... كثيرا ما يغيظني بلا مبالاته، ويفحمني بتبريراته ويثيرني باستفزازاته، فمنطق السؤال يكاد يكون مرفوضا، وحكمة الأولين زاده في إبداء الرأي وإصدار القرار، خاصة وأن ثقتي في فائدته ومعلوماته كثيرة، صدقه في التعامل، وقدرته على الإقناع، يشجعان على الاحتكاك به والاستفادة منه في عصر التقنية وعصر الحاسوب.
كثيرا ما ألجأ إليه لشعوري بتفوقه في علاج القضايا الشائكة، وتمرسه باقتراح الحلول الناجعة، وبذلك يجـرك إلى عالمه ويسحرك بعذب حديثه، رغبت فيه أو رغبت عنه.
غالبا ما يضايقني، ولعل ذلك لقصور تفكيري وضعف زادي وقلة تجربتي، فأعلن مع نفسي خصامه، وأعمد إلى مقاطعته، إذ الانقياد له انتصار ضمني عليَّ في أحوال كثيرة، لكن الفشل في مقاومة إغرائه يعيدني إليه، أجـر ذيول الخيبة والانكسار، وأبـدِّدُ سـحـب الهزيمة والضياع.
درب العناد طويل، والتماهي باختيار بديل آخر غير مقنع، إذ تبقى السلطة بامتياز للمتقـدم.
أعـود إليه.. فمهما تأخر الزاد، فهو مُغـذٍّ على كل حال، وجنيُ ثماره يقتـضي صبرا ويتطلب جهدا، ويحـتم تــدبُّـرا، فطريقه شـاق، والتزام سمته مضن على كل حال...
قد أقـبل عليه بانشراح، متوددة مسالمة، طمعا في كسب، وحرصا على فائدة، فتارة يسالمني ويسلس لي القياد، فأنتـشي بعطائـه، وأرتضيه صديقا، بل أتمسك به، وأخرى يشاكسني، فيستعصي علـيَّ إدراك مراميه، ويتعذر علـيَّ الإمساك بلبابه، وهو في الحالـتين في أقصى حالات الهدوء، والاطمئنان والسكون والأمان، لا يزيده الزمان إلا حصافة رأي، ولا يزيده القدم إلا بلاغة قول وصحة نظر، يسلك بصاحبه معارج لكنها آمنة، لذلك يصعب خصامه، ويستحيل عراكه، فهو حامل علم، وراوية أدب، وصحابه مشاكسوه ومحبوه دعاته وثقاته،... أفلا يستـحق أن يكون صديقا بامتياز في كل وقت وحين...
وقديما وصفه المتنبي بقوله: "وخير جليس في الزمان كتاب"، وذلك في البيت الشعري:
أعــزُّ مكان في الدجي ســرج سابح .. وخير جليس في الزمــان كتــاب.