منذ انطلاق الثورة التونسية المجيدة قبل عشر سنوات وحتى اليوم، يتهم البعض الثورات الشعبية العربية بأنها "مؤامرة صهيونية"، أو أمريكية، بهدف إدانة هذه الثورات، واتهام من قاموا بها ودفعوا أثمانا باهظة لها بأنهم عملوا بوعي أو بدون وعي ضمن المؤامرة تلك.
ولعل ما يثير المفارقة أحيانا، والسخرية أحيانا أخرى، هو أن يتفق على هذا الاتهام طرفان خصمان، يكن كل منهما العداء للآخر، وهما مؤيدو الأنظمة التقليدية التي كانت تعرف "بمحور الاعتدال"، ومؤيدو الدول التي كانت تصنف ضمن "محور الممانعة".
ثمة سياق تاريخي لتطور مواقف الطرفين المشار لهما أعلاه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في نقاش هذه الظاهرة، فالطرف الأول بدا متشككا بالثورات ورافضا منذ بدايتها بسبب تبعيته لأنظمة الحكم في بلاده، لأن هذه الأنظمة خشيت من خسارة حلفائها في المنطقة من جهة، ومن انتقال عدوى الثورات لبلادها من جهة ثانية، ولهذا فقد بدأت بممارسة الضغوط على الولايات المتحدة وإدارة أوباما خصوصا بعد انتقال الشرارة إلى مصر، بهدف دعم الرئيس المخلوع حسني مبارك وعدم التخلي عنه خوفا من سقوطه كما حدث مع الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي.
وفي الوقت ذاته الذي كانت الماكينة الإعلامية لأنظمة هذه الدول تروج لفكرة "المؤامرة الإسرائيلية" لتمزيق الدول العربية عبر الثورات، كانت الفرق الدبلوماسية لها تنسق مع دبلوماسيي تل أبيب لممارسة الضغط في واشنطن وعواصم الغرب الأخرى لتقديم الدعم لنظام مبارك. لم تخف تل أبيب دعمها لنظام مبارك دبلوماسيا في الغرب، وكان موقف عواصم "الاعتدال العربي" واضحا أيضا لجهة رفض الثورات الشعبية ووصفها بالفوضى والخراب.
فكيف يمكن أن نصدق ادعاء هذا الطرف بأن الثورات "مؤامرة إسرائيلية" في ظل الموقف الواضح لقادة الاحتلال؟ اللهم إلا إذا اعتبرنا أن تل أبيب كانت ترسل دبلوماسييها لدعم مبارك بهدف إكمال المشهد المسرحي للمؤامرة!
أما الطرف الثاني، ونعني به دول "محور الممانعة" ومؤيديها، فقد أعلن دعمه الواضح في بدايات "الربيع العربي"، واعتبرها ثورة على أنظمة معروفة بالتطبيع مع الاحتلال، و"التبعية للمشروع الإمبريالي"، ومن ضمن هذا الطرف كانت إيران تعلن نفس الموقف، بل إن المرشد الإيراني علي خامنئي اعتبر الثورات العربية امتدادا واستلهاما للثورة الإسلامية في إيران.
ومع وصول شرارة الثورة إلى سوريا، بدأت مواقف هذا الطرف تتغير تماما، وصارت تعتبرها مؤامرة "إسرائيلية وأمريكية وكونية" ضد المقاومة، وتتهم كل من يؤيدها بالمشاركة في هذه المؤامرة. فهل كانت دولة الاحتلال تؤيد فعلا الثورة السورية الشعبية؟
إن مراجعة ما نشر من تصريحات رسمية لسياسيي وعسكريي الاحتلال، وما كتب من أبحاث ودراسات لمراكز التفكير الصهيونية مع بداية الثورة السورية، يؤكد أن تل أبيب لم تكن سعيدة بالمحصلة بالثورة السورية.
وحينما نضع هذه النتيجة فإننا لا ننطلق مما يردده أصحاب التفسيرات التآمرية من بعض الأطراف المؤيدة للثورة، والتي ترى أن عداء نظام الأسد لدولة الاحتلال هو مجرد مسرحية، إذ إن هذه التفسيرات لا تقل بؤسا عن أصحاب نظرية "المؤامرة الإسرائيلية"، ولكننا نستند إلى خلاصة غالبية التصريحات والدراسات التي صدرت في تل أبيب.
لم يكن قادة الاحتلال متشجعين لتأييد الثورة السورية لثلاثة أسباب: الأول تبنيهم لمبدأ "الشيطان الذي نعرفه خير من الشيطان الذي لا نعرفه"، بمعنى أن نظام الأسد الابن بما هو امتداد لنظام حافظ الأسد، يمارس سياسة محسوبة ويمكن توقعها، وبشكل أو بآخر فقد تعودت عليها تل أبيب وتحسن التعامل معها، فيما لا يمكن توقع سياسات نظام ما بعد الثورة في حال نجحت في تغيير حكم الأسد.
أما الثاني فهو أن تل أبيب تدرك تأييد الشعوب العربية جميعها للقضية الفلسطينية ورفضها للاحتلال وللمشروع الصهيوني، وبالتالي فهي تخشى من أن أي انتخابات ديمقراطية حقيقية في سوريا وغيرها ستفرز حكما شعبيا يمتلك موقفا واضحا مؤيدا للشعب الفلسطيني، خصوصا مع المخاوف من صعود التيارات الإسلامية التي ترى فيها تل أبيب عدوا مؤكدا.
أما السبب الثالث، فهو أن تل أبيب لا تريد أي ديمقراطية ناجحة في المنطقة العربية، لأن هذا سيقوّض روايتها في الغرب، والتي تقوم على ادعاء أن "إسرائيل هي واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط بين دول متوحشة وأنظمة بدائية استبدادية"، وهي الرواية التي يحصل الاحتلال من خلالها على التأييد في الغرب، على الأقل في الرأي الشعبي العام وفي الساحة الأكاديمية والإعلامية.
إن أكثر ما يخشاه الاحتلال الصهيوني هو انتصار الشعوب في هذا الصراع الطويل، فالشعوب العربية جميعها كانت مع فلسطين قبل الثورات، وستبقى معها بعد الثورات
هذه الأسباب دفعت تل أبيب للخشية من الثورة السورية، ولذلك لم تعلن تأييدها، ولم تسع لدعمها في الغرب، ولكنها صارت تفضل مع الوقت أن يتحول الوضع في سوريا إلى صراع يفكك الدولة، ويضعف كافة أعدائها: النظام وحلفائه من جهة، والقوى المعارضة والشعبية من جهة أخري، وهو ما حصل للأسف لاحقا بسبب التعامل الأمني الدموي من النظام مع الثورة السلمية، وما أتاحه من تدخل غربي وإقليمي.
وإذا تجاوزنا فترة بدايات الثورات وانتقلنا لقراءة موقف الاحتلال من الصراعات القائمة اليوم في دول "الربيع العربي"، فإننا سنجد الأيدي والمواقف "الإسرائيلية" حاضرة هناك، فهي تؤيد نظام السيسي الذي يمثل خسارة الثورة في مصر، وتدعم اللواء خليفة حفتر ممثل الثورة المضادة في ليبيا، وتخشى من الوصول للاستقرار في اليمن أو نجاح التحول الديمقراطي في تونس. إذا فتشنا إذن عن "إسرائيل" فسنجدها بلا شك تقف في معسكر الثورات المضادة، وهو ما يؤكد أنها تعادي الثورات العربية لأسباب تتعلق بمصالحها.
قد يقول البعض إن النتيجة التي آلت إليها الأوضاع اليوم بعد سنوات من الثورات هي لصالح الاحتلال، وهو أمر صحيح تماما، ولكن الصراع في المنطقة العربية بين الشعوب الطامحة للحرية والكرامة وبين الأقليات الحاكمة التي تعتقد أن شرعيتها تستمد من واشنطن وتل أبيب لم ينته.
إن أكثر ما يخشاه الاحتلال الصهيوني هو انتصار الشعوب في هذا الصراع الطويل، فالشعوب العربية جميعها كانت مع فلسطين قبل الثورات، وستبقى معها بعد الثورات، ولكنها لن تتمكن من ترجمة تأييدها للشعب الفلسطيني إلا إذا حسمت صراعها أولا مع الاستبداد واستطاعت تاليا أن تفرض كلمتها.