لما تطرقتُ في السنة الماضية بموقع هسبريس لموضوع "السماوات والأرض في القرآن"، اندهشت للغموض الذي ظل يلف النماذج الفلكية للبطروجي كما عبر عنه المعلقون، ومن بينهم دكتور في الهندسة. انتبهت إذاك إلى أن مخطوطة "كتاب في الهيئة" للبطروجي لم تُحقق ولم تُنشر بَعْدُ بالعربية. فكل الدراسات المتعلقة بهذه المخطوطة الفريدة أُنشِئت باللغة الإنجليزية، مما جعل ويجعل تفحصها ومطالعتها متعذرين بالنسبة لأغلبية المغاربة.
تذكرت حينها الإبهام الذي كان الدكتور محمد عابد الجابري نفسُه قد عبر عنه بهذا الشأن في كتابه "ابن رشد، سيرة وفكر". خصص الجابري خمس صفحات من الفصل الثاني عشر للتنويه بما اعْتَبَره اجتهادا لهذا الفيلسوف في علم الفلك. فبعدما بَيَّن أن علم الفلك الرياضي الذي أسسه بطليموس بالإسكندرية في أواسط القرن الثاني للميلاد "كان هو السائد والمعتمد لكونه تطبيقيا أكثر منه نظريا“، نبَّه الجابري القارئ أن ابن رشد كان قد قام بأرصاد وبإنشاء كتاب في الهندسة الكروية وبتلخيص لكتاب المجسطي لبطلميوس، الذي يمكن اعتباره مرجعا أساسيا لكل من درس علم الفلك طيلة القرون الوسطى. ثم أشار الجابري أن ابن رشد شرح "كتاب السماء والعالم" لأرسطو، كتابٌ كان مهندسو الإغريق قد انتبهوا لثغراته وتجاوزوا نظرياته المخالفة للظواهر السماوية. بعبارة أخرى: في عهد ابن رشد، كان الدهر قد أكل وشرب على نظريات أرسطو في علم الفلك، دون أن تكون النماذج الهندسية بالإغريقية أو بالعربية قد نجحت في تقديم حل شامل لكل معضلات هذا العلم.
ككل علماء عصره، لاحظ ابن رشد أن النماذج الهندسية التي ورثها أو أنشأها بطليموس لا تعتبر الأرض مركزا لدوران الكواكب المتحيرة. مركزية كانت تقتضيها وتنطلق منها فيزياء أرسطو. إنه لمن الخطأ أو من المغالطة الفكرية أن نقول إن القدماء اعتبروا الأرض كمركز لدوران الكواكب المتحيرة. وإلا توجب علينا التوضيح بأن ذلك كان سائدا في عهد أرسطو، قبل تدخل المهندسين (géomètres) من أمثال إبرخس. وبالفعل، انتبه زملاء ومعاصرون لأرسطو إلى أن مدة الفصول الأربعة غير متساوية وأن هذا لا يتلاءم مع تصوره لمدار دائري للشمس حول مركز أرضنا دورانا لا تتغير سرعته. لذا لجأ هؤلاء الأوائل إلى إنشاء مدار خاص بالشمس مركزه خارج عن مركز أرضنا. وأنشأ اللاحقون من الإغريق (بطليموس على الخصوص) نماذج هندسية من بينها ما يسمى معدل المسير بالعربية (équant) محاولة منهم لمحاكات المسارات الملتوية والغير منتظمة كما كانت الأرصاد قد سجلتها منذ البابليين.
تحت عنوان "طموح إلى "تصحيح" علم الفلك" نقرأ ما يلي عند الجابري: "ذلك ما كان يطمح إليه فيلسوفنا (أي ابن رشد) منذ شبابه. لقد كان ينوي مراجعة آراء بطلميوس في الفلك بالرجوع إلى نظرية أرسطو". فكل الشهادات التاريخية تدلنا على أن النخبة العلمية بالأندلس ("ابن باجة، "ابن طفيل، "ابن ميمون والبطروجي) شاركت "ابن رشد في القول بأن النماذج الهندسية لعلماء الفلك لا تتفق مع ما تقتضيه فيزياء أرسطو. وكل هؤلاء العلماء يعترفون، في الوقت نفسه، بأن هاته النماذج الهندسية تصلح لإنتاج جداول (زيجات) تتفق إلى حد بعيد مع ما يُرصد بالعين المجردة. لهذا السبب بالذات نرى ابن ميمون يؤلف كتابه "دلالة الحائرين" ليقدم لنا مفتاح هذا اللغز كما سنرى.
لم ينهض ابن رشد لتحقيق أُمنيته في شبابه فنراه يكتب ما يلي: "… فيجب أن يجعل الفحص من رأس عن هذه الهيئة القديمة [هيئة أرسطو]، فإنها الهيئة الصحيحة التي تصح على الأصول الطبيعية، وهي مبنية عندي على حركة الفلك الواحد بعينه على مركز واحد بعينه وأقطاب مختلفة، اثنان فأكثر، بحسب ما يطابق الظاهر (…) وقد كنت في شبابي آمل أن يتم لي هذا الفحص، وأما في شيخوختي هذه فقد يئست من ذلك إذ عاقتني العوائق عن ذلك قبل. ولكن لعل هذا القول يكون منبها لفحص من يفحص بعد عن هذه الأشياء، فإنَّ علم الهيئة في وقتنا هذا هي هيئة موافقة للحسبان لا للوجود" (ص 223).
ويضيف الجابري بنفس الصفحة: "ولم يخب أمل ابن رشد في من جاء بعده. فقد تصدى تلميذه نور الدين أبو اسحق البطروجي (توفي بعد ابن رشد بنحو ست سنين، أي حوالي سنة 601 هـ)، للموضوع فحقق فيه إنجازا عظيما بحيث ظل الكتاب الذي كتبه في الموضوع مرجع الآخذين بالاتجاه الطبيعي في أوروبا إلى زمن كوبرنيك، مؤسس علم الفلك الحديث".
لا يُذَكر الجابري قراء العربية بأن ابن رشد منح لفيزياء أرسطو وللكنيسة، التي تبنت نظرياته، مهلةَ أربعة قرون إضافية قبل الانهيار. فالثورة العلمية الأوروبية بدأت بالتخلص من سيطرة الفيزياء الأرسطية وبإحياء فيزياء أرخميدس الرياضية والتجريبية والعـملية. وبالفعل كان أرخميدس من الأوائل الذين فندوا مقولات أرسطو في الفيزياء وذلك بإقامة التجارب المادية. وأرخميدس نفسه هو الذي أخبرنا بأن عالِم الفلك أرسطرخس الساموسي قال بدوران الأرض والكواكب حول الشمس.
فما الذي يفسر يا ترى ولع الموحدين وابن رشد والكنيسة والجابري ومركز الدراسات للوحدة العربية بأرسطو؟ لماذا أصرَّ ويُصرُّ مفكرونا وفلاسفتنا على المكوث بخانة الخاسرين تاريخيا؟ أعتقد أن البطروجي وابن ميمون يقدمان لنا جوابا مقنعا على هذا السؤال كما سنرى.
"كتاب في الهيئة" بمتناول الجميع
يسعدني اليوم أن أقدم لقراء العربية شرحا وافيا لكتاب البطروجي. لا يكتفي هذا الشرح بنقل مخطوطته إلى كتابتنا الحالية بل يتجاوز ذلك بإنشاء نماذج هندسية وبرامج للحاسوب (بلغة جاڤا سكريبت) تمكن القارئ من معاينة ما اكتفى البطروجي بوصفه، دون أن يقيم أي رصد أو حساب ودون إنشاء أي زيج. والزيجات هي عبارة عن جداول حسابية تمكن متفحصيها من معرفة منازل الكواكب بالسماء على مر الأشهر والسنين وبالتالي مقارنة الحسابات الهندسية المسبقة بما نرصده، ولو بالعين المجردة.
لقد جهزت ملفا من طراز پي دي إف يُمكن تحميله وأنشأت نماذج للهندسة الثلاثية الأبعاد ولخصت كل ذلك ضمن فيديو تُمكِّن مشاهديها من فهم ما أورده البطروجي بـ "كتاب في الهيئة". وبما أنه لا يمكن فهم البطروجي دون شرح النظريات الهندسية التي ينتقدها، كان لازما أن أبدأ بتقديم النماذج الفلكية المستعملة منذ القرون السابقة للميلاد والتي جمعها ثم طورها بطلميوس بكتابه الرياضي الذي ترجم إلى العربية وسمي المجسطي، أي العظيم.
بهذا سيتمكن قارئ العربية من الاطلاع على النماذج السابقة للبطروجي قبل الوقوف على نظريات هذا العالم الأندلسي. وفي آخر المطاف أتمنى أن يفهم القارئ لماذا لم تنجح المدرسة الأرسطية بالأندلس في إعادة الحياة للنماذج الأرسطية التي كان قدماء المهندسين قد تجاوزوها قبل أن يعيد دفنها، نهائيا هاته المرة، كل من غاليليو، كوبرنكيك وكيپلر. أعتقد أن دراسة تفاصيل هاته التجربة العلمية بالأندلس سيمكننا كذلك من الإجابة على أسئلة محورية وأساسية:
لماذا لم يعترف فلاسفتنا وعلماؤنا من أمثال ابن طفيل وابن رشد وابن ميمون والبطروجي بإفلاس الفيزياء الأرسطية وبتجاوزها نظريا وعمليا؟
ألم يفهموا أرخميدس ومناهجه في الدراسة والتخمين وإنجاز التجارب؟
لماذا لم يقم ابن الهيثم قبلهم، وهو فيزيائي فذ، بتصحيح نظريات أرسطو مثلما فعل ذلك أرخميدس؟
ولماذا تشبث الدكتور محمد عابد الجابري بالأرسطية وأغدق علينا بمدحه لابن رشد عوض انتقاده؟
حان الأوان، على ما أعتقد، لتجاوز فكرنا "التقدمي" الذي لم يهتم لا بالهندسة ولا بالأمور المادية الدنيئة رغم اصطفافه نحو اليسار وانخراطه بما سمي بـ"المادية العلمية". بقي مفكرونا، القدماء منهم والحديثون، شغوفين بالمعلم الأول، بأرسطو. آن الأوان إذن لتشييع جنازته ببلداننا المغاربية والشرقية بعدما أعلن غاليليو وفاته للملأ قبل خمسة قرون.
تفاصيل النموذج الفلكي للبطروجي
ارتأيت أنه من المفيد تقديم كتاب البطروجي في الهيئة لقراء العربية بعدما كان برنار چولدشتاين قد نشر ترجمته إلى الإنجليزية سنة 1971(4). ولهذا الغرض قمت أولا بنقل المخطوطة كما حققها وأورد صورها چولدشتاين لكتابتنا العربية الحالية. لكنني سرعان ما وجدت نفسي أمام صعوبة، إن لم تكن استحالة فهم ما كتبه البطروجي طالما لم نعبر عن تصوراته بلغتنا الرياضية والهندسية الحالية. يلزمنا نقل أفكاره إلى لغة عصرنا. وبما أن موضوع الكتاب هندسي بامتياز كان لا بد من إقامة رسومات بيانية لتكمِلة مخطوطته التي لا تحتوي سوى على بضعة رسومات رديئة جدا ولا تتفق دائما مع ما ورد من شرح يرافقها.
بدايةً يجب التنبيه إلى أن البطروجي يعود إلى نظريات أرسطو القائلة بأن:
الأرض هي المركز الوحيد لكل الأفلاك
الأرض ثابتة لا تبرح مكانها وسط الكون
الأفلاك أجسام سماوية شفافة، كروية الشكل، وهي التي تدير الكواكب المركوزة بلحمتها
سرعة الدوران لا تتغير عبر الزمان (سرعة مستوية بالقواميس القديمة)
لكل فلك سرعاته الخاصة به والمختلفة عن سرعات باقي الأفلاك.
انطلاقا من هاته المقدمات، يمكن تلخيص نماذج البطروجي الواردِ وصفُها بكتابه في الهيئة بتقديم المعطيات المادية والوسائط العددية التي أشار إليها. وهاته المعطيات هي عبارة عن إجابة على سبع أسئلة يتم طرحها على محتوى كتاب الهيئة بشأن كل فلك من الأفلاك:
أين يضع البطروجي مركز الفلك الحامل في الطول والعرض؟
ما مقدار شعاع الفلك الحامل بالدرجات؟ سيتضح معنى "الفلك الحامل" و"فلك التدوير" في ما يلي.
ما مقدار شعاع فلك التدوير بالدرجات؟
بأي مكان في الطول والعرض يُرْكز الكوكب بلحمة فلكه؟
ما هي سرعات الدوران الثلاث الخاصة بالكوكب؟
كم من دورة يجتازها الكوكب بواسطة الفلك الحامل، ما هي مدة هذا الدوران بالسنين؟
كم من دورة يجتازها الكوكب بواسطة حركة قطبه على فلك التدوير، ما هي مدة هذا الدوران بالسنين؟
كم من دورة يجتازها الكوكب بدوران فلكه بتلقاء نفسه حول نفسه، ما هي مدة هذا الدوران بالسنين؟
فمُلخَّص النموذج الفلكي البطروجي إذن عبارة عن ثلاث وستين معطى (7×9) لم يقدمها لنا البطروجي بالدقة المطلوبة في كل الأحوال. بقيت بعضها غير واضحة فاستعملتُ مقادير رقمية مكانها لأن البرامج الهندسية للحاسوب تحتاج لوسائط مضبوطة كما يتبين من الجدول الحسابي المرفق بهذا المقال. وفي ما يلي مكونات وتفاصيل النموذج الفلكي عند البطروجي:
المحرك الأول
يعتبر البطروجي أن الفلك الأعلى هو المحرك الأول وهو الوحيد الذي يدور دورة كاملة في مدة يوم وليلة، وبالتالي 36525 دورة في كل سنة شمسية. ودورانه ملازم لقطباه اللذان لا يبرحان مكانهما، وهما القطب الشمالي والقطب الجنوبي للكون. لا تحتوي لحمة الفلك الأعلى على أي كوكب أو نجمة. لذا، لا يمكن رصده. فهو إذن فلك افتراضي عند البطروجي حيث ينطلق من ضرورة وجوده كمُحرِّك لكل ما بجوفه الحركةَ اليومية. فالحركة اليومية، من الشرق نحو الغرب، لكل ما بالسماء من نجوم وكواكب هي التي تقتضي وجود فلك أعلى كمحرك أول. ويفترض البطروجي أنه هو المثال وأن الأفلاك التي بجوفه تحاول اللحاق والتشبه به، دون أن يبلغ أي فلك سرعة كافية لتحقيق ذلك. لذا نرى النجوم والكواكب مُقَصِّرة في سيرها فتتأخر نحو الشرق. فما يُخيَّل لنا أنه انتقال للقمر مثلا من الغرب نحو الشرق ما هو سوى تأخر عن الركب عند البطروجي.
والأفلاك كلها منفصلة عن بعضها البعض رغم تماسها في ما بينها مع غياب أي فراغ أو سائل أو مادة أخرى تفصلها. فالأفلاك المتطابقة ليست كتلة واحدة، وهي بالتالي لا تدور بنفس السرعة مثل المحرك الأعلى. يمكن إذن تشبيه الكون ببصلة تكون كل قشراتها قادرة على الدوران بحرية دونما احتكاك بجارتها. ولا وجود بهذا النموذج لمحاور مادية تربط بين المحرك الأول والأفلاك التي بجوفه. فهو يحركها بقوته التي لها تأثير عن بُعْد. ويتناقص تأثير هاته القوة كلما ابتعدت الأفلاك الداخلية عن محركها الأول. لذا، لا تستطيع اللحاق به. نراها تُقَصِّر في سيرها وتتأخر فيبدو لنا أنها متحركة إلى خلاف الحركة اليومية.
وعندما نتفحص تفاصيل كل فلك على حدة، نرى أن البطروجي يتصور بعض الأفلاك قادرةً على تدوير نفسها بنفسها وقطباها ساكنان أو متحركان في الاتجاه المعاكس (بمعنى مقصران حسب تعبيره). وكأنما لها زاد من قوة أو طاقة داخلية إضافية غير القوة التي تمتدها من الأعلى. وسنشرح الدوافع الهندسية والعملية التي أدت بالبطروجي إلى إضافة هاته الفرضية التي لا تتماشى مع فكرة المحرك الأوحد.
السمات المشتركة لستة أفلاك
باستثناء فلك الشمس وفلك النجوم الثابتة، يمكننا القول بأن نماذج البطروجي مكونة من دائرتين ترتسمان على سطح كل فلك (الرسم رقم 1). فالدائرة الأولى، الحمراء، هي التي سنسميها "ممر الحامل". وهي أكبر من الثانية، الزرقاء، التي سنسميها "ممر التدوير". فالأولى هي التي يرسمها مركز الدائرة الثانية لما يتأخر عن الركب فنراه وكأنه يتحرك نحو الشرق. أما الدائرة الثانية فهي التي يرسمها قطب الفلك بدورانه (أي بتقصيره) على محيطها.
ينطبق هذا النموذج على أفلاك كل من زحل والمشترى والمريخ والزهرة وعطارد والقمر. والكوكب غالبا ما يكون مركوزا على بعد 90 درجة من قطب فلكه. لكن البطروجي يضع الزهرة على بُعْد أقرب لقطب فلكها الشمالي، بينما يضع عطارد والمريخ على بُعْد أقرب لقطب فلكهما الجنوبي، دون أن يحدد، في هاته الحالات الثلاث، أية قيمة واضحة للزوايا التي تفصل الكوكب عن قطبه.
وحركات الكواكب الناتجة عن هذا النموذج ترسم خطوطا ملتوية في بعدين فحسب:
في الطول، من الغرب نحو الشرق وفي العرض، من الجنوب إلى الشَّمال ثم من الشمال إلى الجنوب.
ولا تتغير المسافة التي تفصل الكواكب عن أرضنا. وسرعات الدوران تختلف من كوكب لآخر تبعا للوسائط التي اقتبسها البطروجي من كتاب المجسطي لبطلميوس رغم أنه لا يقر بنماذجه ذات الأبعاد الثلاثة. وبما أن الكواكب الستة، التي ينطبق عليها هذا النموذج البطروجي، لا تعود إلى موقعها الذي انطلقت منه في نهاية كل لفة، نحصل على حركات لولبية كما يسميها. وهكذا تتراكم ما يشبه كُبَّات الصوف بعد عملية غَزْله أو لفات مُكوَّرة من الخيط قبل استعمالها. وهاته الكُبَّات متنوعة الأشكال كالعينة التي بالرسم رقم 6 في نهاية هذا المقال.
النموذجان الخاصان بفلك الشمس
يتميز النموذج الهندسي الذي خصصه البطروجي لتحريك الشمس بدائرة واحدة كما يتضح ذلك بالرسمين رقم 2.1 و 2.2. فلو أدرنا الفلك حول نفسه دون أن تبرح نقطة [ك] موقعها، لشكلت الدائرة الصفراء مدار الشمس السنوي حول أرضنا. والأرض هنا هي النقطة التي تتوسط الكرة. وبالتالي لا يمكن للشمس أن تبتعد عن أرضنا أو أن تقترب منها. وبما أن سرعة الدوران ثابتة، أي لا يتغير قدرها عبر الزمان، فلن تتغير سرعة دوران الشمس حول أرضنا.
على عكس إبرخس ثم بطلميوس، لم يقدم البطروجي أي حل هندسي يحاكي به ظاهرة اقتراب الشمس ثم ابتعادها عن أرضنا، بينما نصادف عنده حلان هندسيان لتغيير السرعة الظاهرة لمن يرصد حركتها انطلاقا من أرضنا. والحل الأول هو كما يلي: في الوقت نفسه الذي يدور فيه الفلك حول نفسه دورة في السنة، تدور نقطة [ك]، أي قطبه، دورتان حول نقطة [ع] التي هي قطب المحرك الأول، ولكن في الاتجاه المعاكس. والنتيجة هي تموج لمدار الشمس حول سطح الدائرة الصفراء بالرسم رقم 2.1. فرغبة البطروجي في تقديم نموذج يحاكي جزئيا ما رصده الفلكيون، تؤدي به إلى تصور قدرة خاصة بفلك الشمس تجعله يتحرك بنفسه حول نفسه ليتفادى جزئيا تقصير قطبه (حركة الاستيفاء). فلو لم يَدُر الفلك بتلقاء نفسه لرسم دورانه دائرة موازية لمعدل النهار بينما يعلم البطروجي أن مدار الشمس منحني بـ24° بالنسبة لخط الاستواء. بفضل الحركتين في نفس الوقت يتقاطع مدار الشمس المتموج بالدائرة الصفراء كل 90 درجة فيعلو مستواها في ربع وينخفض في الربع الذي يليه. وهكذا دواليك.
وبالنموذج الثاني للشمس يضيف البطروجي نقطة [ق] الخارجة عن [ع] مركز الكل. وإن كانت نقطة [ط] تدور حول [ق] إلا أنها تدير معها [ك]، أي قطب فلك الشمس، حول الدائرة الخضراء. بهاته الطريقة يتمكن البطروجي من الحصول على سرعة متغيرة لدوران الشمس وفي نفس الوقت على ميل متغير لفلك البروج. ولكي تتبين هاته النتيجة بوضوح لجأت إلى إبعاد [ق] عن [ع] بشكل مبالغ فيه. لكن خروج مركز [ق] بدرجتين و22 دقيقة ليس له كبير تأثير على مدار الشمس كما نرى هنا.
وعلى أية حال لم يرفق البطروجي نماذجه بأي جدول حسابي لأنه كما يقول: "ليس الغرض في هذا القول إن نأتي بمقادير الحركات ولا أن نعرف سائر الأعراض العارضة فيها ولا أن نشتغل بالجزئيات من أمورها وحساب حركاتها على التمام، إذ نحتاج في ذلك إلى تطويل ونظر أشد استقصاءً وتحديد رصد، بل الغرض المقصود تبيين كيفيات هذه الحركات" (ظهر الورقة 32).
النموذج الخاص بفلك النجوم الثابتة
في ما يتعلق بالنجوم الثابتة، يمكن القول أن كل البشرية لاحظت حركتها كل ليلة على وتيرة واحدة من الشرق نحو الغرب. ولاحظ كل من رصد طلوع الشمس أنها تتأخر بما يناهز قدر درجة في اليوم عن طلوع النجوم التي تكون بناحية الشرق أوقات الفجر. وهكذا سجل الفلكيون القدامى، منذ عهد الكلدانيين على الأقل، منازل الشمس يوما بعد يوم على خلفية النجوم الثابتة ولاحظوا أن طول النهار يساوي طول الليل مرتين في السنة حيث يتوافق موقع الشمس مع نقطتان من كرة النجوم الثابتة سميت الأولى نقطة الاعتدال الربيعي والأخرى نقطة الاعتدال الخريفي.
في الربع الأخير من القرن الثاني قبل الميلاد، أراد إبرخس إقامة لائحة مضبوطة لثماني مائة نجمة ثابتة وذلك بتسجيل مواقعها في الطول والعرض على الكرة السماوية. فلاحظ أن من سبقوه لتحديد موقع نقطة الاعتدال الربيعي (نقطة الصفر في الطول) لم يسجلوا نفس الموقع الذي رصد الشمس عليه في زمانه. انتبه إذاك لما يُسمى ظاهرة مبادرة الاعتدالين. قدَّر أن نقطة الاعتدال الربيعي تتحرك بمقدار 360 درجة في 26000 سنة. وفي أواسط القرن الثاني بعد الميلاد قارن بطلميوس أرصاده الشخصية بأرصاد إبرخس فاعتبر أن نقطة الاعتدال الربيعي تجتاز 360 درجة في مدة 36000 سنة. وفي ما بعد، اعتقد بعض علماء الفلك أن هنالك تأرجحا أو ذبذبة في سرعة هذا الانتقال وسموا الظاهرة "الإقبال والإدبار".
لقد تبنى البطروجي هذا المسمى ولكن بمعنى آخر: فتغيُّر سرعة التقصير لفلك النجوم عنده هو ما يسجله المراقبون لأحوال النجوم الثابتة (على المدى الطويل جدا) وذلك ناتج عن تموج، نحو الشمال ثم نحو الجنوب، للنجوم الواقعة على دائرة البروج بالنسبة لمعدل النهار.
كيفما كان الحال يمكن القول إن الحل الهندسي الذي وصفه البطروجي يقدم نتائج مشرفة رغم أنه لم يعتبر فرضية مسار للشمس لا يرسم دائرة سنوية تعود نهايتها إلى بدايتها بل خطوطا لولبية غير منغلقة على نفسها، مثلما نراه بنموذجه الخاص بخمس كواكب سيارة.
يقتضي نموذجه أن يُقَصِّر قطب فلك النجوم الثابتة بدورتين في 36000 سنة بينما يدور الفلك من تلقاء نفسه في الاتجاه المعاكس بدورة واحدة في المدة نفسها. وهكذا يُخيل لمن يرصد مواقع الشمس عند الاعتدال أن هاته المواقع تجتاز 360 درجة في نفس المدة الطويلة جدا. يدور فلك النجوم الثابتة وفلك البروج عند البطروجي على نفس القطب المائل بأربع وعشرين درجة. نلاحظ هنا كذلك أنه لفلك النجوم الثابتة قوة داخلية (أو مقاومة داخلية) تجعله يدور بنفسه حول نفسه بالإضافة إلى دورانه مع قطبيه.
تشخيص الخلاف بين البطروجي وبطلميوس
يتضح الخلاف بين البطروجي وبطلميوس لما يتعلق الأمر بمدار الشمس السنوي. كان بطلميوس قد تبنى الحل الهندسي الذي ابتكره إبرخس. تيقن هذا الأخير بواسطة أرصاده الدقيقة أن الفصول الأربعة ليست متساوية الطول. ولا يشكك البطروجي في صحة المعطيات التي سجلها إبرخس وأكد صحتها بطلميوس. يوردها البطروجي بظهر الورقة 88 من مخطوطته:
"... وإنهم لما كانوا قد وجدوا بالرصد قطع الشمس لفلكها تختلف أزمانه بالسرعة والإبطاء في أجزاء فلك البروج.
- فتقطع الربع الذي من نقطة الاستواء الربيعي إلى نقطة المنقلب الصيفي في 94,5 يوم؛
- وتقطع الربع التالي لهذا الربع، وهو الذي من المنقلب الصيفي إلى الاعتدال الخريفي في 92,5 يوم؛
- وتقطع الربعين الباقيين في الباقي من أيام السنة وهو 178,25 يوم على غير استواء فيهما. وتنقص أيام هذين الربعين عن الأولين 8,75 يوم".
اقترح إبرخس مسارا للشمس على شكل دائرة يكون مركزها خارجا عن مركز أرضنا (الرسم رقم 5). يتعارض حله الهندسي مع أصول أرسطو القائلة بأن الأرض هي المركز الوحيد لكل الأفلاك السماوية. فمن موقع أرسطرخس على الأرض نرى الشمس بطيئة السير خلال الصيف ومسرعة خلال فصل الشتاء. وهي تقترب من بصرنا خلال هذا الفصل بينما تبتعد خلال الصيف. ولا يمكن محاكاة هاتين الظاهرتين بواسطة النماذج الأرسطية. لكن البطروجي لا يكترث لظاهرة اقتراب الشمس من أرضنا ثم ابتعادها عنها ليركزها من جديد، مثلما فعل أرسطو، بفلك تكون الأرض متوسطة له. وبالتالي لا يمكن أن تتغير المسافة التي تفصلها عن أرضنا.
نقرأ على وجه الورقة 89 من مخطوطة البطروجي: "وقد تبينت استحالة كون فلك خارج المركز في السماء بما تقدمنا فقلناه". وحجته هي الأصول التي أصلها أرسطو. لا يحتكم البطروجي إلى الظواهر الفلكية وإنما لِـما قال به المعلم الأول. إضافة إلى هذا، يعتبر البطروجي أن الفلكيين يتخيلون دوائر وخطوط وكأنما بإمكانها تدوير الكواكب أو بإمكان الكواكب أن تدور من تلقاء نفسها. وقد بين أرسطو أنه لا بد من أفلاك كروية شفافة تُركز بلحمتها الكواكب وتدور حول قطبيها بدوران الأعلى. وفي حقيقة الأمر نرى أن البطروجي يتناسى هذا المبدأ لما يلجأ إلى تزويد فلك الشمس وفلك النجوم الثابتة بقوة داخلية تمكنهما من التحرك (أو المقاومة) في الاتجاه المعاكس لحركة قطبيهما.
فلماذا يختار البطروجي التقيد بمقولات أرسطو عوض مواجهة الظواهر الطبيعية كما تبينت عبر الأرصاد؟
ابن ميمون يفشي سرَّ ولعِ الموحدين بأرسطو
بعدما لجأ ابن ميمون للفسطاط بمصر هاربا من مضايقات الموحدين لغير المسلمين بالأندلس، وبعدما عاد لملته، اعترف بحيرته وحيرة أهل زمانه من العلماء في كتابه المشهور "دلالة الحائرين". بلغة عربية فصحى، واضحة كل الوضوح، يخاطب ابن ميمون تلميذه ويفسر له تفاصيل التناقض القائم بين نظريات أرسطو وما أنشأه الفلكيون من نماذج هندسية. فنتائج حساباتهم توافق الموجودات من الظواهر ولا تتقيد بمقولات أرسطو في السماء. يعترف لتلميذه بهذا التناقض ويحثه على قبوله لأن اليهود والنصارى والمسلمين في حاجة لمقدمات أرسطو لأنها هي الوحيدة القادرة على إقناعنا بوجود محرك أول لا نراه ويشتاق الكون برمته إلى التشبه به: "... وهو الإله تعالى اسمه" (ص 280). فالمعتقد الديني هو الذي يدفع ابن ميمون صراحة إلى تقبل الازدواجية والتناقض.
نصادف فقرات عديدة بـ"كتاب في الهيئة" تدلنا على أن المعتقد الديني شجع البطروجي على العودة لنظرية أرسطو القائل بوجود محرك أول وحثَّه على رفضِ الأفلاك الخارجة المركز. ففي سياق وصفه للفلك الأعلى الذي لا يمكن رصده ويلزمنا تصوره كمبدأ، نقرأ بظهر الورقة 31 ما يلي:
"ويُحتمل أن يكون هو المكنى عنه في الكتاب العزيز بالكرسي بقوله تعالى "وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما، وهو العلي العظيم". فإن الهاء في قوله "ولا يؤوده" تعود على الكرسي وكذلك "وهو العلي العظيم". ويحتمل أيضا أن يكون هو المكنى عنه بالعرش في قوله تعالى "الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم". ويحتمل أيضا أن يكون أحدهما الفلك المكوكب ويكون الثاني الأول المحرك للكل. وهذا هو الذي جرّأنا على القول بهذا الفلك التاسع. فأما الثامن فيدل عليه قوله تعالى "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب" ولم يعْنِ بالدنيا معنى "الدنو من الأرض" بل "الدنو من الأعلى". وهو الأدنى على الحقيقة إلى المحرك الأول وهو الذي قوّانا أيضا على دفع تلك الأفلاك الأخرى، سوى السبعة المذكورة في الكتاب العزيز، أعني دفع تلك الأفلاك الخارجة المراكز وأفلاك التداوير، وعددها كثيرٌ عند من وضعها من المتقدمين في هذا العلم".
ونقرأ كذلك بظهر الورقتين 33 و34:
"وكل واحدٍ من الأفلاك التي دونه (أي دون المحرك الأول) يشتاق إلى التشبه به، ويتحرك تابعاً له، بقدر ما له من القوة المتصلة به من الأعلى، لحفظ صورته بحركته الخاصة به، فيتحرك لذلك على قطبيه حركة اخرى، تابعا لحركة الأعلى متصلاً تلك الحركة، ومتشبها بالأعلى".
"إنه لما كان جرم السماء مستديرا وكانت حركته الطبيعية له على الاستدارة وهي كماله، وصورته، وكل فلك فمتشوق إلى كماله الأخير. وكان الجرم الأعلى يتحرك بقوة ويبثها فيما دونه من الأفلاك مع قبول منها لتلك القوة والحركة وتشوق إذ كانت كمالاتها".
فنظرية المحرك الأول الذي لا يمكن رصده ويلزمنا رغم ذلك تصوره كمبدأ لحركة الكون برمته هي النظرية الأرسطية الخلابة لفكر الموحدين، قديما وحديثا، سواء كانوا يهودا أم نصارى أم مسلمين. وبما أن أرسطو معروف كمؤسس للمنطق، اعتقدَ البعضُ أنه بالإمكان غض الطرف عن مقدماته الفيزيائية التي كان أرخميدس قد أثبت أنها غير صائبة. فالميتافيزيقا الأرسطية أنست الموحدين أن المعلم الأول صور لهم كونا ومحركا أعلى شيدهما على فيزياء طوطولوجية، بمعنى مقولات صحيحة في كل الأحوال سواء كانت مكوناتها صحيحة أم لا: "الهواء يصعد لأنه من طبيعته أن يتوق إلى الأعلى. والماء يهبط إلى وسط الأرض لأن ذلك من طبيعته". ويلزمنا أن نعذرهم لأن أرسطو شكل ما يمكن اعتباره سندا وضمانة عقلانية محايدة دينيا.