حماية لحقوق الإنسان السوري أم انتهاك لها؟
في زمن الجائحة، وفي ظل توصيات وقرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى الرأفة بالإنسان، لا سيما في مناطق النزاعات المسلحة، صادق الكونغرس الأمريكي على ما يعرف بـ"قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين"، الذي تم إدراجه ضمن برامج ميزانية الدفاع الوطني للولايات المتحدة لسنة 2020 كبرنامج موجه لتنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية ضد سوريا وحلفائها. وحسب الرواية الأمريكية، فإن "قيصر" هو اسم مستعار لشخص/جندي سوري انشق عن الحكومة السورية وسرّب سنة 2013 حوالي خمسة الآلاف صورة توثق لانتهاكات جسيمة للمعارضين السورين بين عامي 2011 و2014.
هذا القانون، الذي دخل حيز التنفيذ في 17 يونيو 2020، يفرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على سوريا، ويسعى، حسب كاتب الدولة لدى وزارة الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، "إلى وضع حد للنزاع المسلح الرهيب الذي تعرفه سوريا، وإلى محاسبة كل من كان وراء قتل المدنيين وارتكاب جرائم أخرى بما فيها استخدام الأسلحة البيولوجية..."، كما يهدف "إلى قطع الطريق على الفاعلين الدوليين الأجانب المتعاونين مع نظام بشار الأسد".
ما يُستفاد من إعلان النوايا الأمريكية أن الدافع وراء فرض العقوبات الاقتصادية، بموجب قانون "قيصر"، هو حماية الإنسان السوري من تعسف نظامه، وهي رواية يصعب تصديقها في علاقات دولية عمودية تقوم على القوة والمصلحة. وعلى فرض صحة هذه المطيّة التي يركبها الغرب بين الفينة الأخرى، فهل يمكن الاقتناع بأن الدفاع عن حقوق فئة من الشعب يستلزم معاقبة الشعب السوري مجتمعا؟ هل يُبيح ميثاق الأمم المتحدة قيام الدول بشكل انفرادي باتخاذ إجراءات خارج نظام الأمن الجماعي الذي عُهد من خلاله إلى مجلس الأمن بمهمة الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وتقييم الأوضاع واتخاذ ما يراه مناسبا من إجراءات في حالة الإخلال بالسلم والأمن الدوليين؟ ما هو مصير القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة للتخفيف من وطأة جائحة "كوفيد-19" على الدول التي تعاني من استفحال النزاعات المسلحة على أقاليمها؟
المُستهدف علنيا من هذه العقوبات هم الأشخاص، المؤسسات والشركات، بالإضافة إلى الدول الشريكة لنظام بشار الأسد. بمعنى أن الرئيس السوري، والحكومة كما الجيش وجهاز المخابرات هي الجهات التي تستهدفها الإدارة الأمريكية، لكن واقع الحال الذي لا تُخطئه عين أن الاقتصاد السوري هو المتضرر الأول من هذه التدابير الاقتصادية الأمريكية بحكم أن الدولة والجهات المذكورة هي من تدير أغلب القطاعات الحيوية في البلاد كقطاع الطاقة، النقل، الفلاحة، وأغلب شركات التصنيع المملوكة للدولة، كما هو حال العديد من الدول النامية. وبالتالي لا يمكن أن نفصل بين الدولة بكل مكوناتها المستهدفة من العقوبات والاقتصاد السوري. وتبقى الاستثناءات التي أقرها قانون "قيصر" والمتعلقة بقطاع الأدوية والمساعدات الإنسانية محدودة التأثير على اعتبار أن منظمات المجتمع المدني لا تنخرط بالشكل المطلوب في هكذا مشاريع بسبب تعقد المساطر والإجراءات المعمول بها في هذا الشأن. كما تمارس العديد من المنظمات العاملة في المجال الإنساني رقابة ذاتية خوفا من الإدارة الأمريكية.
هذه العقوبات ستمنع الرأسمال الأجنبي من الاستثمار في سوريا، فمن غير المعقول أن تشرع الشركات الأجنبية في تنفيذ مشاريع في بلاد تُطوّقها التدابير القسرية من كل جانب، كما ستمنع السوريين من إعادة بناء بلدهم لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، وهي مدة سريان هذا القانون. فمحاولة نفض غبار الدمار وإعادة الإعمار من قِبل دول مثل روسيا، الصين، إيران، الهند وبعض دول الخليج اصطدمت بقانون "قيصر". كما وجدت دول أخرى -مثل العراق، الأردن ولبنان التي ترتبط تجارتها بشكل وثيق ومباشر- نفسها متضررة من التدابير الاقتصادية المفروضة على سوريا. وتعتبر لبنان الدولة الأكثر تضررا من هذا القانون حيث فقدت دورها كمعبر تجاري لفائدة تركيا التي ستصبح البوابة التجارية الوحيدة نحو سوريا.
إن تضرر الدول المجاورة للدولة المستهدفة من التدابير القسرية يمثل في حد ذاته انتهاكا لأحكام المادة 50 من ميثاق الأمم المتحدة الذي تفرض على مجلس الأمن أن "يتذاكر" مع الدول التي تواجه مشاكل اقتصادية تنشأ عن تنفيذ هذه التدابير. كما أنّ الأصل في نظام الجماعي هو أن مسؤولية اتخاذ العقوبات الاقتصادية تعود حسب مضمون المادة 41 من الميثاق إلى مجلس الأمن من منطلق تمكين المجلس من الوسائل القانونية اللازمة لقيامه بمسؤولية حفظ السلم والأمن الدولي كما نص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة في المادة 24 منه، ولا حق للدول في فرض تدابير اقتصادية قسرية منفردة على دول أخرى، بل يقع عليها واجب قبول قرارات مجلس الأمن في هذا السياق وتنفيذها حسب منطوق المادة 25 من الميثاق.
إن فرض العقوبات الاقتصادية في فترة استنزاف لقدرات الدول الاقتصادية بفعل الكساد الذي يعرفه الاقتصاد العالمي الناتج عن تفشي جائحة كوفيد-19، يضرب في العمق كل الأطروحات الأمريكية والغربية المدافعة عن حقوق الإنسان التي طالما بشرت بها الإنسانية، بل ويشكك حتى في برامج الأمم المتحدة الإنمائية. كما يشكل قانون "قيصر" تحقيرا لقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بجائحة "كوفيد-19"، ولا سيما قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2532 (يوليوز 2020) حول جائحة "كوفيد-19"، الذي أصدره انطلاقا من مسؤوليته الأساسية في حفظ السلم والأمن الدوليين وفي إطار مقاصد الأمم المتحدة.
لقد جاء هذا القرار (2532) محمّلاً بعبارات القلق والتخوف من أثر وباء كورونا المستجد على السلام العالمي، خاصة في الدول التي تشهد استفحال النزاعات المسلحة. كما نص على الوقف الفوري لجميع الأعمال المسلحة حتى يتسنى التخفيف من وطأة الجائحة وتمكين الدول والأقاليم من توفير الإمكانيات المتاحة للتصدي لجائحة "كوفيد-19"، باستثناء الأعمال التي تستهدف القضاء على الجماعات المسلحة المتطرفة. وكما هو معلوم فإن سوريا من أكثر الدول تضررا من الحرب ضد "داعش"، وبالتالي فالأولى مساعدتها تقنيا وإنسانيا وليس منعها من امتلاك وسائل عسكرية بسيطة إلا إذا كان إسقاط النظام السوري بسلاح العقوبات أكثر أهمية للمنطقة من القضاء على المجموعات المسلحة المتطرفة؟
وليست هذه هي المرة الأولى التي تُوظّف فيها الولايات المتحدة سلاح العقوبات الاقتصادية للإطاحة بنظام سياسي، بل لها في ذلك سوابق عديدة تعود واحدة منها إلى سنة 1971 عندما وصل الرئيس سلفادور أليندي إلى الحكم في التشيلي عبر صناديق الاقتراع، وشرع في تأميم مناجم النحاس على أساس منح تعويضات للشركات الأمريكية. وقد رأت الولايات المتحدة حينها في هذا الإجراء سابقة تؤذن ببداية التحول نحو نظام شيوعي داخل القارة الأمريكية. وبحكم اعتماد الاقتصاد التشيلي بشكل كبير على السوق الأمريكية التي أضحى من الصعب الاستمرار في التعامل معها نتيجة الموقف الرسمي الأمريكي أو نتيجة لموقف الشركات الأمريكية، أدى الحصار الأمريكي إلى أزمة اقتصادية غير مسبوقة في البلاد انتهت بالإطاحة بنظام أليندي بعد انقلاب عسكري نفذه الجيش في 11 شتنبر 1973. وقد عانت كوبا بدورها منذ سنة 1959 من هذه التدابير القسرية الانفرادية إلا أن الولايات المتحدة لم تنجح في الإطاحة بنظام الحكم في هذه الدولة.
لقد هدفت الإجراءات القسرية الأمريكية إلى حظر اقتناء قطع الغيار وشراء أجهزة جديدة وكذا المواد الأولية مما حال دون استئناف العمل بمواقع الإنتاج الوطنية. ونتيجة لذلك تعطلت عجلت الإنتاج وتعطلت معها فرص خلق مناصب للشغل، وقد ترتّب عن هذا الوضع حرمان فئة كبيرة من الساكنة النشيطة من مصادر تحصيل قوت عيالها، كما عرفت الليرة السورية هبوطا حادا في قيمتها بالمقارنة مع الدولار الأمريكي، ما تسبب في ارتفاع مهم في سعر المواد الغذائية والأدوية الذي بلغ أكثر من مئة بالمائة خلال سنة واحدة حسب البرنامج العالمي للأغذية (PAM). فالأكثر هولا من الحرب هو ما أسماه الرئيس الأمريكي الأسبق ويلسون "العلاج الاقتصادي السلمي الصامت القاتل" الذي يعتبر من الناحية النظرية أقل تدميرا من الحرب وأكثر "تمدنا".
العقوبات، هذا السلاح الاقتصادي، قتل في العراق أكثر مما فعلته القنابل والصواريخ، فهي أكثر فتكا وتدميرا ونتائجها أكثر فظاعة من العمل العسكري. وتقع التدابير الاقتصادية الزجرية -من حيث القوة- بين الشجب والإدانة، وبين العمل العسكري، فهي أكثر فعالية من الشجب وأقل دمارا من استخدام القوة المسلحة، وان كانت نتائجها على الأرض أكثر قسوة وخرابا، ووحده مجلس الأمن، يضطلع بفرض هذه الإجراءات القسرية، بالإضافة إلى المنظمات الإقليمية بعد الترخيص لها من قِبل مجلس الأمن.
لقد كان أمام "قيصر-الشخص" إمكانية التوجه إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تقدم نفسها كهيئة مستقلة ومحايدة تضمن الحماية والمساعدة في المجال الإنساني لضحايا النـزاعات المسلحة وحالات العنف الأخرى، ويرتكز عملها على قواعد القانون الدولي الإنساني. ومع ذلك لم يهتم "قيصر" والمجموعة المساندة له بالتوجّه نحو هذه المنظمة لضمان تدبير الواقعة وفقا لقواعد القانون الدولي الإنساني، بل تم تسليم الصور إلى صحفية فرنسية تسمى غارونس لوكيسن Garance Le Caisne التي نشرت رواية "قيصر" للأحداث مرفقة بصور فضيعة لجثت وضحايا تعرضوا للتعذيب. وقد لقي نشر هذه الصور صدى إعلاميا كبيرا، كما تم استدعاء "قيصر" من قبل أعلى الهيئات السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا، وتم تقديم الصور في معارض على المستوى الدولي، في الأمم المتحدة وفي البرلمان الأوروبي، كما تم اعتمادها كأدلة إثبات على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وذلك في سياق الإعداد "لمسطرة جنائية دولية" باشرها النائب العام في المحكمة الاتحادية العليا في محكمة مقاطعة كوبلنس Coblence (الألمانية) ضد اثنين من المتعاونين المفترضين مع الأجهزة السرية السورية. وحسب قواعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإن عرض الصور بشكل علني ينتهك كرامة الضحايا وعائلاتهم. لذلك يبقى سيناريو تَلقُف هذه الصور وطريقة تقديمها إلى الرأي العام الدولي بهذا الشكل محاطا بالكثير من الغموض.
وما يزكي هذا التوجس ما عبر عنه السيد بيتر لوبريش Peter Leuprecht، مدير قسم حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي في مسألة حقوق الإنسان، في مقال بعنوان "حقوق الإنسان وحقوق الشعوب" نشره في فبراير 1984 بجريدة "لومند دبلومتيك" الفرنسية، أعرب من خلاله عن رأيه في مسألة اهتمام المؤتمرات الدولية بحقوق الإنسان، بالكلمات التالية: "عندما نحاول، وكما أفعل شخصيا، أخد موقف مستقل من النقاشات الدولية حول حقوق الإنسان، تبدو لي أهمية كشف الحقيقة التي تختبئ وراءها الخطابات والتصريحات الرسمية (....) أود الكشف بالخصوص عن مظهرين لهذه الحقيقة كما أراها:
أولا: ونحن نتتبع النقاشات الدولية حول حقوق الإنسان وحقوق الشعوب كما تتم إدارتها من طرف الهيئات الدولية مُمَثَّلة بمبعوثين من الدول، نتساءل كم من هؤلاء المبعوثين أو الممثلين يمكن اعتبارهم بالفعل ممثلين للناس وللشعوب؟ نشارك في أغلب الأحيان في مهرجانات للوقاحة والنفاق، رسميا جميعهم مع حقوق الإنسان، وربما بينهم الأكثر انتهاكا لها (....)
ثانيا: إن هذه المؤتمرات تدار بكلمات مفخخة، بكلمات ليس لها المعاني التي يقصدها مستعملوها (....) مصطلحات مثل "الشعب"، "التنمية"، "الحرية" و"السلام" (....) أليس هذا الأمر بعيدا عن الواقع، بل ساذج...".
*أستاذ زائر بكلية الحقوق عين الشق بالدار البيضاء وباحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي العام