نادية عصام حرحش
ما الذي يحصل بمجتمعاتنا؟ هل ما نشهده مجرد لوثة أخلاقية معترضة، أم أنّ حياتنا كانت هكذا دائماً، وما يحدث من مصائب نراها تقترب منّا يوميّاً سببه وسائل التواصل التي قربت البعيد، وكشفت المستور، وفضحت ما يدور بداخل الصدور وبالحفر والآبار ومكبّ النفايات؟
كنّا نهتز رعباً وغضباً عند السماع عن جريمة قتل تذهب ضحيّتها أنثى. لم يكن هذا الامر بعيداً، وكانت وسائل التواصل كما اليوم في زهوّها. قبل عام فقط، او قبل عامين فقط، او قبل ثلاثة أعوام على الأكثر، كانت هذه الجرائم ترعبنا، تؤرق منامنا، تجعلنا ننتفض، ونصيح في أعلى صوتنا مطالبين بالحماية وتفعيل القوانين.
اليوم، قد نهتم أو لا نهتم لجريمة بشعة أخرى. لم نعد نميّز إن كانت الضحية أنثى أم ذكراً. فالجرائم على قدم وساق. ولكن تبقى جرائم العنف المجتمعي الاعتيادية أسهل للاستيعاب، على الرغم من بشاعتها ومأساويتها، الا انّها تصبح مفهومة مع كل يوم مع وضع كالذي نعيشه: انعدام الأمن والأمان، انتشار الأسلحة، وانعدام التربية، وتفشي السموم والمخدرات، وسوء الأحوال الاقتصادية وانهيار القيم الاجتماعية حيث كل شيء مستباح. فلا رقيب ولا حسيب. ولا أخلاق رادعة ولا قيم نحمل عليها مغبة هكذا انهيار.
بينما أحاول الا يكون تركيزي على جرائم قتل النساء فقط، لأنه بالمحصلة، الجريمة هي الجريمة. والقتل هو القتل. وروح الانسان التي تزهق هي الخسارة الحقيقية بلا تفضيل لجنسها. ولكن، لا مع هذا، لا يمكن تجاوز ما جرى خلال يومين من جريمتين سمعنا عنهما بلا التوقف مرة أخرى أمام بخس حياة الأنثى في هذا البلد. او ربما لعل اقتراب الامر منا ارعبنا اكثر.. فهذه قصص ممكن أن تكون قصص قريبة منّا. ممكن أن تكون قصصنا أيضا.
كان الخبر الأول العثور على جثة امرأة عشرينية ملقاة في قعر مكان عند منطقة سكنية في رام الله، لنقرأ نعياً من قبل مسرح عشتار لفنانة عشرينية تدعى وئام الديري وقد توفيت في ظروف غامضة.
شابة كانت قبل لحظات معدودة مفعمة بالحياة، يتم ايجادها ملقاة بين النفايات في حي سكني وتسمّى ظروف وفاتها بالغامضة. الشابة من غزة، وتعيش لوحدها، وعليه لملمة الأمر بقضية انتحار قد يكون المخرج الأنسب كما تناولت الانباء.
ذكّرتني القصة بقضية المغدورة نفين عواودة، التي قتلت وتركت من خلفها كل الأدلة التي تدل على قاتلها من خلال صفحتها على الفيسبوك، ومع هذا كان الانتحار هو سبب الوفاة الأول بإعلانات الجهات المختصة بادئ الأمر. وعندما لم تستطع الجهات المسؤولة تأكيد الانتحار لاستحالته في حالة نفين العواودة التي دفعت حياتها ثمناً لكشف فساد اداري بمدرسة كانت تعمل بها، لتجد نفسها مطاردة ومهدّدة وطريدة من كل مؤسسات الدولة والمجتمع، وكان دليل إيجاد قاتلها وملقط الحواجب، وانهاء الأمر بمنشد وعطوة عشائرية بداية النهاية لما يجري اليوم.
كثر القتل منذ رضي اهل نفين العواودة بأخذ ديتها ذهباً واموالاً. وكثر التعدي منذ صار ثمن كل ضحية منشداً ووجهاء ينهون الأمر بفراش عطوة وسدر منسف ومساحة على فنجان قهوة. صارت العطاوي مهنة، والقتل له ثمن، ولكل أمرئ دية.
صرنا نعلل القتل ونعطي الأسباب بلا حاجة لتوليفة جهات مسؤولة بإيجاد ملقط حواجب كدليل خارق للعادة. لا يحتاج المرء سببا أصلاً لكي يقرر أن يقتل انثى. فالأسباب كلها ممكنة ومتاحة، والأهم انّ القاتل سيفلت بلا شك من العقاب مقابل مبلغ من المال ان كان للقتيلة أهل أو سند.
وإذا ما كانت الانثى شابة وغير متزوجة وتعيش في بلد غير بلدها، فهي إمّا منتحرة أو فعلت فعلاً مشيناً دعا القاتل ليقتلها، قد يكون القاتل أباً او اخاً او عاشقاً أو خطيباً أو صبي المخبز أو البقال أو سائق سيارة أجرة… قد يكون عابر سبيل. ولكلّ منهم ولأيّ منهم الحق في قتلها، لأنّه لا بدّ أراد أن يمحو عار ما. عاره أو عارها أو عار المجتمع أو عار ما يراه هو عار.
وئام قتلت أو انتحرت أو ربما وقعت في تلك الهاوية لن نعرف. لأننا نعيش في حالة انعدام حقيقي للأمن والأمان. القانون صوريّ، الا لما تحتاجه السلطات، وتنفيذه مع وقف التنفيذ الا لمن تريد السلطة بسط النفوذ عليهم من البسطاء. والأمن منعدم إلّا لمن يملك السلاح. ولا يملك السلاح الا المتنفّذ، ولا متنفّذ الا صاحب سلطة.. سلطة مال او سلطة رسمية فصائلية. وأولئك يمتلكون إحقاق ما يريدون أو ما لا يريدون من قانون.
امّا إذا كانت الضحية متزوّجة أو مطلقة، فللرجل قتلها بوضح النهار وبالعلن. فلا داعي لأن يخفي نفسه أو جريمته، يستطيع بكل بساطة أن يوقفها بوضح النهار معترضاً سيارتها بوسط الطريق ويهجم عليها طعناً ويقتلها ويكمل طريقه. هذا ما جرى مع وفاء العباهرة ابنة ٣٧ سنة والأم لخمسة أو أربعة أطفال في بلدة عرابة البطوف.
كم مرّة سمعنا عن هكذا جرائم في السنوات الأخيرة؟ كم زوج قتل زوجته؟ وكم أخ قتل اخته؟ وكم أب قتل ابنته؟ قصة اسراء غريب صارت عادية. منذ شهور قليلة قتل احدهم خطيبته خنقاً واغلق الموضوع وكأن أمراً لم يكن. فتصبح الضحية المقتولة هي المجرمة التي استحقت قتلها. وقصة نفين عواودة تعتبر ترفاً بالمقارنة بالقصص الكثيرة الأخرى، تلك التي سمعنا عنها، والكثير مما لم نسمع عنه. ماذا يعني أن تقتل امرأة أخرى؟ دفن عار وراحة ابدية لأهلها، وربما بعض المكاسب المالية.
وصلنا بالفعل إلى نقطة قاتمة في مصيرنا كبشر. فما أبخس الحياة الإنسانية وما أشد كفر البشر عليها.
تلك الضحايا من النساء… ألا يخاف القتلة باسم الدين والشرع والشرف ومَن يحميهم ويدعمهم ويتستّر عليهم، من يوم حساب تُسألُ فيه: بأيّ ذنبٍ قُتِلْتِ؟
أمّا نحن الضحايا المستقبليّون ما عسانا إلا أن ننتظر دورنا في طابور القتل والعنف وسفك الدماء… فلا أمن ولا أمان ولا حياة، لمن يحاول أن يكون إنساناً في هذا البلد السليب.
كاتبة فلسطينية