لقد كشفت المعطيات الإحصائية الرسمية لوزارة العدل أن التطليق للشقاق في تزايد مستمر، وأنه يوجد في طليعة بقية الأحكام القاضية بالتطليق بين الزوجين، فقد سجل سنة 2008 ما نسبته 90,53 % من أحكام التطليق بمجموع 24854 حكما، في حين بلغ سنة 2009 نسبة 59,94 % بعدد أحكام بلغ 29404 أحكام، وخلال سنة 2010 وصلت النسبة إلى 96% بما مجموعه 32331 حكما، وفي سنة 2011 قفزت هذه النسبة إلى 97,65 % بعدد 32365 حكما، واستقرت هذه النسبة في 97,80% سنة 2012 من مجموع الأحكام بعدد وصل إلى 48376 حكما، بينما بلغت سنة 2013 نسبة 97,51% بما مجموعه 39836 حكما، ثم تراجعت نسبيا سنة 2015 إلى 46919 حالة تطليق. (46377 شقاق). مما يجعل هذه المسطرة "غولا مخيفا" يدمر مع توالي السنين عددا كبيرا من الأسر المغربية، وأداة "قانونية" لهدم البيوت!!
وهنا يحق لنا أن نتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذا الارتفاع المهول لحالات انفصام عرى الزوجية بسبب إعمال هذه المسطرة القانونية وتحت سلطة القضاء؟ وما هي الأسباب التي جعلتها تنزاح عن الغايات والمقاصد التي من أجلها شُرعت، ألا وهي إزالة الظلم ودفع الضرر ورفع الحرج عن الطرف المتضرر زوجا كان أم زوجة، وذلك من جراء استمرار علاقة زوجية غير طبيعية وغير مستقرة؟ لا أن تكون أداة "قانونية" لهدم البيوت من غير دليل مقنع ولا حجة دامغة !!
1 - أسباب تضخم حالات التطليق للشقاق:
إن ارتفاع نسب التطليق بسبب الشقاق تتداخل فيها عدة أسباب قانونية واجتماعية ونفسية وتربوية، يمكن إيجازها في ما يلي:
أ- كون مفهوم الشقاق وعاء واسعا يمكن أن يشمل جميع الخلافات الزوجية ولو كانت بسيطة وتافهة أحيانا، حيث أصبح "الشقاق" كما قال بعض الباحثين وسيلة من لا وسيلة له، ولذا أسيء استعماله من قبل العديد من الأزواج وكذا الزوجات.
ب- تفضيل كثير من الأزواج (الذكور) اللجوء إلى هذه المسطرة، عزوفا عن مسطرة "الطلاق الرجعي" مخافة اتهامهم بالتعسف في استعمال حق إيقاع الطلاق، وأيضا تخففا من بعض المستحقات الخاصة بالطلاق (نفقة العدة والمتعة إذا كانت الزوجة هي طالبة التطليق)، مع إمكانية المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي توفره مسطرة التطليق بسبب الشقاق إذا ثبت أن الزوجة كانت سببا في حصوله.
ج- لجوء الزوجات إليها بشكل كبير (بلغت عدد الطلبات المقدمة من طرف النساء سنة 2012 ما مجموعه 40325 طلبا مقابل 28957 الرجال، وفي سنة 2013 بلغت طلبات النساء 38855 مقابل 30484 للرجال)؛ بحكم أنها توفر لهن أولا، إنهاء العلاقة الزوجية بشكل بائن لا يقبل المراجعة إلا بعقد جديد، ودون الاضطرار إلى الإتيان بأي سبب موضوعي أو إثبات ضرر ظاهر لذلك، ثم ثانيا ضمان الاستفادة من المستحقات المترتبة عن الفرقة الزوجية مع إمكانية الاستفادة من التعويض عن الضرر الحاصل لها من جراء الشقاق بينها وبين زوجها. حتى إن بعض النساء اتخذن هذه المسطرة وسيلة للاغتناء والإثراء غير المشروع!!!
كما يمكن أن يعزى هذا الإقبال المكثف من قبل النساء على هذه المسطرة إلى سوء فهم مقتضيات مدونة الأسرة، خاصة في الشق المتعلق بالحقوق المالية المرتبطة بالمادة 49 من المدونة، ويرجع هذا الفهم الخاطئ إلى كون العديد من النساء اللائي يُقْبلن على هذه المسطرة يعتقدن أن "المدونة أصبحت تُخَول لهن بمقتضى هذه المادة إمكانية اقتسام الممتلكات المالية والعينية مع أزواجهن بعد التطليق"، و"أن من حقهن عدم الخروج من بيت الزوجية إن كان لهن أطفال..."؛ والحال أن المادة لا تنص على هذا مطلقا، لأن مضمونها يتعلق بتنظيم الذمة المالية للزوجين، وكيفية تدبير الأموال المكتسبة أثناء الحياة الزوجية، وكيفية حل النزاع المالي بين الزوجين في حال عدم وجود اتفاق ينظم هذا الأمر بينهما. كما يعزى هذا الأمر إلى التحريض السلبي من قبل بعض جمعيات المجتمع المدني على التعاطي لهذه المسطرة بدعوى أن فيها "تحررا للنساء من جبروت وتسلط الأزواج"!!
د- تعدد حالات الافتراض التشريعي التي تيسر إمكانية اللجوء إلى هذه المسطرة، وكأن الأصل في الحياة الزوجية هو حصول التنافر والشقاق والخلاف المستديم وليس دوام المودة والرحمة والمساكنة الهادئة والمطمئنة.
إن هذه الأسباب مجتمعة تستدعي ضرورة الوقوف عند معطيات التطليق بسبب الشقاق من أجل القيام بتقييم موضوعي ودقيق لهذه المسطرة قصد المراجعة وإعادة الضبط، بحكم أنها خرجت عن مقاصدها التشريعية، وتحولت إلى أداة لإشباع طموحات نفسيات أنانية وعقليات انتهازية وضمائر ميتة لا تقدر الأمور حق قدرها، ولا تنظر إلى العواقب السيئة التي تنتج عن الفرقة بين الزوجين، ولا تستحضر آثارها السلبية وانعكاساتها الخطيرة على مستقبل الأسرة المغربية ككل.
2 - مقترحات لمراجعة مسطرة التطليق للشقاق:
- ضرورة إعادة النظرة في كيفية التعاطي مع مسطرة الشقاق؛ وذلك بجعلها مسطرة تصالحية غايتها مساعدة الأزواج في إيجاد حلول لنزاعاتهم التي تعرض أمام القضاء الأسري لأجل الحفاظ على استقرار العلاقات الزوجية واستمرارها، بدل جعلها "مسطرة طلاق وفراق بامتياز".
- إعادة النظر في قواعد التكييف الخاصة بكثير من الطلبات التي يدعي أصحابها "الشقاق" (مثل عدم الإنفاق، الغيبة، الهجر، العيب...)، وبالتالي إحالتها على الاختصاص المناسب.
- عدم البت في دعاوى الشقاق إلا بناء على الإثبات القوي الدال على وجوده حقيقة لا ظنا وتوهما، والبت برفض الطلبات التي تفتقر لشروط ومواصفات الشقاق.
- الفصل في أجل أقصاه 18 شهرا في بعض دعاوى الشقاق التي تفتقر إلى إثبات الضرر والشقاق، وخاصة في حال وجود أطفال.
- ترتيب جزاء قانوني (متابعة زجرية) في حق كل من ثبت توظيفه لهذه المسطرة بسوء نية، سواء كان زوجا أم زوجة؛ لأن من شأن ذلك أن يحد من التعسف في استعمال هذا الحق.
ـ توحيد قواعد النظر في الدعاوى التي يتقدم بها الأزواج أو الزوجات في مسطرة الشقاق، كاعتماد المقتضيات الخاصة بتبليغ الزوجة المنصوص عليها في المادة 81 من مدونة الأسرة، سواء كان المطلوب في التبليغ زوجا أم زوجة.
- إعادة النظر جذريا في مسطرة الصلح الأسري، حيث أثبت العمل القضائي أن تعيين الحكمين من طرفي النزاع لا يؤتي ثماره إلا نادرا، بل ويُكرّس -في كثير من الأحيان- حجم الشقاق ويزيد في تعميق هوة الاختلاف بين الزوجين. إما بسبب عدم أهلية الحكمين لعملية الصلح الأسري، أو لافتقادهما لآليات الإصلاح بين الناس، أو بسبب التعصب الحاد للطرفين.
ــ عدم إسناد مهمة إصلاح ذات البين لقاضي الحكم، ولو في غرفة المشورة؛ لأنه لا يمكن للقاضي أن يجمع بين مهمتين متعارضتين وهما: مهمة "القاضي" الذي يهمه الفصل في النزاع بين الطرفين ورفع الضرر عنهما. ومهمة "المصلح الاجتماعي" الذي يهمه إيجاد الحلول الاجتماعية المناسبة التي تحفظ كيان الأسرة من التمزق. فازدواجية المهمة المسندة لنفس القاضي تجعل دوره في الصلح "شكليا" لا يتعدى مساءلة الأطراف حول مدى رغبتهم في الصلح أم لا، دون أن يكلف نفسه عناء وجهد احتواء الخلاف العائلي؛ نظرا لكثرة القضايا المعروضة عليه أولا، مما لا يتيح أمامه فرصة الاستماع لكل الأطراف المتنازعة بالشكل الكافي، ثم لعدم توفره على مهارات الاستماع والإقناع التي يحتاجها مثل هذا النوع من القضايا.
ـ تفعيل دور المساعدين الاجتماعيين القضائيين بالمحاكم خاصة في مسألة الصلح الأسري؛ باعتبارهم فئة مهنية متخصصة في مجال العلاقات الإنسانية، وتمتلك ما يكفي من المهارات التواصلية والأدبية التي من شأنها أن تساعد القضاء في حل العديد من قضايا "الشقاق"؛ وفي هذا السياق يستحسن أن يتم عرض هذا النوع من القضايا عليهم قبل بدء المناقشات أمام المحكمة، والاستئناس بتقاريرهم لاتخاذ القرار المناسب سواء بإقرار الصلح بين الطرفين أو القضاء بالفرقة بينهما.
- إعداد فضاءات ملائمة للصلح الأسري تكون أقرب إلى فضاء البيوت المغربية من حيث التجهيز والمناخ الاجتماعي وأساليب الاستقبال وغيرها؛ لأن فضاء المحاكم لا يساعد على إجراءات عملية الصلح، بسبب النظرة الانطباعية السائدة لدى عموم الناس، والتي تنظر إليه على أنه فضاء للنزاع والخصومة والغلبة وليس فضاء للإصلاح وجبر الخواطر.
- توحيد الاجتهاد القضائي في مسألة التعويض عن الضرر الناشئ عن الشقاق، مع ضرورة وضع ضوابط معيارية موحدة تحدد بوضوح مفهوم "الضرر".
- عدم إحضار هيئة الدفاع في جلسات الصلح الأسري الخاصة بقضايا الطلاق والتطليق؛ وذلك أسوة ببعض التشريعات المقارنة، حيث جرى العمل في المحاكم التونسية على عدم حضور المحامين في كامل الجلسة الصلحية. بل ومكّن المشرع الفرنسي القاضي من الاستماع لطرفي دعوى الطلاق كل واحد منهما على انفراد دون حضور أي شخص آخر.
- الإسراع في تقنين ومأسسة الوساطة الأسرية وتفعيلها في كل النزاعات الأسرية بما فيها قضايا التطليق للشقاق.
- إشاعة ثقافة الصلح والتصالح كحل حضاري لكل النزاعات المجتمعية، وخاصة النزاعات الأسرية؛ وذلك بالتكثيف من البرامج والندوات التثقيفية التي تُشيع هذه الثقافة عبر المنابر الدينية في المساجد، وفي المؤسسات التعليمية والتربوية، وفي وسائل الإعلام المختلفة، وفي هذا الإطار يُسْتَحسن إعداد وصلات إشهارية تعرف بخطورة هذه المسطرة، وتُحَذّر من عواقبها السلبية سواء في حق الزوج أو الزوجة أو الأطفال أو المجتمع عموما.