بؤس العقل الديني من إساءة المقدس إلى تقديس الإساءة

أحد, 11/01/2020 - 22:06

إن الحديث عما أصبح‮ ‬يسمى بقضية‮ "‬الرسوم المسيئة للرسول‮" ‬يحتمل مقاربات عديدة، منها السياسي‮ - ‬الإيديولوجي،‮ ‬وهو الشكل أو الزاوية الأكثر شيوعا،‮ ‬إذ إن الاحتجاجات التي‮ ‬تعم الشارع العربي‮/‬الإسلامي‮ ‬تكشف عن هذا التأويل،‮ ‬وهو بكل ما عليه من مؤاخذات‮ ‬يظل مقبولا ومشروعا ومبررا‮. ولكن أن‮ ‬يصبح كبرى القضايا التي‮ ‬ينتفض من أجلها الشارع العربي‮/‬الإسلامي،‮ ‬فهنا تصبح المسألة تحمل دلالات‮ “‬الكارثية‮” ‬ وتكشف عن مآزق العقل العربي‮ ‬الإسلامي،‮ ‬بل وبؤسه أيضا‮. ولفهم بعض جوانب هذه الاختلالات التي‮ ‬صارت جزءا من بنية العقل العربي‮/‬الإسلامي،‮ ‬فإننا نرى أنه‮ ‬ينبغي‮ ‬البحث فيها انطلاقا من النقط التالية‮:‬ ‬في‮ ‬دواعي‮ ‬نشر الرسوم قد‮ ‬يكون السبب من وراء نشر تلك الرسوم هو اختبار رد فعل العالم الإسلامي‮ ‬ودرجة تعلقه بالمقدس الديني،‮ ‬ومن ثم فهو‮ ‬يشكل محرارا لتشبثه بالدين الإسلامي‮ ‬وحقيقته. ‬كما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون السبب في‮ ‬ذلك هو حرية التعبير داخل المجتمعات الغربية،‮ ‬وما تقتضيه أدبيات حريات الرأي‮ ‬داخل القوانين الوطنية والدولية‮º ‬غير أنه مهما كانت الدواعي‮ ‬من وراء‭ ‬هذا النشر فإن ما‮ ‬يظل مثيرا،‮ ‬حقا،‮ ‬هو هذا الرد الجنوني‮ ‬الذي‮ ‬يقوده الإنسان المسلم داخل الشوارع‮. لذا¡ وجب البحث في‮ ‬الحيثيات الثقافية التي‮ ‬وردت فيها هذه الإساءة.

‬إن الدال الموظف في‮ ‬هذه الإساءة هو رسوم،‮ ‬ونوع الرسوم هو الكاريكاتير. ‬وهذا الفن من أهم خصائصه هو السخرية التي‮ ‬تكسر حاجز الواقعية‮. ‬والهدف من هذا الفن،‮ ‬الذي‮ ‬يخضع لأوليات وقيم فنية لها مقوماتها وضوابطها،‮ ‬هو إبلاغ‮ ‬رسالة مّا تتسم بالشحنة والقوة التعبيرية لدى المتلقي‮ ‬لها‮.

ويقسم النقاد هذا الفن إلى‮:‬ ‮- ‬الكاريكاتير الاجتماعي‮ ‬الذي‮ ‬يكشف عن التناقضات التي‮ ‬يعاني‮ ‬منها الواقع الاجتماعي،‮ ‬وهو‮ ‬يتسم بالسخرية اللاذعة والتهكم الشديد،‮ ‬لكن تأثيره‮ ‬يظل محدودا.

‮- ‬الكاريكاتير السياسي،‮ ‬وهو الأكثر انتشارا ويكون الهدف منه‮ نقد الواقع السياسي‮ ‬بنوعيه المحلي‮ ‬والعالمي،‮ ‬وإذا كان المحلي‮ ‬يصلح أن‮ ‬يشفع بتعليق،‮ ‬فإن العالمي‮ ‬يقتصر على الرسم فقط حتى‮ ‬يضمن تداول الخطاب وانتشار دلالته وإن اختلف السياق الثقافي‮ ‬والسياسي‮ ‬والاجتماعي.

مُؤدى ذلك كله هو‮ ‬أن الرسوم الساخرة‮ ‬ليست هدفا في‮ ‬ذاتها،‮ ‬وإنما هي‮ ‬دال‮ ‬يحمل دلالات ما تكون هي‮ ‬المقصودة،‮ ‬وهنا لا بد لنا من النظر إلى‭ ‬المسألة من زاويتين،‮ ‬علاقة العربي‮/‬المسلم بالرسم ‬أو الصورة بشكل عام، ‬ثم علاقة الغربي‮ ‬بالصورة ونظرته للآخر‮:‬

أ‮- ‬إن علاقة العربي‮/‬المسلم بالفنون كلها مشوبة باللبس والغموض،‮ ‬فهو مُحرّم في‮ ‬العديد من الأوساط،‮ ‬ومنبوذ في‮ ‬أخرى ومهمش عند البعض‮. ‬والسبب في‮ ‬ذلك‮ ‬يعود إلى اعتبارات عديدة،‮ ‬لكن الديني‮ ‬منها‮ ‬يقف على رأس الأسباب‮.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن فن الكاريكاتير‮ ‬غالبا ما‮ ‬يشتغل على التحريف في‮ ‬الملامح الرئيسية للشخص،‮ ‬أو‮ ‬يتم الاستعاضة عن الملامح بأشكال الحيوانات،‮ ‬فإن الكاريكاتير سيكون هو الشكل التصويري‮ ‬الأكثر نبذا من لدن المسلمين الذين‮ ‬يرون في‮ ‬ذلك تشويها للخلقة التي‮ ‬تؤول في‮ ‬النهاية إلى السخرية من‮ "صنيع/خلقة‮" ‬الله‮.‬ هذا ويضاف إليه العنصر السياسي،‮ ‬على اعتبار أن أغلب الأنظمة العربية تحرم التعرض للسخرية من شخص الحاكم على اعتبار أنه‮ "‬شخصية مقدسة‮"..‬

ب‮- ‬في‮ ‬حين أن الكاريكاتير،‮ ‬وباقي‮ ‬فنون الرسم والصورة،‮ ‬تجد حقلها الخصب في‮ ‬المجتمعات الغربية،‮ ‬وأن الصورة ترعرعت ونضجت في‮ ‬رحم الكنيسة،‮ ‬بل إن النهضة الأوربية كانت في‮ ‬البداية فنية بالدرجة الأولى قبل أن تشتعل وتشيع في‮ ‬كل مجالات المعرفة‮.

ولذا¡ ففي‮ ‬ظل المساحات الديمقراطية التي‮ ‬تنعم بها المجتمعات المتقدمة الغربية،‮ ‬يبقى الحكام في‮ ‬الخيال الاجتماعي‮ ‬مجرد أفراد/بشر. ومن هنا¡ ندرك انتشار الرسوم الكاريكاتيرية التي‮ ‬تسخر من الشخصيات السياسية والحكام؛‮ ‬بل إن السخرية تتخذ من المسؤولين السياسيين مادة لها،‮ ‬والحال أن المجتمعات العربية لا تتخذ من موضوعاتها سوى المستضعفين الذين هم المتلقي‮ ‬وموضوع هذا التلقي.‬

صفوة القول إن اللبس الحاصل في‮ ‬علاقة الإنسان العربي‮/‬المسلم بالصورة‮ ‬يجعله أكثر تأثرا بالخطاب المصور،‮ ‬لأن الخاصية التي‮ ‬يتميز بها والتي‮ ‬تتسم بالسطحية تجعله‮ ‬يتفاعل وينفعل أكثر أمام ما هو فني‮ ‬ومحسوس.

وهنا نجد سدنة الدين وفقهاء‭ ‬الظلام‮ ‬ينصبون أنفسهم فقهاء في‮ ‬النقد الفني‮ ‬والأدبي ‮والسياسي، فمثلا تشكل الأعمال الفنية والأدبية‮ "‬وليمة لأعشاب البحر‮"‬و‮"‬الخبز الحافي‮" ‬و‮"‬آيات شيطانية‮" ‬أعمالا أدبية وفنية لها قيمتها، وقد نشأت كما ترعرعت في‮ ‬حقل أدبي،‮ ‬في‮ ‬حين‮ ‬يتم إلحاقها بالواقع الواقعي‮ ‬لتسهل محاكمتها وفحصها‮: ‬إنهم أشبه بقاطع الطريق اليوناني‮ ‬بروكس‮.

لعل هذا التعامل السطحي،‮ ‬الذي‮ ‬يهيمن على العقل العربي‮/‬الإسلامي،‮ ‬راهنا،‮ ‬هو السبب في‮ ‬كل الخلافات التي‮ ‬تحصل،‮ ‬بل وتزداد ضراوة مع الانغلاق على الهوية والتقوقع على الذات،‮ ‬خصوصا أن المسلمين‮ ‬يسعون إلى دفع الآخر إلى فهمهم دون أن‮ ‬يكلفوا أنفسهم عناء البحث في‮ ‬الخلفيات الثقافية والفنية والسياسية الحقيقية التي‮ ‬ينطلق منها الآخر.

وعليه،‮ ‬فسواء تعلق الأمر بحرية التعبير أو اختلاف الثقافات، فإن المشكلة تظل في‮ ‬البدء والمنتهى ذات صلة بالخلفيات المرجعية والثقافية التي‮ ‬ينطلق منها العربي‮/‬المسلم والمتسمة بكراهية الآخر،‮ ‬على اعتبار أن العالم كله‮ ‬يجتمع ويتحد من أجل محاربة عدو واحد‮ ‬يخشون نهضته هو‮ "‬العالم الإسلامي‮".. ‬ في‮ ‬حين أنهم‮ ‬يسقطون في‮ ‬الفخ الذي‮ ‬ينصب لهم،‮ ‬دون وعي‮ ‬منهم،‮ ‬بسبب التسطيح الخطير وهو‮ "‬إلهاؤهم‮" ‬عن كبرى القضايا،‮ ‬لأن المشكلة لا تكمن في‮ ‬الإساءة Åلى المقدس،‮ ‬وإنما في‮ ‬تضخيم القضايا الصغرى والتافهة،‮ ‬إنهم‮ ‬يقعرونها وتصير أكبر مما هي‮ ‬عليه،‮ ‬ومن هنا‮ ‬يصبح الأمر أقرب إلى‮ "‬تقديس الإساءة‮".‬

حرية التعبير وحرية الإساءة

من الصعب أن نجزم بأن ما أقدمت عليه الصحف الدانماركية من نشر للرسوم بأنه مجرد صدفة،‮ ‬أو مجرد تعبير عن حرية في‮ ‬الرأي،‮ ‬خصوصا أنها المرة الثانية التي‮ ‬يعاد فيها نشر الرسوم،‮ ‬وبشكل أكثر انتشارا‮، ‬بمعنى أن الذين أقدموا على ذلك هم مدركون لخطورة الأمر، بل إنهم‮ ‬يتحسبون نتائج ذلك،‮ ‬خصوصا أن الانهيارات التي‮ ‬تواجهها المجتمعات الإسلامية لا تزيدها إلا تشبثا بمقدسه الديني‮ ‬ورموزه التراثية الدينية‮.

فالاحتماء‭ ‬بالتراث والعودة إليه في‮ ‬ظل واقع مظلم ومليء بالإحباط لا‮ ‬يمكنه إلا أن‮ ‬يزدهر وتزدهر معه أوجه الدفاع عنه‮. ‬إنه البحث عن مختلف أشكال‮ ‬العنف للرفع من درجة الصراع والرفض. وهنا تجب الإشارة إلى أن الغرب قد تفطّن،‮ ‬بعد أن كان في‮ ‬السابق ملجأ للعديد من المنفيين والمعارضين الدينيين،‮ ‬إلى أهمية وحجم الجالية الإسلامية ‬المتزايدة‮ ‬التي‮ ‬صارت تشكل تهديدا لمستقل ثقافاته،‮ ‬ومستقبل القيم الاجتماعية التي‮ ‬ناضل الغرب من أجلها والمتمثلة في‮ ‬قيم الاختلاف والحرية بما تتضمنه من حرية الفكر والاعتقاد¡ ‬إذ إن المسلم في‮ ‬الغرب‮ ‬يعتبر نفسه،‮ ‬دائما،‮ ‬حاملا لمشروع حضاري‮ ‬إسلامي‮ ‬ينبغي‮ ‬له أن‮ ‬يقوم بواجبه على أحسن وجه،‮ ‬عن طريق المحافظة على قيمه وتقاليده،‮ ‬وأن‮ ‬يشيع هذه القيم بالدعوة إلى نشر الإسلام‮. ‬والحال أنه في‮ ‬كل ذلك‮ ‬ينفي‮ ‬كل مبادئ اختلاف الهوية والثقافة،‮ ‬وينفي‮ ‬أن‮ ‬يكون الآخر على جانب من الصواب وعلى درجة من الحقيقة، ‬مهما قلت.

إن العديد من المهاجرين المسلمين،‮ ‬الذين استقروا في‮ ‬أوربا وأمريكا،‮ ‬هم ذوو درجة ضعيفة معرفيا،‮ ‬وهم في‮ ‬غالبيتهم أيد عاملة،‮ ‬لم‮ ‬يتمكنوا من الاندماج بسبب ضعف الآليات الثقافية التي‮ ‬يحملونها، ‬وهو ما‮ ‬يقوي‮ ‬من الصراع ويدفعهم إلى العيش بعيدا عن الحياة العامة واختلافاتها‮. ‬لذلك¡ نراهم‮ ‬يشتغلون على شكل جمعيات أو مؤسسات خيرية هدفها هو نشر الدين والدفاع عن حقوق ممارسة الشعائر وبناء‭ ‬المساجد.

من خلال ذلك كله،‮ ‬نفهم لماذا امتنع عن نشر الرسوم الإيرانية حول المحرقة اليهودية، ‬لأن هذا المنطق الذي‮ ‬ينطلق منه المسلمون هو على‭ ‬اختلاف بيِّن مع الخلفيات التي‮ ‬كانت من وراء نشر الرسوم المسيئة للمقدس الديني‮ ‬الإسلامي،‮ ‬وهنا نستحضر واقعة تاريخية مثيلة حدثت في‮ ‬غزو الكويت،‮ ‬حيث طالب آنذاك صدام حسين الأمم المتحدة بأن تدفع إسرائيل إلى الانسحاب من أراضي‮ ‬فلسطين إذا أراد المجتمع الدولي‮ ‬أن‮ ‬ينسحب هو من الكويت، المنطق نفسه ‮ ‬يتكرر،‮ ‬في‮ ‬حين أنهم‮ ‬ينسون الخلفيات الثقافية والحضارية والسياسية المتحكمة في‮ ‬العديد من القضايا اليوم.

‬فإذا كان المسلمون‮ ‬يرون أنفسهم هم المستهدفين فلأنهم‮ ‬يعلنون عن الصراعات بعدد كبير من الأشكال. ‬فهم لم‮ ‬يروا في‮ ‬القانون الفرنسي‮ ‬الذي‮ ‬يقضي‮ ‬بمنع‮ ‬الرموز ‬الدينية إلا ‬منعا للحجاب ‬ومحاربة الإسلام،‮ ‬والحال أن المنع شمل كل الديانات. ‬كما أن المسلمين‮ ‬لم‮ ‬يدركوا بعد، ‬أنهم‮ ‬يمارسون أنواعا عديدة من العنف الثقافي‮ ‬والفكري‮º فهم‮ ‬يهاجرون إلى الغرب ويريدون أن تكون المجتمعات الغربية كما‮ ‬يريدون هم أن تكون، ‬يريدون الاستفادة من التقدم والرفاه المحقق في‮ ‬هذه المجتمعات،‮ ‬مع المحافظة على قيم‮ “‬البداوة‮” ‬و”العصبية‮” ‬والاعتداد بمطلق الحقيقة التي‮ ‬يتوفر عليها. إنهم‮ ‬يتراوحون بين الأخذ بمنجزات التكنولوجيا الغربية،‮ ‬وفي‮ ‬الآن نفسه‮ ‬يحقدون على من أنتجها.

من النص إلى الرسم

لعل ما‮ ‬يثير الانتباه هو ‬أن العديد من الذين‮ ‬يحتجون في‮ ‬الشوارع الإسلامية،‮ ‬اليوم،‮ ‬لم‮ ‬يتمكنوا من الاطلاع على‭ ‬الرسوم الكاريكاتيرية،‮ ‬فأحرى أن تكون لهم أدوات فنية‮ ‬يحللون بها ويفهمون الخطاب الذي‮ ‬تنتجه، وهذا أمر‮ ‬يتكرر في‮ ‬كل مرة،‮ ‬إذ لا تزال ذكرى‮ "‬آيات شيطانية‮" ‬حاضرة بقوة في‮ ‬الذاكرة الإسلامية،‮ ‬علما أن الملايين من الذين‮ ‬ينبذونها لم‮ ‬يقرؤوا منها حتى العنوان.

إذن، فالأزمة التي‮ ‬أثيرت في‮ ‬السابق مع صدور رواية سلمان رشدي ‬أخفت قيمتها الفنية ولم نعد نعرف عنها شيئا،‮ ‬وإنما صارت تابوها محرما؛‮ ‬في‮ ‬حين أن هناك كتبا تراثية أثارت بشكل مباشر قضايا النبوة،‮ ‬وناقشت النص القرآني،‮ ‬وما تعرض له من تحريف وتعديل وإبدالات،‮ ‬دون أن‮ ‬يتعرض أصحابها للقتل أو الشنق،‮ ‬وحتى ما حدث على مر التاريخ الإسلامي‮ ‬لم‮ ‬يكن من ورائه سوى الخلفيات السياسية والصراعات السياسية بالدرجة الأولى،‮ ‬أما الدين فكان لخدمة السياسة.

‬والملاحظ،‮ ‬اليوم،‮ ‬أن الأزمة تزداد تضخما بفعل الخواء الفكري،‮ ‬والانهيارات العقلانية التي‮ ‬تتوالى،‮ ‬والحصاد الفكري‮ ‬الغث الذي‮ ‬يُحصد حضاريا في‮ ‬المجتمعات الإسلامية. لذلك، فإن هذه الردود ستزداد وستتضاعف ما دام الفقر الفكري‮ ‬والمعرفي‮ ‬يتضاعف أمام التطور العقلاني‮ ‬والحضاري‮ ‬الذي‮ ‬تعرفه المجتمعات المتقدمة.

بين نص المصحف وتدريس القرآن

إن ما أقدمت عليه الحكومة الدنماركية من حلول للأزمة لن‮ ‬يضع حدا لمثل هذه النعرات‮. ‬فما‮ ‬يعتبر اليوم،‮ ‬داخل المجتمعات الإسلامية،‮ ‬مكسبا بفعل إقدام الدانمارك على توزيع المصاحف وتدريس القرآن في‮ ‬جامعاتها وعقد مؤتمرات،‮ ‬هو في‮ ‬الواقع‮ ‬يجعل المجتمعات الإسلامية أمام تحدٍ‮ ‬آخر‮… ‬إنه سؤال النص وسؤال المعرفة‮..‬ وسؤال التأويل‮… ‬فالآخر لن تقنعه التفاسير والشروح التي‮ ‬تتجمل بمفاهيم‮ "‬الإعجاز العلمي‮" ‬و‮"‬الإعجاز القرآني‮" ‬و‮"‬البيان‮" ‬وغيرها من المفاهيم التي‮ ‬يتم تداولها‮.. ‬لأنه سيفهم وسيؤول وسيحلل انطلاقا من خلفية ثقافية ومعرفية،‮ ‬مع وجود مقارنات‮… ‬قد تكشف عن أشياء لم تكن متوقعة.

وهكذا سيصبح النص هو المنطلق في‮ ‬أي‮ ‬حوار أو صراع‮، ‬سيكون الجدال من الداخل، ‬من داخل ثقافتنا نحن، لأن المسلم‮ ‬يتصور التاريخ العربي‮ ‬الإسلامي‮ ‬بمثابة خط هادئ وسكوني،‮ ‬وأن المعرفة واحدة كلها تدور حول حقيقة وحيدة، ‬والحال أنه تاريخ مليء بالاختلالات والصراعات والاختلافات، ‬منها السمين ومنها الغث. ‬لذلك¡ فالمسلمون في‮ ‬حاجة إلى العودة إلى تاريخهم وإعادة النظر فيه والبحث عن الاختلافات التي‮ ‬تتساكن داخله وتتعايش بهدف تنمية معرفية قوية‮.‬

عود على بدء

لا تمثل إعادة نشر الرسوم حدثا استثنائيا،‮ ‬في‮ ‬ذاته،‮ ‬بقدر ما تكشف عن درجة حضور الصراع الثقافي‮ ‬والهوة الساحقة التي‮ ‬تفصل بين المجتمعات الغربية ومثيلتها الإسلامية، ‬إذ لا يمكن أن‮ ‬يتصور المسلم فصلا بين المعتقد والذات.‮ ‬لذلك، فإن أي‮ ‬مسّ بالمقدس‮ ‬يعتبر مسّا به هو كذات وككيان،‮ ‬وأي‮ ‬مسّ بشخص ولو كان فردا،‮ ‬فإنه‮ ‬يعتبره مسّا بالهوية وبالفرد كانتماء ديني،‮ ‬وأي‮ ‬مسّ سياسي‮ ‬يعتبره مسّا بالمعتقد الديني، ‬بحيث اختلطت لديه كل المكونات وصار من المستحيل الفصل بينها، وهذه الصورة هي‮ ‬التي‮ ‬لا‮ ‬يتوانى المسلمون في‮ ‬تصديرها Åلى الآخر بكل الوسائل المتاحة،‮ ‬وهو ما جعل الآخر/الغرب‮ ‬يكون صورة عن المسلم، وخاصة العربي‮ ‬المسلم‮،‮ ‬وهي‮ ‬صورة وإن اتسمت بالتعميم في‮ ‬بعض مناحيها،‮ ‬فهي‮ ‬تكشف عن الصورة المهيمنة‮.

لذا، ما دامت هذه الصورة النمطية هي‮ ‬المهيمنة والمروجة عبر وسائل الإعلام،‮ ‬فإنه‮ ‬يبقى من الضروري‮ ‬التوقف عندها وإعادة النظر فيها‮º ‬لأن المسؤول عنها ليس المتلقي (الغرب) ‬وإنما المنتج لهذه الصورة،‮ ‬بل‮ ‬ينبغي‮ ‬الوقوف عند الخلفيات المرجعية المسؤولة عن إعادة إنتاجها. ‬وهنا نعني‮ ‬المرجعيات الدينية ذات السمة الفقهية الظلامية التي‮ ‬تعيد إنتاج مجموعة من السلط الرمزية المتحكمة في‮ ‬مفاهيم‮ "‬الحقيقة المطلقة‮"…‬ إذ ليس أمام المجتمعات الإسلامية من خيار سوى العودة إلى الذات ومساءلتها،‮ ‬واجتراحها،‮ ‬وإسقاط الطابع الأسطوري‮ ‬عن كل الرموز التي‮ ‬اكتست طابع التقديس بفعل المسافة الزمنية التي‮ ‬تفصل الحاضر عنها،‮ ‬وتمييز الأحداث التاريخية عن تلك الدينية،‮ ‬ثم الرفع من مستوى القيمة المعرفية للدين،‮ ‬بحيث‮ ‬ينبغي‮ ‬ألا يترك الدين في‮ ‬إطار مغلق‮ ‬يتغذى من ثقافة قديمة واجتهادات انتهت بانتهاء ظروفها وسياقاتها الثقافية والتاريخية‮.

إن الاحتجاج على الرسوم أو النصوص الإبداعية،‮ ‬أو الأعمال الفنية لن‮ ‬يزيد إلا تعميق المآسي‮ ‬والكوارث المعرفية،‮ ‬وتوسيع الهوة بين المسلمين وبين باقي‮ ‬الجماعات الدينية والثقافية، إذ‮ ‬ينبغي‮ ‬إحلال قيم إنسانية بما تحمله من رصيد التحاور والتعايش‮، ‬لأن الدين،‮ ‬كيفما كانت طبيعته،‮ ‬لا‮ ‬يهدف إلا إلى ترسيخ قيم الإنسانية وتعزيز مكانة الفرد،‮ ‬وتعزيز الاختلاف‮.

جُماع ذلك كله‮ ‬يجعل المجتمعات الإسلامية (العربية) أمام ضرورة ‬تعزيز مكانة العقل داخل النسيج الفكري‮ ‬بالبحث في‮ ‬الطبقات العقلانية التي‮ ‬نشأت في‮ ‬مراحل من تاريخ الحضارة الإسلامية،‮ ‬مع التحلي‮ ‬بالشجاعة بهدف تحطيم العديد من‮ “‬الأصنام‮” ‬ التي‮ ‬نحتها العقل الإسلامي‮ ‬وصار‮ ‬يعبدها، ولم‮ ‬يستطع أن‮ ‬يتخلص من تبعيته لها‮. ‬إنها باختصار ضرورة‮ "‬نقد العقل الإسلامي‮"…

الفيديو

تابعونا على الفيس