فجاجة للصراعات العربية. حتى عندما حاول عبد الناصر أن يقيم ما أسماها الوَحدة العربية، انهارت أمام طغيان شخصه على أي مصلحة أخرى، فانهار مشروع الوَحدة سريعا.
كانت لحظات الائتلاف العربي معدودة طوال تاريخ العداوات، أبرزها خلال فترة ما قبل الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي، وبمجرد زوال الاحتلال يأتي الضباط ليتولوا الحكم ويعيثوا في بلدهم فسادا وإفسادا. وفي النصف قرن الأخير كانت لحظة الائتلاف الحقيقية في معركة الكرامة عام 1973، وكل ما جرى بعدها كان ادعاء، سواء خلال مقاطعة مصر بعد كامب ديفيد أو خلال الانتفاضتين الفلسطينيتين أو الحرب اللبنانية الأهلية أو العدوان الصهيوني على لبنان أو غيرها، كانت القمم العربية تجتمع في صورة الائتلاف بينما تضج القاعات المغلقة بالعداوات والتلاعب بمصير الشعوب وقضايا الأمة.
كانت لحظات الائتلاف العربي معدودة طوال تاريخ العداوات، أبرزها خلال فترة ما قبل الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي، وبمجرد زوال الاحتلال يأتي الضباط ليتولوا الحكم ويعيثوا في بلدهم فسادا وإفسادا
آفة العداوة نشأت بسبب غرس واحد فقط، هو الاستبداد، فهو أصلِ البلايا في كل مكان حطّ فيه رَحْلَه، وما من حاكم مستبد بين قومه إلا ورأى نفسه دون نظير بين أقرانه، لكنه بالطبع لا يرفع نظره أمام من ينعمون عليه بالحماية من تقلّب الشعوب. فبالاستبداد صُنعت العداوات، وبالاستبداد نما الخلاف بين الإخوان والأشقاء، وبالاستبداد رأينا الهزائم ورأينا الحروب والعدوان، ولا خلاص من كل البلايا في المنطقة إلا بإزاحة المستبدين.
إن ما يشهده الخليج هذه الأيام، على هشاشته، يدعو للحُبور والدعم، ومدعاة ذلك أن حالة الشحن الإعلامي ستتغير تدريجيا، ومردّ ذلك حَسنٌ على الشعوب؛ فتكرار الهجوم على نظام سياسي ما، يجد صداه لدى بعض المتابعين للإعلام الناطق بلسان النظام السياسي، كما أن هذا النوع من الجمهور يخلط بسهولة بين النظام السياسي المهاجَم وبين الشعب، فتجد العداوة بين المجتمعات موطئ قدم لها. وهذا ما شهدناه للأسف لإضعاف القضية الفلسطينية في الوجدان العربي، إذ راجت أقاويل مثل "باع الفلسطينيون أرضهم"، وشهدنا ذلك في الأزمة العربية الأخيرة بالهجوم على النظم السياسية ومؤيديها وشعوبها، وهذا أكبر خطر يقوم به المتناحرون الذين لا يقيمون وزنا للأمن العربي، ولا يقيمون وزنا لأهمية إخراج الشعوب من الخلافات بين الحكام، ولا يلقون بالا لأهمية التكاتف الاجتماعي العربي كحائط صد أمام أي محاولة للمساس بقيم الشعوب المشتركة، وهي أمور ليست من باب الرفاهية، بل هي محل اهتمام وعناية النظم السياسية الراسخة في الديمقراطية.
مثّلَ يوم الخامس من كانون الثاني/ يناير الحالي يوم انكشاف غمة كبيرة في الخليج أولا، وفي الوطن العربي كافة، وحُقّ للمكروب أن يفرح بما جرى، لأجل الشعوب قبل غيرهم.