حدثان تاريخيان قامت بهما دولة الإمارات العربية المتحدة أخيرا، سيساهمان دون شك في إعادة تشكيل جذري للخريطة الجيوسياسية لمنطقي شمال إفريقيا والشرق الأوسط. يتعلق الأمر بتطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل من جهة، ثم إقدامها على فتح قنصلية عامة لها بمدينة "العيون" كأول دولة عربية تكشف عمليا عن موقفها من النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية من جهة ثانية.
قد يعتقد البعض أن ملامح التغيير اللذين نتحدث عنهما في هذا المقال لن تبرز إلا في المدى الطويل أو المتوسط على الأقل، غير أن هذا الاعتقاد يظل من وجهة نظرنا، غير مسنود بأية دعائم واقعية تعضده. بل إن المؤشرات المتسارعة على المستوى الميداني تكاد تقر بالقطع أن التغيير المرتقب قد بدأ فعلا في الحدوث. ولعل أهم المؤشرات التي تصب في اتجاه دعم وجهة نظرنا تكمن في ما يلي:
- إحداث تقاطب تاريخي واضح ورسمي لأول مرة بين مشروعين متمايزين في المنطقة؛
- تغيير جذري في المحددات القبلية التي تحكم تصور دول المنطقة لعلاقاتها الدولية؛
- خروج موقف الفلسطينيين تجاه قضية الوحدة الترابية للمغرب من الدائرة الرمادية وانكشاف عدائهم التاريخي للمغرب.
تقاطب تاريخي يؤسس لمستقبل جديد
لقد جعلنا القرار الإماراتي، المشار إليه آنفا والمتعلق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، نقف اليوم أمام تقاطب تاريخي ورسمي واضح بين معسكرين متمايزين أفرزهما الاختلاف المشروع في التقدير السياسي لراهن ومستقبل منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. نقصد هنا بالتأكيد الاختلاف الحاصل بين خيار يؤمن بأولوية السلم والتعايش المفضيين إلى تحقيق التنمية والرفاه لشعوب المنطقة، وبين خيار لا يزال يعض بالنواجذ على قيم الاحتراب والاقتتال والسفك المستمر للدماء (وهو للإشارة خيار أثبت فشله على طول العقود الستة الماضية ولم تجن منه شعوب المنطقة سوى الدمار والخراب).
يبدو أن القيادة الإماراتية، وهي تقرر تطبيع علاقاتها السياسية مع دولة إسرائيل، قد درست بشكل جيد فلسفة الملك الراحل الحسن الثاني في الحكم وإدارة النزاعات الدولية. فهذا القرار التاريخي يستلهم على نحو عملي ما سبق للحسن الثاني أن ذهب إليه في كتابه الشهير "ذاكرة ملك" حين قال "الخلاصة أن العرب لن يفلحوا أبدا في تسوية هذا المشكل. فأنا لو كنت مكانهم لاعترفت بإسرائيل وأدمجتها في جامعة الدول العربية.... بطبيعة الحال ومهما يكن من أمر، فإنها دولة لا يمكن أن تضمحل". (النسخة الفرنسية ص 245).
هكذا إذن، تمكنت الإمارات من كسر ذلك الطابو الذي قعد له مؤتمر القمة الرابع لجامعة الدول العربية المنعقد بالخرطوم سنة 1967، ذلك الطابو المشهور باللاءات الثلاث: "لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات معها". ومعلوم أن مخرجات هذه القمة قد ساهمت بشكل سلبي في تشكيل رأي عام أجوف يتعاطى مع العلاقات الدولية على أساس العواطف الخادعة لا على أساس موازين القوة والمصالح.
تغيير المحددات القبلية للعلاقات الدولية
هل نكون قد أتينا بجديد حين نقول إن المبدأ الناظم للعلاقات الدولية هو مبدأ المصالح المتبادلة ومراعاة اتجاه موازين القوة؟ بالقطع لا، فهذا المبدأ قد غدا من مسلمات العلاقات الدولية، بل ومختلف العلاقات السياسية حتى في مستواها السطحي والبسيط، منذ نصح المفكر الإيطالي "نيكولا ميكيافيلي" "أميره" في ولاية فلورنسا بحتمية الإيمان بأن "الغاية تبرر الوسيلة". وما دام الأمر على هذا النحو، حق لنا أن نعتبر القرارين الإماراتيين، المشار إليهما آنفا، بمثابة الخطوة الأولى في إصلاح وتقويم مسار المنظومة القيمية التي تنطلق منها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في نسج وتشكيل علاقاتها الدولية.
لقد تمكنت الإمارات إذن من نسف تلك العقدة العاطفية التاريخية تجاه فلسطين، تلك العقدة التي أصبحت فيها مصلحة الفلسطينيين أسمى من المصالح الاستراتيجية لبقية شعوب المنطقة. وذلك من خلال جرأتها على إعادة النظر في المنطلقات النظرية المؤطرة للسياسة الخارجية لدول المنطقة التي ظلت محكومة بالتوجيه من رأي عام غيبت عنه حقائق الواقع الملموس، وترك فريسة عمليات شحن عاطفي تفننت فيها تنظيمات وأحزاب اختزلته في البداية في مجرد دروع بشرية تحتمي وراءها في صراعاتها الطاحنة مع الأنظمة الحاكمة، لتحوله اليوم إلى مجرد كتلة انتخابية لا غير. لقد تمكنت الإمارات إذن من ترتيب سلم أولويات سياساتها الخارجية، بشكل يجعل قضاياها ومصالحها الاستراتيجية القُطْرية في صدارة تلك الأوليات بدلا عن القضايا الموروثة عن زمن النزعات القومية المتهالكة.
فلسطين والمغرب.. من المنطقة الرمادية إلى الانكشاف
في المغرب، وعلى الرغم من المواقف الإيجابية التي قامت الإمارات بتصريفها لصالح الوحدة الترابية للمملكة، لم تجد الحساسية السياسية الإسلاموية والعروبية - التي لا تخفي تقاربها مع المشروع الإيراني المتناغم مع التوجه الإخواني القطري - لم تجد هذه الحساسية حرجا في الترديد الببغائي للقاموس الذي أنتجته الفصائل الفلسطينية في التكالب على القرارات السيادية لدولة الإمارات دون أدنى اجتهاد في سبك العبارات أو إعادة صياغتها. بل اكتفت هذه الحساسية باجترار قاموس عقيم يمتح من محبرة "التآمر والخيانة والعمالة"، حتى يخيل للمرء أن مناصري الأطروحات الفلسطينية المتجاوزة في المغرب سيجعلون الفلسطينيين أنفسهم يرددون بكثير من الامتعاض ما قاله الوزير البويهي والمثقف الشهير "الصاحب بن عباد" ذات يوم من أيام القرن العاشر الميلادي حين استهجن تقليد "ابن عبد ربه الأندلسي المغربي" الطريقة التي كتب بها "أبو الفرج الأصفهاني المشرقي" كتابه "الأغاني"، فقال "هذه بضاعتنا ردت إلينا".
خطاب التخوين الذي يلاحق دولة الإمارات العربية المتحدة، لا سيما في شخص الشيخ محمد بن زايد، هو ذاته خطاب التخوين الذي ما زال الفلسطينيون يروجونه عن المغرب وعن قيادته العليا منذ الخطاب الشهير الذي ألقاه سيء الذكر "جورج حبش" رئيس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" سنة 1979 بمخيمات "تيندوف.
قد يكون البعض نسي، بفعل تراكم الوقائع والأحداث، ما قاله حبش، لكن التاريخ لا ينسى. ففي كتابه "الخروج من فم الثعبان - ربع قرن في سجون الجزائر والبوليساريو" يكشف الأسير المغربي السابق "إدريس الزايدي" كيف صفعه جورج حبش في مخيمات تيندوف زكيف كال للشعب المغربي أبشع النعوت. هذا القيادي الذي أسس للعقيدة الفلسطينية هو نفسه من قال بعظمة لسانه في خطاب ألقاه بمخيمات "تيندوف" سنة 1979 "يا جماهير شعبنا الصحراوي البطل، باسم جماهير شعبنا الفلسطيني، باسم الثورة الفلسطينية، أحيي نضالكم وبطولاتكم وإيمانكم بقضيتكم العادلة. أحيي معارككم ضد النظام الملكي الخائن والعميل بالمغرب. تتبعنا نضالكم البطولي ضد العميل الملك الحسن الخائن. نحن في الثورة الفلسطينية نعتبر العميل الحسن الثاني عدوا لنا كما هو عدو لكم".
بعد حوالي سبع سنوات من خطاب حبش المعادي للمغرب، شعبا وملكا، سيواصل الزعيم الفلسطيني الراحل "ياسر عرفات" تجسيد عقيدة العداء للمغرب ولمصالحه العليا. ففي أبريل من سنة 1987 سيستضيف "عرفات" زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية "محمد عبد العزيز" أثناء انعقاد أشغال "المجلس الوطني الفلسطيني" المنعقد آنذاك في العاصمة الجزائرية، وسمح له بإلقاء كلمة قال عبد العزيز "إن الشعب الصحراوي يعاني نفس معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال".
لقد شكلت هذه الواقعة طعنة غادرة في ظهر المغرب الذي عانى الكثير في سبيل الدفاع عن القضية الفلسطينية، وهو ما دفع بالملك الراحل الحسن الثاني بعد ساعات قليلة من الواقعة إلى إلقاء خطابه الشهير باللهجة العامية المغربية والذي قال فيه "لقد أصدرنا أمرنا إلى جميع ممثلينا، كانوا رسميين أو غير رسميين، يمثلون الأحزاب السياسية أو الهيئات الأخرى، أنهم إذا حضروا أي حفل دولي وقام أي فلسطيني يتكلم عن فلسطين فعليهم أن يغادروا مكان الاجتماع. وأقول، ولا أريد التهديد، ولكن أنا ضمير المغاربة، إذا قام فلسطيني يتكلم عن فلسطين وبقي أي مغربي جالسا فإنه، انتقاما لروح شهدائنا الذين مثلوا وشبهوا بالصهاينة، سيلطخ باب داره بذاك الشي اللي ما كيتسماش". (يقصد تلطيخ باب منزله بالبراز).
الأحداث المؤسسة لعقيدة العداء الفلسطيني للمغرب لم تقف عند هذا الحد، بل يتذكر المغاربة جيدا كيف أقدمت حركة "فتح" الفلسطينية خلال شهر شتنبر الماضي على نشر خريطة مبتورة للمغرب على موقعها الرسمي، في إشارة سياسية واضحة إلى الموقف الرسمي للفلسطينيين من الوحدة الترابية للمملكة. وهو الموقف الذي ظلت سفارة فلسطين بالجزائر ومعها قيادات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تكشفان عنه دون مواربة.
المستلبون بين ظهرانينا في المغرب، لم يعجبهم قرار الإمارات القاضي بفتح قنصليتها العامة بمدينة العيون وإصرارها على تعبئة وتوحيد مواقف جميع دول الشرق الأوسط (رغم صراعاتها البينية) في سبيل الدفاع عن عدالة الموقف المغربي بشأن أزمة المعبر الحدودي "الكركرات"، لكن في المقابل شحذوا سيوفهم الخشبية للدفاع عن الموقف المخزي لفلسطين تجاه الوحدة الترابية للمملكة. لكن محاولاتهم باءت بالفشل، فبعد اتهام إحدى المنظمات الشبابية الفلسطينية المغرب بكونه "دولة احتلال"، سارعت سفارة فلسطين بالمغرب إلى تعميم بلاغ أكدت من خلاله على "احترام فلسطين للوحدة الترابية للمغرب"، غير أن تصريحا مصورا بالصوت والصورة لسفير فلسطين بالجزائر أعاد السؤال عن أية حدود للوحدة الترابية للمغرب يقصد السفير الموجود بالرباط؟
لقد أكد سفير فلسطين بالجزائر أن موقف بلاده الرسمي والدائم "كما يعرف الجميع هو موقف يطالب ويأمل حل القضية بمحبة وتوافق بين كل الإخوة في المنطقة"، ثم أضاف "أن بيان سفارة فلسطين بالرباط لا يمثل السلطة الفلسطينية، وأن فلسطين ترافع لصالح أن تحل القضية في إطار الأمم المتحدة من خلال تسريع إجراء استفتاء يقرر من خلاله الشعب الصحراوي مصيره، باختيار حكم ذاتي أو الانضمام أو تأسيس جمهورية مستقلة". فهكذا خرجت فلسطين من المنطقة الرمادية وأكدت اصطفافها مع أطروحة جبهة البوليساريو المتمسكة بتقرير المصير عبر استفتاء لم يعد لا المغرب ولا المنتظم الأممي يعتبرانه حلا.
*عضو السكرتارية الوطنية لمشروع حزب التغيير الديمقراطي مكلف بالعلاقات الخارجية - المغرب