في إطار مواكبة المراحل التي مرت منها مدونة الشغل منذ ما قبل التوافق عليها، ساهمتُ بسلسلة مقالات. وتفاعلا مع الندوة التي نظمتها وزارة الشغل والإدماج المهني حول "مدونة الشغل بين النص القانوني والتطبيق الفعلي" يومي 2 و3 أكتوبر 2020 بتعاون مع الفرقاء الاجتماعيين، وحضور الخبراء والممارسين، سأعود لكتابة هذا المقال.
مع اجتياح فيروس كورونا أصبحت الضرورة ملحة أكثر لتطبيق القانون الاجتماعي بفرعيه (قانون الشغل وقوانين الحماية الاجتماعية)، وقد تطلب التوصل إلى توافق عليه 9 سنوات من النقاش من 1994 إلى 2003، منذ أن تقدم وزير التشغيل السيد رفيق الحداوي بمشروع 1994، الذي كان متقدما، لكن تم سحبه بضغط من أرباب العمل؛ ثم بعد ذلك جاء المشروع الذي تقدم به السيد أمين الدمناتي سنة 1995، والذي عرف تراجعا كبيرا بالمقارنة مع المشروع السابق، ما تطلب بذل مجهودات ونقاشات حادة بمجلس النواب في لجنة العدل والتشريع التي كان يرأسها السيد عبد القادر باينة.
وإثر ذلك تمت الخطوة الأولى التي تمثلت في قيام الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بتشكيل لجنة مصغرة تتكون من الإخوة عبد القادر الزاير، عبد العزيز العتيقي، جلال الطاهر، مصطفى كنعان، وعبد ربه.. حيث تم تهييء مشروع مذكرة تعديلية تمت مناقشتها في ما بعد مع الاتحاد العام للشغالين، ثم فرق المعارضة بالبرلمان: الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية، تضمنت التعديلات التي أدخلت على المشروع الذي قدمه السيد وزير التشغيل خالد عليوة، على عهد حكومة التناوب التوافقي، والتي شكلت حوالي 60% مما جاء به هذا المشروع.
- وعلى مستوى الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية، ظل موضوع المدونة مطروحا أثناء جلسات الحوار التي أدت إلى التوقيع على التصريح المشترك لفاتح غشت 1996 واتفاق 23 أبريل 2000 على عهد حكومة التناوب التوافقي.
- وقصد تسريع الوصول إلى التوافق وإيجاد الحلول للنقط الخلافية، تم إحداث لجنة ثلاثية تتكون من:
عن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل:
- عبد القادر الزاير - عمر بن بادة - عبد القادر أزريع
وعن الاتحاد المغربي للشغل:
- أمال العامري - عبد الحميد أمين.
وعن الاتحاد العام للشغالين:
- كافي الشراط - العربي القباج.
- وعن الاتحاد العام لمقاولات المغرب: عبد الحق السدراتي - والمرحومة استيتو عائشة الداودي - والعربي كولو- ومحمد لحلو - وعز العرب الكتاني.
وعن وزارة الشغل:
- السيد الهادي شاطر، وبعض المفتشين والسيد سعيد بناني، مدير المعهد العالي للقضاء وخبير عن الحكومة.
وكان يحضر أعضاء آخرون لتمثيلية المركزيات النقابية، والاتحاد العام لمقاولات المغرب؛ غير أن الأسماء التي أشرنا إليها هي التي كانت تحضر في الغالب. وبدوري حضرت بعض اجتماعات هذه اللجنة، وخاصة في المراحل الأخيرة قبل الوصول إلى التوافق. وكنت حريصا على مواكبة جميع المناقشات التي كانت تتم في الموضوع من موقعي كعضو في المكتب التنفيذي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
وبعد عقد عدة جلسات طويلة وماراطونية داخل اللجنة وخارجها، تم تنظيم يوم الاستشارة الوطنية من طرف الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في 14 يوليوز 2001 بمدينة الدار البيضاء. وتعد هذه المحطة الثانية أساسية في استكمال ما كان يجب القيام به قصد الوصول إلى التوافق. وقد سبق لي أن قمت بنشر مقالين في ذلك الحين في جريدة "الرهان الآخر": الأول نشر في العدد الثاني منها بتاريخ 23 غشت، والثاني نشر في العدد الثالث بتاريخ 30 شتنبر 2001، تناولت فيهما النقط الخلافية التي كانت قائمة آنذاك.
وتمكنت هاته اللجنة من التوصل إلى التوافق وفق ما جاء به اتفاق 30 أبريل 2003؛ وقد واصلت عملها لتهييء المراسيم التطبيقية خلال سنتي 2004 و2005. غير أنه لم يتم استثمار هذا الإنجاز الكبير الذي أشاد الجميع بأهميته في تلك المرحلة. ومع الأسف فقد تم افتعال الاختلاف حول ما جاءت به اللجنة مباشرة بعد التوافق عليه، انطلاقا مما نصت عليه المادة 304 في ما يتعلق بإحداث المصالح الطبية للشغل بالمقاولة التي تشغل ما لا يقل عن 50 أجيرا، وفي ما يتعلق بالمادة 184 حول تقليص مدة الشغل إلى 44 ساعة في الأسبوع بدلاً من 48 ساعة دون تخفيض في الأجر. وما كان ينبغي أن يقع هذا الاختلاف بعد التوافق.
وبعد ذلك بدأت المطالبة بتعديل بعض المقتضيات من طرف أرباب العمل تصب في اتجاه المزيد من المرونة، علما أن مدونة الشغل فيها من المرونة ما يكفي، ما جعل موضوع التعديل محل خلاف دائم. ثم تواصلت الخطوات بين الأطراف الثلاثة إلى أن تم التوقيع على اتفاق 26 أبريل 2011، الذي تضمن جملة من الإجراءات والتدابير ذات الأهمية، ومنها تفعيل والمصادقة على العديد من الاتفاقيات الدولية. ومع مجيء دستور فاتح يوليوز 2011 الذي نص في ديباجته على جعل الاتفاقيات الدولية تسمو على التشريعات الوطنية، ونص في فصله السادس على أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، وفصله الثامن حول دور المنظمات النقابية للأجراء والمشغلين في الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية ومسؤولية السلطات في تشجيع المفاوضة الجماعية وإبرام اتفاقيات الشغل الجماعية؛ أصبحت الحكومة ملزمة أكثر مما كان عليه الوضع سابقا بأن تعمل من موقع مسؤوليتها في حفظ النظام العام على تطبيق جميع مقتضيات المدونة، من خلال إصدار مذكرات ودلائل تطبيقية وتوضيحية، وإحداث لجنة ثلاثية استشارية تمثل فيها القطاعات الحكومية ذات العلاقة، والنقابات الأكثر تمثيلية، والاتحاد العام لمقاولات المغرب، مع الاستعانة بالخبراء لاستشارتهم في ما يتطلبه ذلك، وقصد التحسيس والمواكبة؛ مع وضع برنامج يشمل كل الجوانب التي تستدعي ذلك، ومنها:
تطبيق ما تنص عليه المادة 3:
من خلال وضعية العاملين بالقطاع العام الذين لا يطبق عليهم أي قانون، وبالأخص منهم الذين يواصلون عملهم باستمرار، والذين يعدون بعشرات الآلاف؛ ومنهم على سبيل المثال عمال الإنعاش الوطني الذين يعملون تحت وصاية وزارة الداخلية بإشراف السلطات والجماعات الترابية، بذلك تعطي الدولة النموذج في تطبيق القانون ليقتدي بها القطاع الخاص.
تطبيق ما تنص عليه المادة 511:
من خلال التصريح بكل عملية تشغيل عند حدوثها، وفق ما كان به العمل جاريا منذ صدور ظهير 27 شتنبر 1921، مع مراجعة الدور الذي تنهض به الوكالة الوطنية للتشغيل والكفاءات لتقوم به وفق ما هو مطلوب؛ وهو ما أكدنا عليه في المقالات السابقة دون جدوى، رغم أن ذلك قابل للتطبيق، ويخدم مصلحة العمال والمقاولة في آن واحد.. بالإضافة إلى مراجعة عقد التدريب من أجل الاندماج المهني؛ وهو ما سيؤدي إلى تطبيق القانون في الحالات التي يتم فيها العقد المستمر، والعقد المؤقت، وعقد الورش، والعقد الموسمي، ما سيؤدي إلى استقرار علاقات الشغل للأجراء، ووضع حد للتلاعبات في التصريحات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تماشيا مع روح المادة 16 التي تعتبر العمل المستمر هو القاعدة، والعمل المؤقت استثناءً، يتم العمل به عندما تقتضي الضرورة ذلك... وتغطية النقص الحاصل في هذا المجال، لكون المرسوم التطبيقي رقم 2.19.793 الذي صادق عليه المجلس الحكومي المنعقد يوم الخميس 16 يوليوز 2020 لم يتسم بالدقة ولم يَرْقَ إلى المستوى المطلوب.
تفعيل المواد من 281 إلى 344 حول الصحة والسلامة:
من خلال العمل على توفير شروط العمل الصحية، وتعميم مصالح طب الشغل بالمقاولات التي تشغل أزيد من 50 عاملاً، وإحداثها في المقاولات التي تشتغل بمواد مضرة بالعمال، وإحداثها بشكل مشترك بالأحياء الصناعية والقطاعات والمقاولات المتجانسة، مع وضع برامج تحسيسية دائمة. وقد بينت جائحة كورونا التقصير المهول الحاصل في هذا المجال.
حماية الحق النقابي:
من خلال تطبيق القانون في ما يتعلق بحماية الحق النقابي داخل المقاولة، وفق ما تنص عليه المادة 415، بتفعيل دور المندوب الإقليمي المكلف بالشغل قصد مواكبة نزاعات الشغل التي تحدث بعد تأسيس المكاتب النقابية بالمقاولات والقطاعات المهنية، والعمل من أجل إيجاد الحلول لها عند بداية مراحل حدوثها؛ وتطبيق القانون في ما يتعلق بالمحاسبة المالية حول الدعم المقدم للنقابات، وفق ما تنص عليه المادة 424. مع تفعيل المرسوم رقم 2.04.467 الصادر بتاريخ 29 دجنبر 2004، حماية للنقابات من الدعايات المغرضة التي تتعرض لها باستمرار، إذ لا يعقل أن يتم اتهامها في وقت لا يتم تطبيق القانون.
تفعيل محاضر المخالفات:
من خلال وضع مذكرة مشتركة بين وزارة الشغل ووزارة العدل، والحرص على تفعيلها، خاصة في الحالات التي تشكل خطورة على العمال؛ ومنها على سبيل المثال وضعية الصحة والسلامة في العمل، وفق ما تنص عليه مواد المدونة من 296 إلى 301... مع إحداث لجنة مشتركة من الوزارتين لمتابعة الموضوع باستمرار، وحماية مفتشي الشغل من المضايقات التي يتعرضون لها جراء ذلك.
تطبيق القانون من طرف المقاولات المتعاقدة:
إلزام المقاولات التي يتم التعاقد معها، سواء مع القطاع العام، أو المؤسسات العموميــــــــة أو الجماعات الترابية، أو مقاولات القطاع الخاص، قصد إحداث مشاريع وإنجاز خدمــــات أو القيام بمهام، مثل الحراسة والنظافة وصيانة الأغراس وغيرها، بتطبيق القانون وفق ما هو معمول به في كل مجال من المجالات.. واحترام دفاتر التحملات. وهو أمر ممكن وقابل للتطبيق، غير أنه مع الأسف لا يترجم على أرض الواقع في نسبة كبيرة من الحالات.
تسوية نزاعات الشغل:
إذا رجعنا إلى الإحصائيات الرسمية لوزارة الشغل والإدماج المهني سنجد أن جل نزاعات الشغل يعود سببها إلى التضييق على الحريات النقابية وعدم تطبيق مقتضيات مدونة الشغل المتمثلة في غياب بطاقة الشغل، وبيانات الأجر، وعدم احترام الحد القانوني للأجر، وعدم احترام ساعات العمل، وعدم تعميم النظام الداخلي، ولجان الصحة والسلامة، ولجنة المقاولة، والمس بالمكتسبات، وعدم التصريح للصندوق الوطني للضمان الاجتماعـــــــــي أو التلاعب فيه وغير ذلك.. وهو ما يتطلب وضع برنامج عمل، وخارطة طريق لتطبيق جميع مقتضيات مدونة الشغل، ما سيؤدي إلى وضع حد لجل نزاعات الشغل.
تعميم الحماية الاجتماعية:
إن غياب تطبيق مقتضيات مدونة الشغل ساهم بقدر كبير في عدم تعميم الحماية الاجتماعية على الأجراء، وفي عدم الإسراع بتمديدها إلى قطاع المهن الحرة، والعاملين لحسابهم الخاص، رغم صدور القانون رقم 98.15 المتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا بتاريخ 23 يونيو 2017، والقانون رقم 99.15 المتعلق بنظام المعاشات لفائدة نفس الفئات بتاريخ 5 ديسمبر 2017؛ وجعل هاته العملية تسير بوتيرة بطيئة، وخاصة في القطاعات التي يوجد بها عدد كبير من المهنيين، مثل قطاع النقل وعمال المقاهي والمطاعم، وقطاع التجار الصغار والمتوسطين، والقطاع الفلاحي، وغيره، رغم صدور المراسيم التطبيقية المتعلقة بالعدول والقابلات.. وينتظر أن تصدر باقي المراسيم.
تقوية دور جهاز تفتيش الشغل:
من خلال الرفع من عدد مفتشي الشغل إلى المستوى الذي يتماشى مع عدد المقاولات وعدد الأجراء. فإلى حد الآن لا يتجاوز عدد المفتشين المزاولين 317، وعدد الأطباء الممارسين على مستوى الجهات 18، وعدد مهندسي الصحة والسلامة 23؛ مع تمكينهم من وسائل العمل التي تجعلهم قادرين على إنجاز المهام المسندة إليهم..وهو ما يتماشى مع طبيعة المرحلة لمواجهة فيروس كورونا.
تقوية دور المفاوضة الجماعية واتفاقيات الشغل الجماعية:
يعود سبب تقليص اتفاقيات الشغل الجماعية إلى عدم تطبيق مقتضيات مدونة الشغل والتضييق على الحريات النقابية؛ فالمقاولة التي لا تطبق القانون وتقوم بالتضييق على الحريات النقابية لا يمكنها إبرام اتفاقيات الشغل الجماعية.. وهو ما يتطلب من الحكومة، بالإضافة إلى ما يجب عليها أن تقوم به من أجل تطبيق القانون، أن تعمل وفق منظور شمولي حول المفاوضات الجماعية ثلاثية الأطراف، وعلى المستوى القطاعي وعلى مستوى الجهات والأقاليم، مع إشراك الأطراف الثلاثة في جميع القضايا التي تهم الوضع الاقتصادي والاجتماعي بشكل متساو.. وهو ما يؤدي إلى توفير الثقة بينهم، وتوفير مناخ اجتماعي سليم، وفق ما جاء به دستور فاتح يوليوز 2011 وما جاءت به مقتضيات مدونة الشغل.
تفعيل وتقوية المجالس الاستشارية:
بما فيها مجلس المفاوضة الجماعية، والمجلس الأعلى لإنعاش التشغيل، ومجلس طب الشغل والوقاية من المخاطر المهنية، واللجنة المكلفة بالتشغيل المؤقت، بتقوية أدوارها لما لها من أهمية كبيرة، لكونها ثلاثية التركيبة.. وتكثيف اجتماعاتها مرتين في السنة، وكلما دعت الضرورة إلى ذلك؛ وإعادة النظر في التعديل الذي تم بأن تجتمع مرة واحدة في السنة مع تفعيل ما ينبثق عنها من نتائج.
ممارسة حق الإضراب:
وعلاقة بالموضوع، لا بد من إثارة الانتباه إلى كون جل الإضرابات التي تحدث على الصعيد الوطني يعود سببها إلى التضييق على الحريات النقابية، وعدم تطبيق مقتضيات مدونة الشغل، والمس بالمكتسبات؛ في حين أن الأمر الطبيعي هو أن تقوم الإضرابات من أجل الدفاع عن مصالح الأجراء في ما يتعلق بتحسين أوضاعها إلى ما هو فوق القانون، أي ما يدخل في إطار إبرام اتفاقيات الشغل الجماعية. إلا أن الواقع يخالف ذلك وهو مــا يتطلب عند تنظيم قانون حق الإضراب، الذي يجب أن يتم عن طريق التوافق، على أن يتضمن ما تكرس على أرض الواقع من خلال الممارسة الفعلية في الميدان، وتوسيعه إلى أقصى ما يمكن، لضمان التوازن. ولن يحدث جراء ذلك أي مشكل، خلافا لما يروج له من خلاف مفتعل، رغم أن نسبة كبيرة من القواعد المتعارف عليها في هذا المجال لا يمكن الاختلاف حولها.
الخلاصة:
إنه من خلال الأمثلة التي أشرنا إليها، يتضح أن تطبيق مقتضيات المدونة ممكن دون صعوبة إذا تم الانطلاق من روح القانون، ومما تراكم لدى الممارسين والخبراء خلال 16 سنة، من معرفة لمقتضيات المدونة في علاقاتها مع الاتفاقيات الدولية، وفق ما يخدم مصلحة العمال والمقاولة، والاقتصاد الوطني.. وهو ما سيساعد على مواجهة تحديات المرحلة، في ظل جائحة كورونا. ويبقى السؤال المطروح هو هل ستعمل الحكومة على تطبيق ما صدر عن هذه الندوة من نتائج؟.
في إطار مواكبة المراحل التي مرت منها مدونة الشغل منذ ما قبل التوافق عليها، ساهمتُ بسلسلة مقالات. وتفاعلا مع الندوة التي نظمتها وزارة الشغل والإدماج المهني حول "مدونة الشغل بين النص القانوني والتطبيق الفعلي" يومي 2 و3 أكتوبر 2020 بتعاون مع الفرقاء الاجتماعيين، وحضور الخبراء والممارسين، سأعود لكتابة هذا المقال.
مع اجتياح فيروس كورونا أصبحت الضرورة ملحة أكثر لتطبيق القانون الاجتماعي بفرعيه (قانون الشغل وقوانين الحماية الاجتماعية)، وقد تطلب التوصل إلى توافق عليه 9 سنوات من النقاش من 1994 إلى 2003، منذ أن تقدم وزير التشغيل السيد رفيق الحداوي بمشروع 1994، الذي كان متقدما، لكن تم سحبه بضغط من أرباب العمل؛ ثم بعد ذلك جاء المشروع الذي تقدم به السيد أمين الدمناتي سنة 1995، والذي عرف تراجعا كبيرا بالمقارنة مع المشروع السابق، ما تطلب بذل مجهودات ونقاشات حادة بمجلس النواب في لجنة العدل والتشريع التي كان يرأسها السيد عبد القادر باينة.
وإثر ذلك تمت الخطوة الأولى التي تمثلت في قيام الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بتشكيل لجنة مصغرة تتكون من الإخوة عبد القادر الزاير، عبد العزيز العتيقي، جلال الطاهر، مصطفى كنعان، وعبد ربه.. حيث تم تهييء مشروع مذكرة تعديلية تمت مناقشتها في ما بعد مع الاتحاد العام للشغالين، ثم فرق المعارضة بالبرلمان: الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية، تضمنت التعديلات التي أدخلت على المشروع الذي قدمه السيد وزير التشغيل خالد عليوة، على عهد حكومة التناوب التوافقي، والتي شكلت حوالي 60% مما جاء به هذا المشروع.
- وعلى مستوى الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية، ظل موضوع المدونة مطروحا أثناء جلسات الحوار التي أدت إلى التوقيع على التصريح المشترك لفاتح غشت 1996 واتفاق 23 أبريل 2000 على عهد حكومة التناوب التوافقي.
- وقصد تسريع الوصول إلى التوافق وإيجاد الحلول للنقط الخلافية، تم إحداث لجنة ثلاثية تتكون من:
عن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل:
- عبد القادر الزاير - عمر بن بادة - عبد القادر أزريع
وعن الاتحاد المغربي للشغل:
- أمال العامري - عبد الحميد أمين.
وعن الاتحاد العام للشغالين:
- كافي الشراط - العربي القباج.
- وعن الاتحاد العام لمقاولات المغرب: عبد الحق السدراتي - والمرحومة استيتو عائشة الداودي - والعربي كولو- ومحمد لحلو - وعز العرب الكتاني.
وعن وزارة الشغل:
- السيد الهادي شاطر، وبعض المفتشين والسيد سعيد بناني، مدير المعهد العالي للقضاء وخبير عن الحكومة.
وكان يحضر أعضاء آخرون لتمثيلية المركزيات النقابية، والاتحاد العام لمقاولات المغرب؛ غير أن الأسماء التي أشرنا إليها هي التي كانت تحضر في الغالب. وبدوري حضرت بعض اجتماعات هذه اللجنة، وخاصة في المراحل الأخيرة قبل الوصول إلى التوافق. وكنت حريصا على مواكبة جميع المناقشات التي كانت تتم في الموضوع من موقعي كعضو في المكتب التنفيذي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
وبعد عقد عدة جلسات طويلة وماراطونية داخل اللجنة وخارجها، تم تنظيم يوم الاستشارة الوطنية من طرف الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في 14 يوليوز 2001 بمدينة الدار البيضاء. وتعد هذه المحطة الثانية أساسية في استكمال ما كان يجب القيام به قصد الوصول إلى التوافق. وقد سبق لي أن قمت بنشر مقالين في ذلك الحين في جريدة "الرهان الآخر": الأول نشر في العدد الثاني منها بتاريخ 23 غشت، والثاني نشر في العدد الثالث بتاريخ 30 شتنبر 2001، تناولت فيهما النقط الخلافية التي كانت قائمة آنذاك.
وتمكنت هاته اللجنة من التوصل إلى التوافق وفق ما جاء به اتفاق 30 أبريل 2003؛ وقد واصلت عملها لتهييء المراسيم التطبيقية خلال سنتي 2004 و2005. غير أنه لم يتم استثمار هذا الإنجاز الكبير الذي أشاد الجميع بأهميته في تلك المرحلة. ومع الأسف فقد تم افتعال الاختلاف حول ما جاءت به اللجنة مباشرة بعد التوافق عليه، انطلاقا مما نصت عليه المادة 304 في ما يتعلق بإحداث المصالح الطبية للشغل بالمقاولة التي تشغل ما لا يقل عن 50 أجيرا، وفي ما يتعلق بالمادة 184 حول تقليص مدة الشغل إلى 44 ساعة في الأسبوع بدلاً من 48 ساعة دون تخفيض في الأجر. وما كان ينبغي أن يقع هذا الاختلاف بعد التوافق.
وبعد ذلك بدأت المطالبة بتعديل بعض المقتضيات من طرف أرباب العمل تصب في اتجاه المزيد من المرونة، علما أن مدونة الشغل فيها من المرونة ما يكفي، ما جعل موضوع التعديل محل خلاف دائم. ثم تواصلت الخطوات بين الأطراف الثلاثة إلى أن تم التوقيع على اتفاق 26 أبريل 2011، الذي تضمن جملة من الإجراءات والتدابير ذات الأهمية، ومنها تفعيل والمصادقة على العديد من الاتفاقيات الدولية. ومع مجيء دستور فاتح يوليوز 2011 الذي نص في ديباجته على جعل الاتفاقيات الدولية تسمو على التشريعات الوطنية، ونص في فصله السادس على أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، وفصله الثامن حول دور المنظمات النقابية للأجراء والمشغلين في الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية ومسؤولية السلطات في تشجيع المفاوضة الجماعية وإبرام اتفاقيات الشغل الجماعية؛ أصبحت الحكومة ملزمة أكثر مما كان عليه الوضع سابقا بأن تعمل من موقع مسؤوليتها في حفظ النظام العام على تطبيق جميع مقتضيات المدونة، من خلال إصدار مذكرات ودلائل تطبيقية وتوضيحية، وإحداث لجنة ثلاثية استشارية تمثل فيها القطاعات الحكومية ذات العلاقة، والنقابات الأكثر تمثيلية، والاتحاد العام لمقاولات المغرب، مع الاستعانة بالخبراء لاستشارتهم في ما يتطلبه ذلك، وقصد التحسيس والمواكبة؛ مع وضع برنامج يشمل كل الجوانب التي تستدعي ذلك، ومنها:
تطبيق ما تنص عليه المادة 3:
من خلال وضعية العاملين بالقطاع العام الذين لا يطبق عليهم أي قانون، وبالأخص منهم الذين يواصلون عملهم باستمرار، والذين يعدون بعشرات الآلاف؛ ومنهم على سبيل المثال عمال الإنعاش الوطني الذين يعملون تحت وصاية وزارة الداخلية بإشراف السلطات والجماعات الترابية، بذلك تعطي الدولة النموذج في تطبيق القانون ليقتدي بها القطاع الخاص.
تطبيق ما تنص عليه المادة 511:
من خلال التصريح بكل عملية تشغيل عند حدوثها، وفق ما كان به العمل جاريا منذ صدور ظهير 27 شتنبر 1921، مع مراجعة الدور الذي تنهض به الوكالة الوطنية للتشغيل والكفاءات لتقوم به وفق ما هو مطلوب؛ وهو ما أكدنا عليه في المقالات السابقة دون جدوى، رغم أن ذلك قابل للتطبيق، ويخدم مصلحة العمال والمقاولة في آن واحد.. بالإضافة إلى مراجعة عقد التدريب من أجل الاندماج المهني؛ وهو ما سيؤدي إلى تطبيق القانون في الحالات التي يتم فيها العقد المستمر، والعقد المؤقت، وعقد الورش، والعقد الموسمي، ما سيؤدي إلى استقرار علاقات الشغل للأجراء، ووضع حد للتلاعبات في التصريحات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تماشيا مع روح المادة 16 التي تعتبر العمل المستمر هو القاعدة، والعمل المؤقت استثناءً، يتم العمل به عندما تقتضي الضرورة ذلك... وتغطية النقص الحاصل في هذا المجال، لكون المرسوم التطبيقي رقم 2.19.793 الذي صادق عليه المجلس الحكومي المنعقد يوم الخميس 16 يوليوز 2020 لم يتسم بالدقة ولم يَرْقَ إلى المستوى المطلوب.
تفعيل المواد من 281 إلى 344 حول الصحة والسلامة:
من خلال العمل على توفير شروط العمل الصحية، وتعميم مصالح طب الشغل بالمقاولات التي تشغل أزيد من 50 عاملاً، وإحداثها في المقاولات التي تشتغل بمواد مضرة بالعمال، وإحداثها بشكل مشترك بالأحياء الصناعية والقطاعات والمقاولات المتجانسة، مع وضع برامج تحسيسية دائمة. وقد بينت جائحة كورونا التقصير المهول الحاصل في هذا المجال.
حماية الحق النقابي:
من خلال تطبيق القانون في ما يتعلق بحماية الحق النقابي داخل المقاولة، وفق ما تنص عليه المادة 415، بتفعيل دور المندوب الإقليمي المكلف بالشغل قصد مواكبة نزاعات الشغل التي تحدث بعد تأسيس المكاتب النقابية بالمقاولات والقطاعات المهنية، والعمل من أجل إيجاد الحلول لها عند بداية مراحل حدوثها؛ وتطبيق القانون في ما يتعلق بالمحاسبة المالية حول الدعم المقدم للنقابات، وفق ما تنص عليه المادة 424. مع تفعيل المرسوم رقم 2.04.467 الصادر بتاريخ 29 دجنبر 2004، حماية للنقابات من الدعايات المغرضة التي تتعرض لها باستمرار، إذ لا يعقل أن يتم اتهامها في وقت لا يتم تطبيق القانون.
تفعيل محاضر المخالفات:
من خلال وضع مذكرة مشتركة بين وزارة الشغل ووزارة العدل، والحرص على تفعيلها، خاصة في الحالات التي تشكل خطورة على العمال؛ ومنها على سبيل المثال وضعية الصحة والسلامة في العمل، وفق ما تنص عليه مواد المدونة من 296 إلى 301... مع إحداث لجنة مشتركة من الوزارتين لمتابعة الموضوع باستمرار، وحماية مفتشي الشغل من المضايقات التي يتعرضون لها جراء ذلك.
تطبيق القانون من طرف المقاولات المتعاقدة:
إلزام المقاولات التي يتم التعاقد معها، سواء مع القطاع العام، أو المؤسسات العموميــــــــة أو الجماعات الترابية، أو مقاولات القطاع الخاص، قصد إحداث مشاريع وإنجاز خدمــــات أو القيام بمهام، مثل الحراسة والنظافة وصيانة الأغراس وغيرها، بتطبيق القانون وفق ما هو معمول به في كل مجال من المجالات.. واحترام دفاتر التحملات. وهو أمر ممكن وقابل للتطبيق، غير أنه مع الأسف لا يترجم على أرض الواقع في نسبة كبيرة من الحالات.
تسوية نزاعات الشغل:
إذا رجعنا إلى الإحصائيات الرسمية لوزارة الشغل والإدماج المهني سنجد أن جل نزاعات الشغل يعود سببها إلى التضييق على الحريات النقابية وعدم تطبيق مقتضيات مدونة الشغل المتمثلة في غياب بطاقة الشغل، وبيانات الأجر، وعدم احترام الحد القانوني للأجر، وعدم احترام ساعات العمل، وعدم تعميم النظام الداخلي، ولجان الصحة والسلامة، ولجنة المقاولة، والمس بالمكتسبات، وعدم التصريح للصندوق الوطني للضمان الاجتماعـــــــــي أو التلاعب فيه وغير ذلك.. وهو ما يتطلب وضع برنامج عمل، وخارطة طريق لتطبيق جميع مقتضيات مدونة الشغل، ما سيؤدي إلى وضع حد لجل نزاعات الشغل.
تعميم الحماية الاجتماعية:
إن غياب تطبيق مقتضيات مدونة الشغل ساهم بقدر كبير في عدم تعميم الحماية الاجتماعية على الأجراء، وفي عدم الإسراع بتمديدها إلى قطاع المهن الحرة، والعاملين لحسابهم الخاص، رغم صدور القانون رقم 98.15 المتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا بتاريخ 23 يونيو 2017، والقانون رقم 99.15 المتعلق بنظام المعاشات لفائدة نفس الفئات بتاريخ 5 ديسمبر 2017؛ وجعل هاته العملية تسير بوتيرة بطيئة، وخاصة في القطاعات التي يوجد بها عدد كبير من المهنيين، مثل قطاع النقل وعمال المقاهي والمطاعم، وقطاع التجار الصغار والمتوسطين، والقطاع الفلاحي، وغيره، رغم صدور المراسيم التطبيقية المتعلقة بالعدول والقابلات.. وينتظر أن تصدر باقي المراسيم.
تقوية دور جهاز تفتيش الشغل:
من خلال الرفع من عدد مفتشي الشغل إلى المستوى الذي يتماشى مع عدد المقاولات وعدد الأجراء. فإلى حد الآن لا يتجاوز عدد المفتشين المزاولين 317، وعدد الأطباء الممارسين على مستوى الجهات 18، وعدد مهندسي الصحة والسلامة 23؛ مع تمكينهم من وسائل العمل التي تجعلهم قادرين على إنجاز المهام المسندة إليهم..وهو ما يتماشى مع طبيعة المرحلة لمواجهة فيروس كورونا.
تقوية دور المفاوضة الجماعية واتفاقيات الشغل الجماعية:
يعود سبب تقليص اتفاقيات الشغل الجماعية إلى عدم تطبيق مقتضيات مدونة الشغل والتضييق على الحريات النقابية؛ فالمقاولة التي لا تطبق القانون وتقوم بالتضييق على الحريات النقابية لا يمكنها إبرام اتفاقيات الشغل الجماعية.. وهو ما يتطلب من الحكومة، بالإضافة إلى ما يجب عليها أن تقوم به من أجل تطبيق القانون، أن تعمل وفق منظور شمولي حول المفاوضات الجماعية ثلاثية الأطراف، وعلى المستوى القطاعي وعلى مستوى الجهات والأقاليم، مع إشراك الأطراف الثلاثة في جميع القضايا التي تهم الوضع الاقتصادي والاجتماعي بشكل متساو.. وهو ما يؤدي إلى توفير الثقة بينهم، وتوفير مناخ اجتماعي سليم، وفق ما جاء به دستور فاتح يوليوز 2011 وما جاءت به مقتضيات مدونة الشغل.
تفعيل وتقوية المجالس الاستشارية:
بما فيها مجلس المفاوضة الجماعية، والمجلس الأعلى لإنعاش التشغيل، ومجلس طب الشغل والوقاية من المخاطر المهنية، واللجنة المكلفة بالتشغيل المؤقت، بتقوية أدوارها لما لها من أهمية كبيرة، لكونها ثلاثية التركيبة.. وتكثيف اجتماعاتها مرتين في السنة، وكلما دعت الضرورة إلى ذلك؛ وإعادة النظر في التعديل الذي تم بأن تجتمع مرة واحدة في السنة مع تفعيل ما ينبثق عنها من نتائج.
ممارسة حق الإضراب:
وعلاقة بالموضوع، لا بد من إثارة الانتباه إلى كون جل الإضرابات التي تحدث على الصعيد الوطني يعود سببها إلى التضييق على الحريات النقابية، وعدم تطبيق مقتضيات مدونة الشغل، والمس بالمكتسبات؛ في حين أن الأمر الطبيعي هو أن تقوم الإضرابات من أجل الدفاع عن مصالح الأجراء في ما يتعلق بتحسين أوضاعها إلى ما هو فوق القانون، أي ما يدخل في إطار إبرام اتفاقيات الشغل الجماعية. إلا أن الواقع يخالف ذلك وهو مــا يتطلب عند تنظيم قانون حق الإضراب، الذي يجب أن يتم عن طريق التوافق، على أن يتضمن ما تكرس على أرض الواقع من خلال الممارسة الفعلية في الميدان، وتوسيعه إلى أقصى ما يمكن، لضمان التوازن. ولن يحدث جراء ذلك أي مشكل، خلافا لما يروج له من خلاف مفتعل، رغم أن نسبة كبيرة من القواعد المتعارف عليها في هذا المجال لا يمكن الاختلاف حولها.
الخلاصة:
إنه من خلال الأمثلة التي أشرنا إليها، يتضح أن تطبيق مقتضيات المدونة ممكن دون صعوبة إذا تم الانطلاق من روح القانون، ومما تراكم لدى الممارسين والخبراء خلال 16 سنة، من معرفة لمقتضيات المدونة في علاقاتها مع الاتفاقيات الدولية، وفق ما يخدم مصلحة العمال والمقاولة، والاقتصاد الوطني.. وهو ما سيساعد على مواجهة تحديات المرحلة، في ظل جائحة كورونا. ويبقى السؤال المطروح هو هل ستعمل الحكومة على تطبيق ما صدر عن هذه الندوة من نتائج؟.VV