وظيفة السوسيولوجيا القروية

ثلاثاء, 10/27/2020 - 20:29

بداية، بكل ما في الحب من ودّ وفي الصدق من حق، أتقدم بجزيل الشكر لكل القرّاء الأفاضل على إثرائهم لهذه السلسة البحثية بتعليقاتهم وآرائهم التي تُشكّل إثراء لهذه الأطروحة. وكما سبق أن صرحت سأعمل على تفكيك كل الصّوى والركائز "الرخوة" المؤسسة للحركة الأمازيغية معذرة "البربرية". ويطيب لي أن أشكر جريدة هسبريس، منبر الرأي والرأي الآخر.

سوسيولوجيا القرية والتقعيد الاستعماري للتشظي..

لا شك أن الحفر الأركيولوجي في نسيج هذه الأسطورة يتموقع ضمن سوسيولوجيا التغير الاجتماعي كإطار عام، وعلاقة هذه الظاهرة بعلم الاجتماع تبدو أكثر جلاء – ضمن فرع السوسيولوجيا القروية - ومن هنا يصبح من المشروع التساؤل حول وظيفة ومهام هذه السوسيولوجيا – وكذا حول علاقة الظاهرة موضوع الدراسة بالحاضر الراهن .

لا يجادل أحد في التمايز الحاصل بين البادية والحاضرة القروية والمدينة، هذا التمايز الذي عمقه الاستعمار – وتم الحفاظ عليه بعد الاستقلال اعتمادا على نفس المعايير، هو تمايز يشمل ميادين الثقافة كما يشمل ميادين الاقتصاد –ما يقدم طاقةً لتغذية المسبقات الاجتماعية لدى الحضريين تجاه البادية والعكس صحيح، ما سيخلق نظرة احتقار تجاه البادية وأعرافها ...

وإذا كان علم الاجتماع القروي يسعى إلى تكوين معرفة حول القرية وبكل ما يتعلق بها، فإن هذا دليل على أن علم الاجتماع عموما لم يهتم بمشاكل القرية إلا في وقت جد متأخر، ما يفسر اشتغال جل الأبحاث الاجتماعية على الحاضرة ومشاكلها، مفسرة إياها بمصادر قروية "ضدا على القرية" (الهجرة، الخشونة ...).

إن هذا الموقف يصب عمليا – بوعي أو بدونه – في نفس موقف المسؤولين السياسيين (انتفاضة جماهير الدار البيضاء سنة 1982 وإرجاع أسباب ذلك إلى الهجرة القروية وإلى أن خلفية المتمردين، وهي خلفية قروية).

بناء على هذا يمكن القول إن علم الاجتماع مازال علما طبقيا ومتمايزا.. إذ يلعب المسؤولون أدوارا ضخمة في تعميق الهوة من خلال محاصرة أي بحث اجتماعي يتعلق بالآخر: القرية وكذا من خلال منع تسييسهم؛ لذا فالرغبة في إبعاد البادية عن المدينة مازالت هي المعيار السائد لدى الفئات المهيمنة.

على علم الاجتماع القروي إذن أن يتفهم مثل هذه الظواهر ومحاولة وضعها في سياقها الاجتماعي الحقيقي؛ فالقرية لن تجد مخرجا لها من حاضرها المظلم والمأساوي إلا بتوجيه الاهتمام الجاد بمشاكلها، والأطر التقليدية بها لا يمكن تحطيمها إلا بإنشاء مشاريع اقتصادية وسياسية وتصنيعية وعمرانية، وبتحقيق نوع من الحركية الاجتماعية. من هذا المنظور، يتحمل علم الاجتماع القروي مسؤولية ضخمة .

وإذا كان منظرو السوسولوجيا الكولونيالية لم يتفقوا حول طبيعة المجتمع المغربي فليس صدفة أن نجد من يكتب بصدد المغرب قائلا: "لا مجال لمعارضة بلاد المخزن وبلاد السيبة تحت أي شكل ...إن قطب المخزن يمتد إلى كل المغرب".

إن هذه التناقضات – بصدد ظاهرة السيبة –تقدم لنا حجة إضافية على ضرورة تخليص السوسيولوجيا من أبعادها وخلفياتها السياسية الاستعمارية –وهنا تكمن مهمة السوسيولوجيا عموما- والقروية خصوصا – ذلك أن نُظراء روبير مونتاني مازلنا نعثر عليهم في أشكال مختلفة، سواء لدى بعض الفئات التي تنسب نفسها إلى الثقافة أو لدى بعض الاتجاهات السياسية (الحركة الشعبية اتجاه أحرضان).

من هنا جاء هذا العرض الذي نريده أن يكون مساهمة متواضعة لإزالة اللبس عن حقيقة هذه الظاهرة التي "طبعت" مغرب القرن التاسع عشر، بادئين بعرض لرؤية الغرب كما يعرضها علينا روبير مونتاني في أطروحته المشار إليها سابقا "les berbères et le makhzen".

سأحاول إبراز الظاهرة موضوع البحث – لننتقل في ما بعد إلى نقاش هذه الرؤية من خلال رؤية المجتمع المغربي في كليته وشموليته – معتمدين على الكتابات المغربية أساسا –جاهدين في البحث عن عناصر الوحدة والتكامل ضمن "الجمهوريات البربرية" القروية، وكذا بين القرية والمدينة، وفي الوقت نفسه كاشفين عن الشروط الأساسية للظاهرة، التي بدت تنقسم إلى مجموعتين يطغى عليها الطابع الاقتصادي أو الطابع السياسي بحسب الحقب التاريخية، لنقوم بتقديم رؤية تركيبية تحاول أن تضع ظاهرة "السيبة " في إطارها الحقيقي وسياقها الاجتماعي، لنُنهي البحث بخاتمة حاولنا فيها أن نُبرز النتائج التي توصلنا إليها من خلال هذا البحث.

المغرب..ومغرب القرن التاسع عشر..

يقول شارل أندري جوليان حول شمال إفريقيا: "مهما سبرنا تاريخ إفريقيا إلا ولاحظنا أن الأمور تجري كما لو أن هذه البلاد كانت تعاني من قصور فطري في التمتع بالاستقلال".

ولعل هذا الاستقلال الذي يقصده شارل أنري جوليان هو استقلال سياسي عن الضغوط الخارجية، ما يترتب عنه وجود دولة ضعيفة، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي. وتتضح هذه الفكرة بجلاء مع ما يقوله saint augustinBERNARD بصدد المغرب: "لم يكن المغرب دولة مركزية فحسب، وإنما لم يكن البتة دولة بالمعنى الأوروبي للكلمة".

وفي الاتجاه نفسه يقدم لنا روبير مونتاني رصدا للسلطان وبلاطه، وعلاقاته بالقبائل البربرية فيقول: "إن اسم الحكومة المركزية، المخزن، مستودع، يشير من خلال اشتقاقه إلى فكرة: مؤسسة معمولة أولا وقبل كل شيء لتكون احتياطا دائما من النقد، السلاح، الذخيرة، القوت والمُؤن من كل نوع، مجموعة داخل غرف تحت حماية أسرار ضخمة. وخلف هذه المتاريس المحيطة بالقلاع تختفي في كل أجزاء الإمبراطورية القوى السلطانية المعتمدة للتدخل ضد المتمردين.. ولكن ليس التنظيم المادي وحده هو ما يميز السلطة المطلقة في أعين القبائل البربرية، وإنما حضور ملك، عاهل، مستبد، يستمد سلطانه منذ قرون من نسبه الشريفي".

ولا يتصوره بربر الجنوب إلا محاطا بالثروات وبـ"البركة "– بل يملك أحيانا قوة "سحرية"، وعندما يبدو لهم وسط جيشه إثر "حركة" ما ممتطيا جواده وتحت "مظلة" تمثل في سائر أنحاء المغرب العلامة الحقيقية للملك - ورغم ما يمكن أن يحدث من نزاعات قبلية- فإن شخص الملك يبقى مصونا ومقدسا بناء على انتمائه النسبي الذي يُعتبر في أعين العامة تعبيرا عن انتماء إلى صنف مغاير، خاص به وحده.

إلا أن أشد ما يخشاه البربر من السلطان غضبه "سخطه"، لأنه لو غضب على قبيلة ما، وهو ما يشبه إلى حد ما العزل في القرون الوسطى، فذلك يعني: الإذن أولا بالنهب العام لكل خيرات المغضوب عليهم ...فالأراضي تصبح غير منتجة، ما يولد الفاقة، وهذا ما حدث عندما أقدم على تدمير الصويرة، فعانت قبائل حاحا إثرها ست سنوات من المجاعة، لأنهم نهبوا المدينة.

ترجع هذه القدرة السلطانية إلى أصل الملك المقدس، كما أن نفوذه يستمده من أجداده الذكور، ولا يخرق هذا التقديس إن كان ابنا لأمة أو لمسيحية ... أما من حيث تنظيم الدولة والسلطة المركزية فإنه يُعتبر بدائيا إلى أقصى حد، فـ"السخرة "، وهم موظفو المخزن، يتم انتقاؤهم من بين الأعيان المنتمين إلى قبائل "الجيش" العربية أو من العبيد، وأحيانا من بين أبناء قواد القبائل "الذين ترتبط مصالحهم بالقصر الشريف".

وتتجلى أهمية الجيش في كونه مستعدا في كل لحظة لأن يقدم إلى السلطان كتلة من المحاربين الضروريين لكل غزوة عسكرية، ولضمان حياته أثناء تنقلاته.

الجيش السلطاني وواجب الطاعة..

لقد مثل مشكل الجيش أهمية كبيرة بالنسبة للسلطان، فقد فشل سلاطين السلالتين الأخيرتين في تجميع عدد كبير أثناء "الحركات" التي خاضوها؛ ويرجع ذلك الفشل إلى الظروف القاسية للبعثات العسكرية الداخلية، وكذا خاصية المؤسسات البربرية، وصعوبة المواصلات والتموين، لاسيما في المناطق الوعرة والتي تفتقر إلى الطرق. وتحت هاجس احترام السلطة، لجأ السلاطين إلى تنظيم القوات العسكرية إما بالاعتماد على القبائل البربرية المستقرة كما فعل الموحدون، أو استغلال خدمات القبائل العربية أو البربرية أو بتكوين جيش أسود يكون رهن إرادة السلطان؛ إلا أن هذه الإجراءات غالبا ما أثارت اضطرابات داخل البلاط.

وقد حاول المولى إسماعيل تأسيس جيش قوي انتقاه من العبيد يتسلم الضرائب ويعيش من "العشور"، وهي ضرائب فلاحية كانت تسلم عينا؛ وفي المقابل يقوم بحماية الإمبراطورية لتأمين حرية مرور القوافل التجارية. إلا أن هذا الجيش سرعان ما أظهر عدم فعاليته بما أثاره من اضطرابات ومشاكل، إضافة إلى فراغ الخزينة.

أما قبائل الجيش فكانت معفاة من تأدية الضرائب، تملك مساحات أرضية أو موقوفة وتتلقى راتبا شهريا نظير الخدمات التي يتوجب عليه تقديمها إلى السلطان. كان على رأس هذا الجيش الذي يتألف من آلاف - مئات أو فرق – قواد عسكريون يشاركون في كل "الغزوات" لإقرار النظام أو انتزاع الضرائب. أما القبائل البربرية فقد أظهرت عموما أنها الأكثر ترددا في دخولها جماعيا في خدمة السلطان – لقد رأيناهم فعلا يساندون السعديين في بداية القرن السادس عشر، ولكن فقط بصفتهم مجاهدين أعداء البرتغال، وباعتبارهم كذلك، فقد تمكن الشرفاء من استدعاء القبائل المستقلة بالأطلس الأدنى.

ولكن بمجرد ما اتخذت السلطة شكل ملكية وأخذوا يتبعون في حكومتهم قوانين ثابتة حتى تخلت عنهم، ما أرغم السعديين على استدعاء القبائل العربية بسهول الحوز.

ويضيف أن قبائل حاحا وحدها في القرن 19ساهمت في العمل على نشر وتقوية هيمنة السلطان على سهول سوس ( ن ص ). وفي جل الغزوات كان المخزن يلجأ في طريقه إلى أن يأخذ معه تجريدات عسكرية من القبائل الخاضعة، وهي ما عُرفت باسم "النايبة ". إلا أن هذه الخدمات الظرفية تم رفضها خاصة من قبائل حاحا وسكان السهول.

الحلقة القادمة: توالي الضرائب وتمرد القبائل البربرية

الفيديو

تابعونا على الفيس