د. سنية الحسيني
على ما يبدو أن المنطقة تتجه نحو مزيد من التوتر في أعقاب اغتيال محسن فخري زاده أستاذ الفيزياء ورئيس مركز الأبحاث والتكنولوجيا التابع لوزارة الدفاع الإيرانية، رغم أن إيران أرسلت رسائل صريحة تفيد بعدم نيتها الرد على عملية الاغتيال في الوقت الحالي، وكانت اتهمت إسرائيل بتنفيذ عملية الاغتيال تلك. وسواء اختارت طهران الرد أم اختارت عدمه، يبدو أن المنطقة قد تواجه تصعيداً عسكرياً وشيكاً، سيأتي خلال المدة المتبقية من حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وهناك عدد من الشواهد التي تدعم هذه الفرضية، إلا أن مكاسب إسرائيل من ضرب إيران قبل مغادرة ترامب السلطة تجعل هذه الفرضية أكثر ترجيحاً.
رغم تفضيل كل من إسرائيل والولايات المتحدة إقدام طهران على الانتقام لاغتيال زاده لتبرير الضربة التالية لإيران، إلا أن عدم الرد لن يردع إسرائيل أو أميركا عن توجيه تلك الضربة. وأكدت إيران عدم نيتها الرد في الوقت الحالي، معتبرة أن اغتيال زاده جاء لإسقاطها في فخ الرد، مؤكدة أنها ستختار الوقت والمكان المناسبين للقيام بذلك، ضمن سياسة الصبر الاستراتيجي. وكانت طهران قد ردت على اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني قائد فيلق القدس بهجوم على قاعدة أميركية في العراق، من خلال حلفائها من منظمات الحشد الشعبي. كما أن إيران عادة ما ترد بشكل هزيل على هجمات إسرائيل على عناصرها المتواجدة في الأراضي السورية.
ولا تعتبر عملية اغتيال علماء إيرانيين بالأمر الجديدة على إسرائيل، فقد أقدمت على اغتيال خمسة علماء إيرانيين في المجال النووي داخل إيران ما بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٢. وكان باراك أوباما الرئيس الأميركي الأسبق قد ضغط على إسرائيل في حينه لوقف تلك العمليات، تمهيداً لبدء محادثات بلاده مع إيران، التي انتهت بعقد الاتفاق النووي الإيراني العام ٢٠١٥. وتمتلك إسرائيل تاريخاً طويلاً في اقتراف جرائم الاغتيال، بدأ قبل تأسيسها، وامتد عبر سنوات عمرها السبعين، ضد من تعتبرهم أعداء لها، حيث اعتبر عدد من قيادات إسرائيل أن ذلك النوع من العمليات يعد وسيلة ناجحة لتحقيق الأهداف ضمن تكلفة محدودة.
هناك عدد من الأحداث والتحركات والتي جرت، مؤخراً، قبل وبعد حادث اغتيال زاده في منطقة الشرق الأوسط تشير إلى وجود أجواء مريبة تدعو للقلق من توترات قادمة. فقد أعلن ترامب قبل حادث اغتيال زاده بأسبوعين تقريباً بأنه يبحث في خيار ضرب إيران بسبب برنامجها النووي. وأعلن نتنياهو في أعقاب اغتيال زاده بأن هناك شيئا ما يتحرك في الشرق الأوسط، وأن أمام المنطقة فترة متوترة. وأرسلت الولايات المتحدة، مؤخراً، إلى منطقة الشرق الأوسط عدداً من الطائرات من طراز «بي ٥٢»، بالإضافة إلى وصول حاملة طائرات أميركية إلى مياه الخليج. ويقوم جارد كوشنر مستشار الرئيس ترامب بزيارة حاليا إلى السعودية وقطر، حيث يضم الوفد المرافق بريان هوك المستشار السابق للشؤون الإيرانية في إدارة ترامب، ما يعني أن الملف الإيراني سيكون ضمن جدول أعمال اللقاءات.
هناك عدد من الأسباب الاستراتيجية التي تجعل نتنياهو يميل لتوجيه ضربة لإيران خلال الفترة المتبقية من عهد ترامب في السلطة، بينما يشكل توجيه مثل تلك الضربة لجو بايدن الرئيس الأميركي الجديد معضلة مع تسلمه السلطة، وهو ما يسعى إليه ترامب كشكل من أشكال الانتقام لهزيمته. وتعتبر قضية تقويض قدرة إيران النووية وحصر تمددها الإقليمي على رأس أولويات إسرائيل. وحسب مصادر غربية، يعتقد أن إيران تمتلك تكنولوجيا متطورة للصواريخ البالستية وصواريخ كروز، كما تمتلك القدرة على تصميم رؤوس حربية متفجرة تقليدية. وتستشهد تلك المصادر بتمكن إيران من ضرب منشآت نفطية سعودية، باستخدام تلك الصواريخ الموجهة بدقة، رغم عدم إقرار إيران بإقدامها على تنفيذ تلك الضربات. وتعتقد تلك المصادر بأنه بإمكان إيران استخدام ذلك التطور في قدراتها العسكرية التقليدية وتطبيقها في المجال النووي، خصوصاً في ظل الاعتقاد بأن إيران قد طورت من المستوى الإجمالي لتخصيب اليورانيوم بشكل يفوق كثيراً ما تسمح به حدود الاتفاقية النووية الإيرانية. وكان أحد أهم الانتقادات التي وجهت إلى ذلك الاتفاق هو عدم تقييد قدرات إيران في مجال التطوير الصاروخي. وتمتلك إيران حسب تلك المصادر زوارق هجومية وصواريخ مضادة للسفن وألغاما ذكية وأنظمة استشعار عالية الدقة.
وعلى المستوى الإقليمي، تبدو أن التطورات على الأرض تتجه لصالح إيران وحلفائها في المنطقة على حساب إسرائيل وحلفائها فيها. ومن المتوقع أن يعيد بشار الأسد، حليف إيران في المنطقة، إحكام سيطرته على سورية خلال العام القادم، بمساعدة الدعم الروسي والإيراني. ولا يزال «حزب الله» في لبنان يشكل القوة الأكبر والأهم عسكرياً وسياسياً، رغم الانفجار المزلزل لميناء بيروت، وما لحقه من إضعاف للبنان ومكانة «حزب الله». ويتقدم الحوثيون، حلفاء إيران في اليمن، على أرض المعركة، بما يدعم مكانة إيران إقليميا ويزيد من فرصها استراتيجياً للوصول إلى البحر الأحمر. وتكثف منظمات الحشد الشعبي، الموالية لإيران في العراق، هجماتها على القوات الأميركية، بهدف الضغط لتعجيل انسحابها من البلاد، ما سيعزز النفوذ الإيراني فيها. كما أن انسحاب الولايات المتحدة المزمع من أفغانستان العام القادم سيفتح حدودها الشرقية أمام إيران ويمنحها دورا مهما ويعزز نفوذها فيها وفي آسيا الوسطى وجنوب آسيا أيضاً.
تتطلع إسرائيل لاستغلال الوقت المتبقي من حقبة ترامب لحسم ملفاتها العالقة في المنطقة، خصوصاً تلك التي لن تستطيع تحقيق اختراق فيها خلال حقبة الرئيس الأميركي الجديد. إن عدم إقدام إيران على الرد على جريمة اغتيال زادة لن يعطل، على الأرجح، الاتصالات بين إدارة الرئيس بايدن والقيادة الإيرانية، ما قد يفتح الباب أمام إحياء الاتفاق النووي الإيراني. إن ذلك قد يجعل إسرائيل تميل إلى توجيه ضربة قاسية للمؤسسة النووية الإيرانية، الآن، تعطل من تقدمها لسنوات. ولا يميل الرؤساء الديمقراطيون عموماً لسياسة المواجهة والتوتر في منطقة الشرق الأوسط والتي تشكل منطقة نفوذ ومصالح للولايات المتحدة، ويتضح ذلك من السياسة التي انتهجها أوباما مع إيران خلال فترة ولايته، كما تعكس توجهات بايدن المعلنة والداعية للتفاهم مع إيران في إطار ملفها النووي تلك السياسة أيضاً.
ولا تتفق إسرائيل مع توجهات سياسة الرؤساء الديمقراطيين تجاه الملف النووي وتعتبرها متناقضة مع أهدافها وطموحاتها في المنطقة. إن تصاعد التوتر في منطقة الشرق الأوسط وبروز حالة من العداء بين الدول العربية وإيران يدعم تحالف إسرائيل الأمني مع دول عربية، خصوصاً دول الخليج، وهو ما شهدناه خلال السنوات الأخيرة، والتي توجت، مؤخرا، بالإعلان عن اتفاقات التطبيع العربية الإسرائيلية، مع الإمارات والبحرين والسودان، وتفتح الأبواب أمام مزيد من الشراكة العربية الإسرائيلية الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية في المنطقة ومحاصرة النفوذ الإيراني فيها.
اعتبر نتنياهو أن اتفاقات التطبيع تعني «سلام مقابل سلام واقتصاد مقابل اقتصاد» وأمناً مشتركاً. وكانت كل من الإمارات وإسرائيل قد وقعتا على مذكرة تفاهم لتشغيل جسر بري لنقل النفط من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر، لتنضم إسرائيل من خلالها عبر تكرير النفط وتخزينه لأول مرة إلى منظومة الدول الكبيرة المنتجة والناقلة للنفط. ويقدم ذلك الجسر البري طريقاً بديلاً للسفن وناقلات النفط من العبور عبر مضيق هرمز، الذي يشكل رصيداً جيواستراتيجياً لإيران. وسيمكن ذلك الاتفاق أيضاً السفن الإسرائيلية العسكرية من اختراق البحر الأحمر بحجة الدفاع عن سفنها، ما يتيح لها منع تهريب السلاح الإيراني عبره. وتحتفظ إسرائيل بقاعدة استخباراتية في إريتريا، ويمكن للاتفاقية الجديدة بينها وبين الإمارات أن تتيح لها تواجدا استخباريا إضافيا في جزيرة سقطرة القريبة من سواحل اليمن. أتاحت اتفاقيات التطبيع الموقَّعة بين الإمارات وإسرائيل، والتي انضمت إليها لاحقا البحرين والسودان، رفع مستوى التعاون بين تلك البلاد في مجالات استراتيجية حساسة، وأعطت لإسرائيل مكاناً في مواقع استراتيجية مثل البحر الأحمر وباب المندب والقرن الإفريقي.
إن التحالفات الأمنية والاقتصادية بين إسرائيل والدول العربية، وتقويض القوة العسكرية الإيرانية في المنطقة تغير من معادلة توازن القوى لصالح إسرائيل فيها، ما قد يضر على المدى الطويل بمستقبل حل القضية الفلسطينية، وما تقوم به إسرائيل من اتفاقات تطبيع مع دول المنطقة وتطويق لمكانة إيران الإقليمية ومحاولة تدمير قدرتها العسكرية يأتي بهدف تغيير معادلة توازن القوى والصراع في المنطقة.