ائتمان التغيير والتجرد الثقافي

جمعة, 10/30/2020 - 15:22

1 ـ لا يتشكل العمل الثقافي، كمركز للانتباه، إلا عبر خيارات محتملة التحقق. أي أن الثقافي مرتبط بمحتواه وجاهزيته للتحول إلى تجسيد واقعي للحياة.

أما التقليد الجماعي لهذه الخيارات فربما يصيب الشكل الثقافي أو النوع الثقافي بالشلل واللاتوازن، ويقلب الصورة المرغوبة، إلى استهلاكات طويلة الأجل، غير معنية بالنتائج، فما بالك بالتقاطعات المعرفية، والوعي بالواقع، وبرامج وأهداف الثقافة عامة.

أعتقد أن الزمن الثقافي، في ظل هذه الانقلابات المفاهيمية، التي أضحت تعيق الفعل الثقافي، والوعي به، قد كسر الانتماء لنموذجية تساير الفهوم الفلسفية الكلاسية للخطاب والمعرفة واللغة.

أقربها إلى المقدمات الواعية بالوجود والقيمة، تلك التي أفرد لها كانط جوابا منتشيا وقابضا على الجمر، عندما دعا الى وضع حد للميتافيزيقيا وتسويغ المعرفة العلمية، والتوفيق بين هذين عن طريق الأخلاق والحريات.

انظروا إلى نوعية الثقافة المبثوثة الآن بين جنبات سيولاتنا المغمورة بالشكوك والظنون المحذورة، فإنكم ستجدون حدودا خيالية مصطنعة، وبراميل فراغ يعبث بالوساوس، ويواعد الفرص من غير رؤية ولا نظر بعيد.

ثقافة بلا هوية ولا هدف، بلا أبعاد ولا مسوغات، وأكثرها رغوة وطلاء تلك التي تبني قابلياتها على الكذب والتدليس، وشهادة الزور، والنسخ واللصق، والتجريح والتقديح، والاسفاف والإسراف، والجهل والغلظة.

أما القضية الكبرى للثقافة، فتتملكنا الرهبة من ملامسة بعض من عوالقها، ويأسرنا سغب الانفلات منها، وهي تثرى بين خمل واعتلال، كأنها جسد موبوء، يأبى الفصح في النهار الفصيح المشمس.

وقليل من أشياء هاته الثقافة، ما يستحضر أصيله ووجدانه، حتى لا يجثم العدم على أنفاس فريدة في زمن الوباء الشامل ؟

2 ـ فكرة عدم حصول التغيير الثقافي أو تطوره داخل المجتمعات المنعزلة، أمر حتمي لا يحتاج لدليل. فالفكر الفردي ذي النزعة الشوفينية الغافلة لتشكل الطفرات التاريخية والاجتماعية والمعرفية داخل المجتمع، هو امتداد لتماثل العزلة وانكماش أفقها وتشميلها لنمطية الاغلاق والهروب من المواجهة المحتملة للواقع، والتباساته المنظورة بسؤال العلة والغاية.

إن القراءة المنطلقة من هذه الفرضية، لا بد وأنها تراكم نهجا ينبثق تلقائيا من مدى تمكنها من تجاوز الفعل الثقافي والتعبيرات الثقافية وتحولات المجتمع عبر صيرورات متباعدة. وهي مهمة صعبة للغاية، بحكم حضور عوامل الانبثاق السلوكي وتمظهراته، على مستويات التأثير والتأرجح، بين ما هو قدرة عقلية وأخلاقية ، ما يوجه تفكيرنا إلى بدهية ، يسميها فرانز باوس (فوارق خاصة تطرح بيانا مغايرا عما هو واقع : المرونة البشرية و الثقافات). إنه و بتعبير آخر ذلك الصراع الخفي و الملتبس بين فوارق ثقافية تتقاطع داخل الجتمع الواحد، حيث لا يتمكن الفرد بين هذا وذاك من غرس نزعة شكية، تعيد للإنسان أخلاقيته البشرية المسكونة بغريزة العيش الآمن ، و بعضا من المعيارية الجمالية البسيطة عميقة الدلالة و مفارقة تماما مع كل مظاهر الاختلال و التشوه والاتكالية.

3 ـ طعم النسيان كواردات الذاكرة المقصية، لا تلتفت إليها، لمجرد التواطئ الرافض لها. تحاول تغطيتها، أو تكاد، لكنك تصطدم بالداخل، بحقيقة مواجهة أعباء التاريخ.

نحن نناصب عداء تجردات ذهنية ونفسية غارقة في المثالية، حد القطيعة مع الذات والآخر. ولكن في المقابل نتبرأ من أفعال هي كثلة غامضة من حيواتنا، ما قبل الوحي/الإيحاء.

إننا ننظر باجتزاء وتحول كبيرين تجاه ماضينا، ولا نقرأ الواقع، وما فيه، باعتبار الزمن واختلاف العيش، وتراكم الأحداث .. إننا بكل بساطة نتجاهل قيمة العمر وصورته المجردة من كل التباس أو تنميط ..

مرة جربت الأمر، وأفصحت عن رغبتي الجامحة في البوح الصريح، وإعادة تشخيص جزء من ذاكرتي .. أمام ملإ من زملائي في الكتابة والإبداع . كان ذلك، خلال تقديم مجموعتي الأولى (خاتمة لدبيب الوشي) بالمسرح الملكي بمراكش أواخر تسعينيات القرن الماضي. حيث طلب مني مقدم اللقاء نبذة سريعة عن مكمن غواية الشعر، وبعد أن استسهلت البوح وصارت القصص تنقاد كأنها ريح مغمرة، سردت أحداثا وذكريات، هاجت بين أصقاعها فرائس، بمن فيهم أولئك الذين جاؤوا للاحتفاء ..

أدركت أن القضية أعقد مما نتصور جميعا، فالعالم كله يراك دون ذاكرة، دون انتماء أو تأسيسات انطولوجية ..

مجرد تعبير عن مدى تغافلنا المصطنع للتأثير من خارج حقيقة وجودنا، والباقي تفاصيل مملة، يصعب إدراكها تحت وقع الاستنزاف المستمر والمكارثي لتجرداتنا الموبوءة والمكلسة بفعل التراكم واللامعنى وغياب الأفق!؟

4 ـ من ينتظر لحظة الانتصار، محال أن يسكن شقوق العزل،

مثلما نحجر على أفكارنا مخافة أن تصيبها ريحُ الصَّبا ..

يكون لنا الظل في الأرض، إذا نبغت الافكار واحتلمت النفس، وصار كل شيء لامعا، مثل بياض الثلج ..

يفرح الله بنا، في اختمار الضائقة، ..

الوباء الفاجر المقيت، في زمرة الأغلاط التي تبتلع إنسانيتنا ..

نصير كأننا حيوانات طائشة مليئة بوَثْبَات مغامرة

مترددين ومحاذرين من السقوط أو الغياب الفجائي ..

هكذا، ربما يأتي الفجر سريعا، يلملم أحشاءنا من خوف بفزّع النهر من جريان الأهواء ..

ويبذر النور في تعرجات الورد ..

5 ـ منطقيا، سأعود إلى خيار الأصل. أن أفكر جيدا قبل اتخاذ أي قرار . وبعدها، يمكن أن أتجسد رؤيتي.

هناك خلل إنساني خاص جدا، في الامتلاء بغرور التملك والتفوق الفارغ ومعاددة الانجازات والبروتونات الموجودة في نواة كل خطوة، مهما كانت تافهة ..

يجب أن أضع القيود العادلة، على كل قيمة جديدة في منهج فهمي، أو رؤيتي للعالم والمحيط ..

هل نحن منذورون لهذه المهمة الصعبة؟

لماذا لا نحاسب تجاربنا الفاشلة؟

هل هناك جانب خفي من هذه القرابة الوجودية الناقصة؟ الوجود تعلم، كفاية أخلاقية، ونظام لسلوك واع بالصيرورة والفعل القلق، ولسنا بمنأى عن فاقة الكسر وشيمة التكسير ..

فالكمال الإنساني لا يتفاعل دون قيمة إنسانية، رهينة بمآلات التمييز بين القصد والوهم، العسف والغسف، الجمال والقبح،

الفناء والسرمد، العماء والبصر .. ووحده الإيمان بالفجر الذي يوقظ الحقيقة من سهو البلاء، و مِبْزَغ الأهواء ..

لا يتحوز أي منا على معجزة شخصية، ولا يدركها إلا راء متصوف، أو نبي يرى الله بقلبه .. أو إنسان لا يحب الأذى، ويمشي في الأسواق، ويقرأ الكتب الفلسفية، ويفعل الخير تواضعا، دون هَنَة أو خديعة.

ولهذا، من واجب الوجود أن نحلم بالقدر الذي نرى فيه أجسادنا غير منهوبة ولا مغامرة في جراب المنامات العميقة..

6 ـ لن أسمي الأسماء بما هي مدركة، فهي كفيلة بمعرفة ما بداخلها، من الغوايات الشبقة، ومما غصبته بقوة الشر.

أحيانا يتوجب عليك أن تكون مغتربا، حتى وأنت تحيا في أرضك .. كن صموتا وصميتا كي تجعل الأسماء فجوة محبكة في ليل دامس.

وغامر قليلا، حتى لا تموت كمدا ..

ردود الفعل كسائر المعاملات البشرية، تستطيع أن تقابل عشرات منها، تحت عواصف هوجاء، لا قيودات تحبسها عن الخطأ والتوجس ورهبة الشك في من حولك ..

من الصعب أن تجد إجابات شافية عن مستوى انتهاكات حقوقك. كحقك في العزلة، أو حقك في التعبير عن إرادة طفولية، أو حتى حقك في تجاوز سوء الفهم، ممن حولك من الشياطين .... ومن غوامض الفتون والمنون والسراب

عندما كنت أنظر بعيني، أدرك فقط أن ما أراه، ليس سوى الجانب الأكثر إفصاحا عن الصور الواقعية المقروءة بفعل الوجوب. أما عندما أدركت متأخرا، أن أرى بتجربتي، وأوحي للحدس أن يغبط تحت وقع الإخشاع البصري الجواني، آنذاك علمت أن كل المصائد وحتميات الغدر يمكن أن تأتي من الاهدار اللامقصود للوعي بالآخر، مهما كان قريبا ..

فأَصْبَحْتُ ممَّا أَحْدَثَ الدَّهْرُ خَاشِعاً ..

وَكُنْتُ لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَخَشَّعُ .

الفيديو

تابعونا على الفيس