دكتور محيي الدين عميمور
حرصت دائما في كل ما أرويه وأتحدث عنه أن أؤكد بأنني لا أعطي لنفسي صفة المؤرخ ولا أزعم أنني وسعت كل شيئ علما، واكتفيت بالقول إن المولى عز وجل منحني فرصة الوجود في مواقع أعطتني فرصة الإطلاع على بعض الأحداث والتعرف على بعض أبطالها أو الذين ارتبطوا بها، بشكل أو بآخر، وأحسست بأن من واجبي أن أقتسم ما وهبني إياه رب العزة مع من يريد من الرفقاء.
ولقد اتهمني البعض بالذاتية وبأنني أحشر نفسي في كل حدث أرويه أو شخصية أتحدث عنها، وكنت أقول عن يقين بأنني أتصرف كشاهد عيانٍ كان، بشكلٍ أو بآخرَ، جزءا من الأحداث، ومُضحك أن أتناولها بصيغة الشخص الثالث، فأنا لست الجنرال “شارل دوغول” في مذكراته أو “هيركول بوارو” في قصص أغاثا كريستي، وصدقية ما أرويه ومصداقيته تفرض عليّ القول إنني رأيت، بنفسي، “كذا”وسمعت “كذا”.
وكنت أقول أيضا لمن كان يطالبني بتناول قضايا يرى أهميتها بأنني لا أقترب إلا مما عشته وعايشته أو عرفته من مصدر موثوق به، كما أجبت من يتهمني بأنني لا أقول كل شيئ بأنني لست أمام محكمة كشاهد رئيسي في حادث مرور، وهناك مما استُأمنت عليه ما أرى أنه لا يهم القارئ من قريب أو من بعيد، ناهيك من أنني لست مستعدا لأقوم بدور “شهر زاد” التي تخفف عن البعض ملله وتشفي البعض الآخر من الأرق والسهاد.
وهذا هو ما سرت عليه خصوصا عندما كنت أتناول مساهمة الجزائر في دعم حركات التحرير الوطني، وبوجه خاص دورها في المواجهة العربية الإسرائيلية، والتي يبدو أن بعض “الأشقاء” أزعجهم الحديث عن دور الجزائر الإيجابي في معمعتها فراحوا يشككون عبر أسئلة وتساؤلات تكشف الكثير من الخلفيات المريضة، ولم يكن هذا ليزعجني، لأن البشر هم البشر في كل زمان ومكان، وعُقد النقص تفرض حجما من عُقد الاستعلاء غير المباشر بمحاولة تقزيم من منحتهم الأيام المقدرة على أن يكونوا أوفياء لكل معاني الأخوة ولالتزامات الرجولة ولعناصر التضامن الوطني.
ولعلي أستعيد اليوم بعض الوقائع التي تعطي صورة عن المواقف الجزائرية في مواجهتها للأحداث النضالية على الساحة العربية، مجازفا باستهانة البعض بها ونظرته لها كمجرد أحداث ليس فيها رائحة البارود أو هدير المدافع، ومتفهما احتجاج البعض الآخر بأنهم قرءوا بعض هذا في كتابات سابقة، ومتجاوزا عن رأي من يعتبرها تفاصيل “هايفة” لا تستحق أن أزعجهم بها، في حين أنني أرى أن بعض التفاصيل لها أهميتها في استكمال الصورة الكبيرة للتاريخ، فهي كالقسمات التي ترسم ملامح الإنسان.
وأدخل في الموضوع.
كان إنهاء مهام الرئيس أحمد بن بله على رأس الدولة في 19 يونيو 1965 سببا في فتور كبير بين القيادتين المصرية والجزائرية، نتيجة للصداقة النضالية الكبيرة بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس الجزائري الأسبق، وبدا كأن مصر اعتبرت الأمر اعتداء شخصيا عليها، وتردد أنه كانت هناك عدة محاولات لتهريب بن بله إلى مصر، وهو ما سمعته منذ أيام من أحد أقارب الرئيس بن بله.
وفي محاولة لترطيب الأوضاع قام الرئيس الجزائري الجديد بزيارة رسمية إلى مصر في عام 1966، لكن هذه الزيارة عرفت حادثة كادت تتسبب في تعقيد الأمور، وكان ذلك نتيجة لموقف العقيد الشاذلي بن جديد، عضو مجلس الثورة وقائد الناحية العسكرية الثانية، الذي كان رئيس الوفد العسكري المرافق للرئيس بو مدين، وهو موقف كان تعبيرا عن نظرة الجزائريين عموما للقضية التي تشكل أساس المواقف العربية، وهي قضية فلسطين، والتي كنا نؤمن بأنها “الإسمنت” الذي يربط الأمة أو المفجر الذي سينسفها.
وتضمنت الزيارة جولة تقوم بها مجموعة من أعضاء الوفد برئاسة العقيد الشاذلي إلى قطاع غزة، الذي كان تحت الإدارة المصرية منذ 1948 ثم استعادته القاهرة بعد إجهاض عدوان 1956.
ووُضعتْ تحت تصرف الوفد طائرة رسمية خاصة حملته إلى غزة حيث استقبل من قبل السلطات العسكرية المصرية وقيادات العمل الفلسطيني بحفاوة كبيرة وبترحاب متميز، وكان من بين بنود الزيارة المشاركة في تجمع شعبي كبير ارتفعت فيه الهتافات بثورة الجزائر وانتصار فلسطين وحياة الرئيس المصري، وردد الخطباء اعتزازهم بقيادة عبد الناصر مجددين إيمانهم بقيادته، وهو ما كان جزءا رئيسيا من محتوى كل الخطب القومية في تلك المرحلة، وخصوصا في فلسطين، حيث تعتبر التحية الموجهة للرئيس المصري دائما جزءا من ردود الفعل الوطنية ضد خطاب الرئيس الحبيب بو رقيبة في أريحا عام 1965، عندما وجه اللوم لمن رفضوا مشروع تقسيم فلسطين الذي أصدرته الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، وأضاعوا بذلك، حسب ما قاله، إمكانية الاستفادة العملية من أسلوب “المراحل” الذي كان صلب سياسته، وهو خطاب أعتبر آنذاك، عدلا أو ظلما، موجها ضد عبد الناصر أكثر منه لمصلحة القضية الفلسطينية، وكنت تناولت هذا الأمر في حديث سابق.
وأعطِيت الكلمة للعقيد الشاذلي الذي قال للحضور ببساطة المجاهد الجزائري وصراحته ما معناه إن انتصار الجزائر تم بفضل تضحيات الشعب كله، وبأنه ليس هناك فرد يمكن أن يجسد كفاح شعب أراد الحياة، وعلى الفلسطينيين ألا يربطوا مصيرهم بزعيم مهما كان.
وأحدثت تلك الكلملت الخطاب صدمة للسلطات العسكرية المصرية في عين المكان، وتصورَ رجال المخابرات أن العقيد الجزائري يهاجم الرئيس عبد الناصر ويلوم الجماهير على الهتاف بحياته، وكالعادة كان هناك ملكيون أكثر من الملك.
وروى لي العقيد فيما بعد أن نهاية خطابه شهدت نهاية كل مظاهر الاحتفاء والتكريم والرعاية، واختفت الطائرة الرسمية، وعاد الوفد إلى القاهرة على متن طائرة نقل مع أكداس من الأمتعة والمنقولات، ولم يجد أحدا في انتظاره عند وصول الطائرة إلى القاهرة واضطر إلى استئجار سيارة تاكسي حملته إلى مدخل قصر القبة حيث مقر الوفد الرسمي، حيث لا يُسمح لسيارات الأجرة باجتياز بوابته الرسمية التي تفصلها مئات الأمتار عن مبنى القصر.
ولن أستطيع هنا، أدبا واحتراما، ذكر الشتائم التي كان يغمغم بها بعض أعضاء الوفد وهم يحملون حقائبهم بأنفسهم متجهين إلى المبنى، وهو ما بلغ أسماع جمال عبد الناصر، وأثار غضبه على تصرف مساعديه.
وقال لي الرئيس الشاذلي فيما بعد وهو يروي لي القصة أن الرئيس المصري حاول خلال العشاء الرسمي أن يتلطف في الحديث معه، ليمحو ما علق بنفسه من نتائج رحلة غزة، وهو مما يؤكد أن صغار المساعدين هم من يفسدون الصورة الجماهيرية لكبار القادة.
لكن الفتور المصري الجزائري ينهار تماما لتحل محله روابط من الأخوة لعل تاريخ البلدين لم يعرفها ولن يعرفها بعد ذلك، وهو ما نتج عن موقف الرئيس بومدين تجاه هزيمة 1967، ولن أدخل في التفاصيل الرئيسية التي يعرفها الكثيرون، ومن بين عناصرها تكوين المجموعة الأولى للصمود العربي والتي ضمت الهواري بو مدين وعبد الرحمن عارف (العراق) وإسماعيل الأزهري (السودان) وفي المقدمة بالطبع جمال عبد الناصر (مصر) ونور الدين الأتاسي (سوريا) وما زالت في الذاكرة الجماعية تفاصيل زيارة موسكو والتلاسن بين بريجنيف وبو مدين.
لكنني أتوقف عند حدث قد يبدو عارضا وأراه ذا دلالة سياسية هامة.
فقد تلقت الرئاسة الجزائرية قبل أن ينتهي الأسبوع الثاني من يونيو مكالمة من سفير الجزائر بالقاهرة الأخضر الإبراهيمي يُخبر فيها بأن مصر قررت استدعاء السفير الأمريكي إلى وزارة الخارجية وإبلاغه بقرار قطع العلاقات الديبلوماسية مع الولايات المتحدة، باعتبارها كانت داعما للعدوان الإسرائيلي بل ومُحرضا عليه.
ويطلب الرئيس بو مدين من سفيره تحديد اليوم والساعة التي سيستقبل فيها السفير الأمريكي، ثم يُصدر أوامره لوزارة الخارجية الجزائرية باستدعاء السفير الأمريكي في الجزائر في نفس اليوم والساعة (ومع مراعاة فرق التوقيت) وإبلاغه بقطع العلاقات الجزائرية الأمريكية تضامنا مع مصر، وهو ما كان مفاجئة لواشنطون التي لم تألف من الجانب العربي مثل هذه المواقف الحادة.
وأقفز إلى السبعينيات في المرحلة التي تلت حرب أكتوبر لأتوقف عند حدث أخر رأيت أن له أهميته في الصراع العربي الإسرائيلي، وكنت طرفا متواضعا فيه.
فقد تمت إقامة خط ساخن للتواصل بين الرئيسين الجزائري والمصري وكنت الطرف الجزائري للخط كما كان طرف الخط المصري هو الدكتور أشرف مروان، الذي كنا نعرف آنذاك أنه يتمتع بالثقة المطلقة للرئيس أنور السادات.
وفي ذلك الإطار ذهبت إلى القاهرة في أبريل 1974 كمبعوث خاص، وإثر الوصول أبلغني مخاطبي بأن الرئيس السادات سوف يستقبلني في استراحته بمنطقة “إيكنجي مريوط” بجوار الإسكندرية، وكانت التعليمات التي تلقيتها من الرئيس بو مدين أن أستمع جيدا لما سوف يُقال لي، ومن هنا وإدراكاً لأهمية كل كلمة وكل تعبير استأذنت الرئيس المصري في أن أدوّن ما أسمعه منه.
يومها كان التصور في الجزائر أنه لم تتم الاستفادة السياسية الكاملة لمصلحة الجانب العربي من حرب أكتوبر بما يُعادل تضحياتها البشرية والمادية، ومع اتضاح الموقف الأمريكي المدعم لإسرائيل بشكل مطلق كان الأمل معقودا على ضغوط تقوم بها الدول الأوربية على إسرائيل لانتزاع أكبر قدر ممكن مما التهمه العدو بعد ثغرة “الديفرسوار” ثم توقيع اتفاقية الكيلو متر 101.
وكان الطريق إلى أوربا هو استثمار ملف قناة السويس التي كانت مغلقة نتيجة لما أغرق فيها من سفن، ولأن أوروبا ستكون أول المستفيدين من فتح القناة، حيث ستستريح من الدوران حول رأس الرجاء الصالح، فالحكمة تقتضي أن يكون فتح القناة ورقة ضغط في يد مصر، تناور بها وتساوم إن لزم الأمر، ولتقول للغرب بأن القناة لن تفتح للملاحة قبل أن تمارس أوروبا ضغطا على إسرائيل يفرض عليها الاستجابة للمطالب العربية، وربما كان من أهمها تنفيذ قرار مجلس الأمن 242.
ومن هنا فإن ما بدأ يتردد إعلاميا عن اعتزام مصر تطهير القناة بدأ يثير بعض القلق في الجزائر ولسبب بالغ البساطة، لأن التطهير سيفترض فتح القناة فور الانتهاء منه، حيث أن بقاءها مغلقة بعد التطهير سوف يعتبـر، أو يُقدمُ، دوليا كتعنت وابتزاز إلى غير ذلك مما ألفناه من الإعلام الغربي الذي توجهه الاحتكارات الأوربية المعروفة.
ولم تكن الجزائر لتسمح لنفسها بأن تعطي دروسا لأحد أو أن تقدم نصائح “علنية” لأشقائها، ولا أعرف ما إذا كانت قد أبلغت القاهرة بهذا القلق، ولم أكن مؤهلا لطرح أي سؤال حوله، لكن الرئيس السادات أراحني في نهاية اللقاء قائلا بأسلوبه الجهوري المعروف : يا ابني .. قول للأخ أبو مدين إن تطهير القناة هو “قرار مصري”، أما فتحها للملاحة فهو “قرار عربي”.
وعند عودتي عرضتُ على الرئيس ما سمعته من السادات، لكن لم يبدُ عليه أنه ارتاح مما رويته له، وبالفعل، فما أن تم تطهير القناة حتى ارتدى الرئيس المصري زي الماريشالية البحرية البيضاء، وركب مدمرة مصرية اخترقت به مجرى القناة تحت أضواء كاميرات التصوير وبمحضر مئات الصحفيين.
ويقول وزير الخارجية المصرية الأسبق إسماعيل فهمي عن هذا في مذكراته التي صدرت في 2006: “السادات (..) أبلغني أنه يريد فتح القناة في الخامس من يونيو عام 1975، وأنه يريد احتفالا ضخما يقود خلاله بنفسه قافلة كبيرة من السفن في القناة (..) وكنت أعتقد أن إعادة فتح القناة يُمكن أن تكون ورقة ضغط إضافية في أيدينا (وهو ما يؤكد أن التصور الجزائري في 1974 كان سليما ومنطقيا) وأن للموعد قيمة رمزية حيث يُذكر بتاريخ الهزيمة المدمرة للجيش المصري في 1967 والتي أدت إلى إغلاق القناة.
ولم يكن سرّا أن السادات، أو من أشاروا عليه بذلك التاريخ (وفهمي يقول أنه هيكل) كان يريد أن يقول بأن السادات هو البطل الذي أعاد لمصر كرامتها بعد الإذلال الذي عانته في عهد عبد الناصر، الذي خسر حربا واضطر إلى إغلاق القناة، في حين كسب السادات حربا وأصبح يستطيع (..) فتح القناة”.
وهكذا فتحت قناة السويس للملاحة البحرية وبدون أن تحصل مصر من الغرب على مقابل لهذه العملية التي كان الأوربيون ينتظرونها بفارغ صبر، ويقول وزير الخارجية المصري، الذي استقال بعد ذلك، إن السادات طلبه هاتفيا ليطلب منه الاتصال بالأمريكيين طالبا منهم إرسال سفينتين حربيتين أمريكيتين للاشتراك في القافلة (..و) ظل يصْرخ معربا عن مخاوفه : “..بدون السفن الأمريكية لا أستطيع العبور، إنهم سوف يطلقون عليّ النار، إنك لا تعرف الإسرائيليين يا إسماعيل” (..) ويواصل فهمي قائلا أنه اتصل بالسفير الأمريكي : “لأنقل له رغبة السادات، ولم يستطع هيرمان أيلتس أن يُخفي ردّ فعله وبدأ يضحك ( ص 111) “.
وسيشهد العام التالي بعد فتح القناة عدة أحداث من الصعب أن تعتبر كلها مجرد مصادفة وهي اغتيال الملك فيصل واشتعال الحرب الأهلية في لبنان وقيام مشكل الصحراء الغربية.
ويبدأ الطريق نحو كامب دافيد، ليمر بوادي عربة وليصل إلى أوسلو، وهو ما كان محطات أولى في مسيرة تم التخطيط لها في الكواليس بصمت غطته أناشيد “أمجاد يا عرب أمجاد”.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق