كنا نعتقد أن مشكلتنا قائمة مع جائحـة "كورونا" التي ما زالت مصـرة على العبث بأوراقنا ولخبطة خططنا ومساراتنا وأنماط عيشنا وتفكيرنا، لكننا بتنا نقتنع يوما بعد يوم، أن مشكلاتنا الحقيقيـة قائمـة مع جائحة المشهد السياسي الذي بات ملاذا آمنا لبعض العابثين والمتهورين والوصوليين والمتربصين بالكراسي وما تجود به من ريع ومكاسب ومغانم وتسلق للدرجات، ومن ارتقــاء سياسي ومالي واجتماعي، بعيـدا كل البعد عن خدمة الأمة والدفاع عن قضاياها وانتظاراتها، إلى درجة أضحت فيها الممارسة السياسية في أذهان الناس، مرادفة للأنانية المفرطة والمصلحة العمياء والوصولية والانتهازية والعناد واللغط و"التسنطيح وتخراج العينين"، في واقع سياسي وقانوني، ما زالت تفصله مسافات عن مبــدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة".
المتأمل في تصريحات البرلماني صاحب مقولة "البيليكي" وهو يدافع داخل قبة البرلمان بشراسة وبسالة قل نظيرهما عن أحقية البرلمانيين في التعويضات والمعاشات، هي رسالة واضحة المضامين لا تحتاج إلى تعليق أو تأويل أو تفسير، تعكــس أزمة حقيقية في الممارسة السياسية وما يجري في فلكها من ديمقراطية وانتخابات وأحزاب سياسية وعمل برلماني وحكومي، كنا ننتظر منه ومن غيره من نواب الأمة، أن يتحلوا بنفس درجة الشراسة والجرأة والبسالة والحماسة، أن يتنازلوا عن كبريائهم وأنانيتهم وحساباتهم الضيقة، للترافع عن قضايا الفقراء والمغلوب على أمرهم والمستضعفين الذين زادت أوضاعهم تأزما وتعقيدا بسبب الجائحة الكورونية وتداعياتها، للدفاع بجرأة ومواطنة عن القطاعات الحيوية والاستراتيجية التي أبانت الجائحة عن حجم ضعفها وقصورها ومحدوديتها، من صحة وتعليم وبحث علمي وحماية اجتماعية وشغل وسكن وغيرها، لتقديم الحلول والبدائل الممكنة التي من شأنها الإسهام في التخفيف من حدة الأزمة الكورونية القائمة خاصة وسط الفئات الفقيرة والمعوزة، أن يوحدوا الطاقات والقدرات لتخليص المدن مما بات يعتريها من مشاهد العبث والتهور والفوضوية والأنانية، من انتشار كاسح للباعة المتجولين والكلاب الضالة، واحتلال مقلق للملك العام أمام أنظار السلطات ومن غياب للفضاءات الخضراء وملاعب القرب ودور الثقافة والشبابة والرياضة، التي من شأنها إبعاد أطفالنا وشبابنا من ورم الانحـراف بكل مستوياته، كنا ننتظر منه ومن غيره من "نواب الأمة" أن يحرصوا على المال العام في لحظة خاصة واستثنائية، انكشفت فيها سوءتنا أمام جائحة جارفة، كشفت عن عمق المأساة ودرجة المعاناة وحجم ما نتخبط فيه من أعطاب واختلالات تنمويـة منذ سنوات..
وحتى لا نكون قاسيين على البرلماني الذي ترافع بشراسة قل نظيرها عن أحقية البرلمانيين في التعويضات والمعاشات، نرى أن ما صدر عنه من تصريحات تحكمت فيه الحماسة والأنانية والذاتية، في لحظة لم يتم فيها تقدير التداعيات المتعددة المستويات لمثل هكذا تصريحات سياسيا وحزبيا وشعبيا، اعتبارا لخصوصيات الظرفية الخاصة والاستثنائية التي نعيشها، والتي تتطلب المزيد من التعبئة الجماعية والتحلي بما يكفي من روح المواطنة والمسؤولية واستحضار المصلحة العامة، والبعد عن إثــارة القلاقل والنعرات والصراعات الخفية والمعلنة، بشكل من شأنه توفيـر الظروف الآمنة التي من شأنها المساعدة على مجابهـة ما يواجهنا من تحديات آنية ومستقبلية، مرتبطـة بالأساس بما وضعه الملك محمد السادس من خارطة طريق في خطابي العرش الأخير وافتتاح الدورة التشريعية، لانعـــاش الاقتصاد الوطني والنهوض بقطاع الحماية الاجتماعية بكل مستوياته، وبما نتطلع إليه من نموذج تنموي جديد، نعــول عليه جميعا للمرور إلى مرحلة "المسؤولية" و"الإقلاع الشامل"..
وهي في الآن ذاته، تصريحات شئنا أم أبينا، بمثابـة مرآة عاكسة في مجملها لواقع حال السياسة التي باتت في المتخيل الفردي والجماعي، مرادفة ومقرونة بالسباحة المجانية في حوض الريع الذي أضحى قنطرة عبور آمنة وسلسة للارتقــاء في السلم الاقتصادي والمالي والاجتماعي، وحتى نكون واقعيين، فكيف يمكن لمنتخب محلي أو برلماني أو مسؤول حكومي (مع وجود الاستثناء طبعا) ألف "عسل الريع" منذ سنوات، وما يذره عليه من مكاسب ومن تعويضات سخية مثنى وثلاث ورباع... ومن فرص للارتقاء المجتمعي، كيف له أن يلتفت لهموم ومشاكل الأمة وكيف له أن يترافع ببسالة وشراسة للدفاع عن قضاياها وانتظاراتها؟ في واقع ريعي كهذا تكاد تغيب عنه شمس المسؤولية والشفافية والمساءلة والمحاسبة، من الطبيعي أن تحضر الأنانية المفرطة ومن المنطقي أن تخيم ثقافة المصالح والمكاسب والتسابق نحو الريع، ومن الطبيعي أن يخرج برلماني أو مسؤول حكومي للترافع والدفاع عن الحقوق والمكاسب، بدل الترافع عن المصلحة العامة والدفاع عن قضايا الأمة وانتظاراتها..
تصريحات البرلماني المثير للجدل، بقدر ما لم تحرك في ذواتنا كمهتمين بالشأن السياسي والاجتماعي أي نوع من المفاجئة أو الاستغــراب، لأنها معبــرة عن الواقع وعاكسة له، بقدر ما نرى أن تصريحات من هذا القبيل، تعمق الهوة بين المواطن والسياسة وتفقد الديمقراطية وما يجري في فلكها من انتخابات وأحزاب سياسية، قيمتها وجدواها، وتكــرس إحساس المواطن بفقدان الثقة في العمل السياسي والانتخابات والأحزاب السياسية، وبعدم قــدرته على صناعة التغيير في ظل مشهد حزبي مصاب بالضعف والهوان، بات اليوم في حاجة ماسة إلى إصلاح حقيقي بعيدا عن الترميمات أو "الروتوشات" أو تبادل المواقــع.. وحتى الظرفية كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا، تفــرض خطابا سياسيا مسؤولا، يستحضر خصوصيات ما تمر منه الدولة من أزمة كورونية، ويستوعب تداعياتها المتعددة الزوايا على الاقتصاد والمجتمع، وما يقتضيه الوضع القائم من تعبئة جماعية ومن استحضار للمصلحة العامة للوطن والمواطن على حد ســواء، ومن بعد عن كل الخرجات أو التصريحات التي من شأنها إثارة المزيد من الخلافات والنعرات والقلاقل التي لا محل لها من الإعــراب..
وعليه، فمن غير المقبول، أن نشاهد أو نسمع تصريحات ترافع بشراسة عما تدره مهمات "تطوعية" في جوهرها، من مكاسب وتعويضات تدخل في زمرة "الريع" وأخواته، ونحن نعيــش في زمن "الجائحة" التي عرت عن كل شيء وكشفت عن كل شيء وقالت كل شيء، ومن غير المقبول أيضا، أن يظل "الريع السياسي" حديث القاصي قبل الداني، أن يظل ذاك "الكوفيد المرعب" الذي يعبث بجسد المال العام بدون خجل أو حياء، بعيدا عن آليات المحاسبة والمكاشفة والمساءلة، مكرسا لمفهوم للسياسة في ذهن المواطن، مقرونا بالعبث والمصلحة والجشـع والأنانية المفرطة والوصولية والارتقــاء في السلم الاجتماعي، ولا أبلغ من صورة منتخب محلي أو برلماني أو مسؤول حكومي يمارس أكثر من مهمة في الآن ذاته، وكل مهمة تذر عليه مكاسب وتعويضات بالجملة، ولا أبلغ من صور الكثير من المنتخبين الذين اقتحموا السياسة وهم في درجة الصفر، وتحولوا بين عشية وضحايا إلى مقاولين ومنعشين عقاريين وأصحاب ثـروات في غياب لبيت القصيد في دستور 2011 (ربط المسؤولية بالمحاسبة) ولشعار من أين لك هـذا؟..
ما نعيشه من جائحة لا أحد يمكنه التكهن بمتى ستضع أوزارها، يفــرض استعجال "حماية المال العام" والتفكير في السبل القانونية الممكنة لإيجاد حلول مقبولة لمعاشات وتعويضات البرلمانيين والمسؤولين الحكوميين، وعقلنة وتقنين ما يتلقـاه المسؤولون من تعويضات مرتبطة بما يضطلعون به من مهام، والحــرص على القطع مع واقع "تعدد المهمات والمسؤوليات"، فلم يعد مقبولا ونحن في ظل الجائحة، أن يحضر بين ظهرانينا "مسؤولون سوبرمان" يجمــعون بين عدد من المهمات والمسؤوليات في الآن ذاته، تذر عليهم "تعويضات" بسخــاء، كما لم يعد مقبولا أن يظل العمل السياسي والحزبي بالأساس بهذا المستوى من العبث والضعف والهـوان المكرس للمصلحة والأنانية المفرطة، ما لم تبـادر الأحزاب السياسية إلى تغيير جلدها وتطهير بيتها الداخلي، بالارتقـاء بمستوى ديمقراطيتها الداخلية وتعزيز آليات الحكامة وإتاحة الفرصة للكفاءات والطاقات الشابة، والاضطلاع بمسؤولياتها الجوهرية في تأطير المواطنين، بشكل يعيـد الاعتبار للانتخابات والعمل السياسي ويعيد المواطن إلى حضن السياسة، فلا يمكن كسب الرهانات القائمة إلا في ظل أحزاب سياسية قوية، تجعل خدمة المواطن في صلب خططها وبرامجها السياسية، أما الفاعل السياسي برلمانيا كان أو مسؤولا حكوميا، فلا بديل له اليوم، ســوى الارتقاء بمستوى خطابه السياسي والبعد عن "الخرجات" غير محسوبة العواقب، والمكرسة للمزيد من الجدل والخــلاف الذي يزيد من غموض وضبابية المشهد السياسي، فالبرلماني مهما كان لونه السياسي، مهمته الدفاع عن قضايا الأمة التي دونها ما كان له أن يصل إلى قبـة البرلمان، بالإسهــام في بلورة تشريعات رصينة معبرة عن تطلعاتها وانتظاراتها، وأي خــروج عن هذا الدور المركزي، لن يكون إلا انزلاقا وخروجا عن النـــص، وسواء تعلق الأمر بالبرلمان أو بالحكومة، تبقى الأمة هي صاحبة السيادة، ولا يمكن قطعا تصور انتخابات أو برلمان أو حكومة أو عمل سياسي، إلا في ظل "أمة"، يفتـرض أن يكون البرلمان خير مدافع عن مصالحها وقضاياها، وأن تكون "الحكومة" عبر برامجها، خيـر معبـر عن تطلعاتها وانتظاراتها..
لسنا بصدد تمرير درس حول الأحزاب السياسية، أو إلقاء محاضرة في علم السياسة، وليس المجال هنا، للنبش في حفريات المشهد السياسي وما يعتريه من مشاهد البــؤس، ولكن هي محاولة متواضعة، تأتي في سياق مواكبتنا لمستجدات ومتغيــرات المشهد السياسي والاجتماعي الوطني، وفي ظل ذلك، كان لا بد لنا من تخصيص مقال تفاعلا مع صدر عن برلماني "بيليكي" من تصريحات لم تسلم من كماشة الجدل واللغط والانتقاد، وكعادتنا في مثل هذه المواقف، لن نوجه سهام الجدل أو اللغط ولن نشهر سيف الانتقــاد في وجه الرجل الذي خانته الحماسة في لحظة كانت تقتضي التحلي بالحكمة والمسؤولية، لكن في الآن ذاته، نرى أن ما صدر عنه، وإن كان يخصه ويلزمه، فهو يختزل "مواقف" شرائح واسعـة من المسؤولين (برلمانيون، مسؤولون حكوميون، رؤساء مجالس ومؤسسات وهيئات عمومية...) يسبحون في فلك الريع في ظل ما يمارسونه من مهمات متعددة المستويات، ونحن على اقتناع تام، أن المال العام لا يمكن حمايته أو تحصينه إلا بالتشريع وليس بالشعارات الرنانة والحملات العابرة، وهذا يقتضي إعادة النظر في كل القوانين التي تؤسس للريع بكل مستوياته وأشكاله وتكرسه على مستوى الواقع، فما تم تقعيده بالقانون، فلا يمكن تقنينـه أو تصفيتـه إلا بالقانون.
ونحن ما زلنا نعيش في زمن جائحة كورونا، كنا نأمل كمواطنين وكمتتبعين للشأن السياسي والاجتماعي الوطني، أن نستشعر تغيرا في الممارسات السياسية وأن نتلمــس نوعا من الجنوح نحو حماية "بيضة المال العام" استحضارا لخصوصية الظرفية التي تفرض إعادة ترتيب الأولويات والاختيارات، وإعادة الاعتبار لعدد من القطاعات الحيوية والاستراتيجية وعلى رأسها الصحة والتعليم والبحث العلمي والحماية الاجتماعية، لكن يبــدو لحد الآن أننا لم نستوعب "الدرس الكوروني" كما يجب، فمن غير المقبول ونحن في زمن الأزمة والجائحة، أن نستمر في العبث بالمال العام يمينا وشمالا، ويكفي أن نستحضر ما أثاره قبل أيام، الدعم الممنوح للفنانين من لغط واحتجاج، وقبله التعويضات التي منحت بسخاء لقطاع الصحافة والإعلام ولرئيس وأعضاء المجلس الوطني للصحافة، دون إغفال التعويضات السخية التي منحت لأعضــاء "مجلس الهيئة الوطنية لضبط الكهربــاء"، وغير ذلك، من التعويضات السخية التي يستفيد منها في صمت رؤساء وأعضاء العديد من المجالس والهيئات والمؤسسات، بشكل يكـــرس الفوارق الاجتماعية ويقــوي الإحســاس لدى شرائح واسعة من المواطنين بانعدام العدالة والمساواة الاجتماعية، وبعدم جدوى الديمقراطية والأحزاب السياسية والانتخابات...
ويكفي أن نستحضر حجم الأسر التي تقدمت بطلبات الدعم الاجتماعي أثناء سريان الحجر الصحي، ســواء من حاملي بطاقة الراميد، أو ممن يشتغل في إطار القطــاع "غير المهيكل"، بعيــدا عن كل أشكال الحماية الاجتماعية والصحية، ليتبيـن عمق المأساة وحجم المعاناة التي تحضر بين ظهرانينا في النسيــج المجتمعي ونحن عنها غافلون، ويكفي النظر إلى حجم الخصاص في المنظومة الصحية ومحدودية قطاع التربية والتكوين والبحث العلمي، وعمــق الأزمة التي باتت تتربص بعدد من القطاعات الاقتصادية التي تضررت أكثر من غيرها بسبب الأزمة، وعلى رأسها الفلاحة والسياحة وقطاع الفندقة والمطاعم والنقل واللوجستيك وتموين الحفـلات والأعراس وغيرها، مشاهـد من ضمن أخرى، لا يمكن إلا أن نستحضر آثارها على النسيج الاقتصادي، ونقــدر تداعياتها المحتملة الآنية والمستقبلية على الأمن الاجتماعي في ظل الانكمــاش الاقتصادي وتباطؤ حركية الرواج التجاري، وفي ظل هذا الوضـــع المقلق، تــزداد حاجتنا الماسة إلى التحلي بقيمـة المواطنة الحقة، وما يرتبط بها من مسؤولية واتزان ورصانة وتعــاون وتضامن وتعاضد ونزاهـة، ومن استحضار للمصلحة العامة للوطن، بعيــدا عن الأنانية المفرطة والحسابات الضيقة والنعرات والصراعات الهدامة..
الملك محمد السادس كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا، وضع في خطابي العرش وافتتاح الدورة البرلمانية، خارطة طريق الإنعـــاش الاقتصادي وخطة ورش تعميم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية لكل المغاربـــة، لتجاوز محنـة "كورونا" وتداعياتها الاقتصاديــة والاجتماعية، وبقدر ما نثمن وننـوه بالمبادرات الملكية الرائدة التي يسكنها على الدوام، هاجس التنمية والارتقــاء بمستوى عيش المغاربة، بقـدر ما نرى أن الظرفية تقتضي أحزابا سياسية حقيقيـة تضع المواطن في صلب اهتماماتها وبرامجها، وإلى مسؤوليــن أكفــاء، يستحضرون الوطن قبل كل شيء، قادرين على التفكير والخلق والإبــداع والابتكار والإصغــاء لنبـض الشعب وعدم التردد في قول الحقيقة، وإلى رجالات دولة مشهود لهم بالمواطنة والنزاهة والتضحية ونكــران الذات وخدمة الصالح العام، فلا يمكن الإصلاح بعقليات باتت نمطيـة، ولا يمكن البتة النهــوض والارتقاء، إلا برجالات يؤمنون بفلسفة الإصــلاح بعيـدا عن "كوفيد" الريـع ومفرداتــه، ولا يمكن إدراك التغيير المنشــود، إلا في ظل أحزاب سياسية "مواطنــة" قادرة على تأطير المواطن وصناعة النخب الحقيقية التي من شأنها التدبيــر الأمثل للشأن العام، والإسهام الإيجابي في إنجـاح مختلف الأوراش التنمويــة المفتوحة وعلى رأسها "النموذج التنمــوي الجديد" المرتقب أن تقدم تفاصيله العريضة أمام أنظار الملك مطلـــع السنة القادمة.
وعليه وبناء على ما سلف، واستحضارا لجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، وتقديرا لما أبانت عنه الجائحة من مظاهر الخصاص والمحدوديـــة في عدد القطاعات الحيوية والاستراتيجية (الصحة، التعليم، البحث العلمي، الحماية الاجتماعية، الفلاحة...)، وحرصا على الأمن الاجتماعي، ومراعاة للفوارق السوسيومجاليــة التي تعمقت بؤرها بسبب الأزمة الكورونية، ومن باب المواطنـة الحقة والإسهام الفردي والجماعي في خدمة الوطن في هذه اللحظة الخاصة والاستثنائيــة، وترقبا للنموذج التنموي المرتقب الذي نعول عليه جميعا لتخليصنا من أعطابنا واختلالاتنا التنموية، آن الأوان للقطع مع كل ممارسات العبـث والأنانية المفرطة التي تنتصر للمصلحة الخاصة على حساب قضايا الأمة وانتظاراتها وتطلعاتها، فالمصلحة العامة فوق الجميــع والوطن يعلو ولا يعلى عليه، وليــس أمامنا ونحن لم ننفلت بعد من مخالب الجائحة، إلا أن نتنازل عن أنانيتنا وكبريائنا وعاداتنا السيئة وطباعنا القبيحـة التي كرست مغربا بات يختزله البعــض في تلك "البقرة الحلوب" التي لا تصلح إلا للحلب والنهب والسلب، وأن نستعجل التشريــع المناسب الذي من شأنه أن يضع حدا للجدل القائم منذ سنوات بشأن تعويضات ومعاشات البرلمانيين والوزراء، وأن يقنـن ما يتلقاه كبــار المسؤولين من تعويضات حرصا على "المال العام" الذي بات من الضروري منذ أكثر من أي وقت مضى، توجيهه نحو القطاعات الحيوية والاستراتيجية التي كشفت كورونا حجم محدوديتها ودرجة قصورها وضعفها..
ندرك تمام الإدراك أن اللحظة تقتضي التعبئة الجماعية والتعاضد والتعاون وطرح كل أسباب القلاقل والنعرات والصراعات والتحلي بروح المواطنة الحقـة خدمة للصالح العام، لأن ناعورة كورونا التي ما زالت مصرة على الـــدوران بقوة، تدق ناقوس الخطر وتجعلنا نقتنــع يوما بعد يوم أن "القادم أســوأ"، وفي الآن ذاته، نـرى أن الخطر الحقيقي الذي يتربص بنا ويمنعنا من فرص النهــوض والارتقاء، يكمن في ما بات يسيطر على ذواتنا من فيروسات أقــوى وأشد فتكا من الفيــروس التاجي، نختزل تفاصيلها في الأنانية المفرطة والمصلحة الخاصة وانعدام روح المسؤوليـة والوصولية والانتهازيـة، وهي فيروسات وغيرها، التغلب عليها يمر أولا عبـر التحلي "بالمواطنة الحقة" و"استحضار الصالح العام" و "حب الوطن"، ويمر ثانيا عبر إعادة الاعتبــار لسلطة القانون وفرض سيادته، وحماية المال العام من العابثين والمفسدين والمهووسين بالريع، وتعزيــز آليات الحكامة وما يرتبط بها من مسؤولية ومســاءلة ومحاسبة وعقاب، وحتى لا ننسى، فجائحة كورونا أعادت الاعتبــار للأوطان في ظل إقبال الدول على إغــلاق الحدود الوطنية لحماية صحتها العامة، في ظل وباء عالمي عابر للدول والقارات، وتموقعنا جميعا في الوطــن الذي كان حضننا الآمــن في جائحة جارفة، وهي فرصتنا اليـــوم لإعادة بناء الوطن والإسهام الفردي والجماعي في النهوض به والارتقــاء بأوضاعه، ليكــون على الدوام ملاذنا الآمن وحضننا الدافئ في لحظات الرخاء والازدهار كما في لحظات المحن والجوائــح والأزمات الفجائية..
نختم بالقول، أن عنـــوان المقال (حديث في ما جرى) تقاطع من باب الصدفة مـع كتاب "أحاديث في ما جــرى" الذي لخص جانبا من مذكرات الأستاذ الراحل "سي عبدالرحمان اليوسفي" رحمه الله، وهي فرصة لنستحضر سيرة رجل من رجالات الدولة البــارزين، الذي سجل له التاريخ ما تميز به من وطنية عالية ومن مسؤولية والتــزام واستقامة وثبات على المبــادئ، ومن غيرة وطنية صادقـة ونكــران للذات وعفة وتواضع وحكمـة وتبصـر واستحضار للمصلحة العامة وتشبث بمقدسات الأمة وبالوحـدة الترابية للمملكة، كما سجل له التاريخ بــراءة ذمته من الريــع، ونحن في زمن الجائحة الكورونية، لابد للفاعلين السياسيين الذين أسرتهم سلطة الريـع، أن يتأملــوا في سيـرة الرجل وغيره من رجالات الدولة الذين قضوا أو الذين لازالوا على قيــد الحياة، ويستحضروا ما تمتع به الرجل من تقدير وما حضي به من إجماع قل نظيره في الأوســاط السياسية والنضالية والفكرية والشعبيـة، ونحن على اقتناع، أن الوطن لايمكن بناؤه أو الارتقـــاء به، إلا برجالات دولة مخلصين و أوفيـاء، يستحضرون الوطن في الحركات والسكنات، يشتغلــون في صمت بعيدا عن التطبيل والتهليل والخرجات والنعرات، ويبتعدون بأنفسهـم عن الشبهات ما ظهر منها وما بطـن، أما الوصوليون والانتهازيـون والمصابون بهــوس الريع والمناصب والكراسي وتسلق الدرجات، فهــم أكبر جائحــة تتهدد الوطن، لا ينفـــع معها مصل أو لقــاح، ســوى فرض سيادة القانــون ومحاربة الفسـاد والإثــراء غير المشروع وربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي ذات الآن، نوجه البوصلة نحو المواطن(ة)/الناخب(ة) الذي لابد له أن يتحمل مسؤوليته كاملــة في اختيار من يمثله سواء على مستوى البرلمان أو المجالس المحلية والجهويــة، وفق شروط ومعاييــر الكفاءة والنزاهة والاستقامـة والمسؤوليــة، ولا يسعنــا إلا أن نجدد الرحمات على صاحب "أحاديث في ما جـــرى" وغيره من رجالات الدولة الذين تركوا بصمات بارزة في الذاكرة السياسية والنضاليــة الوطنية، فالتاريــخ لا يذكر إلا من ناضل من أجل الأوطـان بصدق ومحبة وصفــاء ونقاء، فحب الأوطان من الإيمان، فطوبى لمــن بنـى الأوطـان ...