تأثير الفراشة (l’effet papillon) استعارة لفظية تستخدم للتعبير عن الأحداث والوقائع التي تبدو صغيرة ولا ننتبه إليها في البداية، لكنها تؤشر على أحداث كبرى لاحقة يكون مصدرها ذاك الحدث الصغير. ويعود أصل نظرية تأثير الفراشة إلى عالم الأرصاد الأمريكي Edward Lorenz عند محاولته رصد الأحوال المناخية المستقبلية بناء على معطيات رياضية. ولتقريب الصورة، أشار الباحث الأمريكي إلى "أن تحريك جناح فراشة في الصين يمكن أن يتسبب في حدوث إعصار مدمر في أمريكا".
وعلى ذكر الصين، فهو الوضع نفسه الذي عشناه تماما مع فيروس كوفيد-19، حيث تشكل الوباء بفعل تأثير الفراشة من بلدة ووهان الصينية إلى أقصى نقطة في المعمور ليتحول إلى جائحة هزت العالم.
وفي خضم النقاش الرائج اليوم حول عقوبة الإعدام، سواء في المغرب أو الجزائر أو مصر، ومؤخرا في تونس-عقب تصريح الرئيس التونسي قيس سعيد الذي دعا إلى تطبيق عقوبة الإعدام إثر الجريمة البشعة التي هزت تونس وكانت ضحيتها فتاة في مقتبل العمر على يد شاب سبق أن اتهم بجريمة قتل فيما قبل-من حقنا التساؤل: ألسنا أمام ظاهرة تأثير الفراشة علاقة بهذه النوازل؟
دول بمرجعيات إسلامية يصدح فيها صوت دعاة القصاص عاليا، يقابله صوت الحقوقيين الرافضين لعقوبة الإعدام، وبين الموقفين نصوص وقوانين لم تحسم النقاش بشكل لا يقبل التأويل أو الاجتهاد أو الاستثناء أو الجدل بعد؛ ففي مصر تجدد المبادرة المصرية للحقوق الشخصية مطالبتها بتعليق العمل فورًا بعقوبة الإعدام، ولو بصورة مؤقتة، إلى حين فتح نقاش مجتمعي واسع حول جدوى العقوبة، وفي الجزائر نقيب القضاة يصرح "الإعدام لمن يروع الجزائريين في الأوقات الاستثنائية"، وفي تونس عبر الكثير من الكتاب والمثقفين عن مخاوفهم "من أن تخطو تونس خطوات إلى الوراء بإقرار حكم الإعدام مجددا ضمن المواقف الشعبوية الرسمية التي تستهدف استرضاء الشارع"، بل وتحدث كاتب تونسي عن "ثورة تونس وانتكاسة القيم".
وفي المغرب، نفس قرع الجرس، كما يحلو للفرنسيين التعبير عن ذلك. تجاذب ملحوظ بين الرؤى والتصورات أفضى إلى نقاش صحي، يوجب الإنصات للرأي والرأي الآخر كشرط للحوار المجتمعي. وإذا تعذر الوصول إلى توافق فهناك آليات يحتكم إليها وهي الكفيلة بحسم النقاش بطرق ديمقراطية وشفافة. وهذا هو الخيار الديمقراطي الأسمى الذي لا يقبل الاجتهاد أو الجدل.
الجديد اليوم هو عودة النقاش حول العقوبة. أما العقوبة في حد ذاتها فكانت حاضرة في بلدنا عبر مراحل متعددة ولو أنها عرفت تذبذبا في التفعيل، حيث أصبحت تصدر الأحكام بالإعدام مع وقف التنفيذ. ورغم مصادقة المغرب على مجموعة من الاتفاقيات الدولية وتوقيعه على عدد من القوانين ذات الصلة، إلا أنه امتنع عن التصويت على مشروع القرار المتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام أمام اللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة المتخصصة في قضايا حقوق الإنسان عام 2016.
وحسب المعطيات، هناك ما يفوق 124 سجينا، بينهم ثلاث نساء، محكوم عليهم بالإعدام مع وقف التنفيذ. وخلال الأربع سنوات الماضية حكم بعقوبة الإعدام على قاتل إمام في مسجد بتطوان، وتم إصدار الحكم نفسه على قاتل رجل وزوجته بالبيضاء، وهما مغربيان من أصل يهودي. ومؤخرا قضت العدالة المغربية بإعدام المتهمين الثلاثة الذين سبقت إدانتهم بقتل سائحتين إسكندنافيتين ضواحي مراكش حيث كانتا تقضيان إجازتهما.
وعلاقة بهذه الأحكام، طرح العديد مجموعة من الأسئلة: في قضية الإمام، هل تم الحكم بناء على هدر روح مواطن مغربي بغير وجه حق أم استحضارا لصفة الإمام بكل ما تحمله من رمزية روحية ودينية؟ السؤال نفسه ينطبق على الزوجين بالدار البيضاء اللذين تعرضا إلى جريمة نكراء على يد خادم في منزلهما، اهتز لها الرأي العام والطائفة اليهودية بالمغرب وخارجه. وهو ما يسري أيضا على قضية شمهاروش (كون الضحيتين أجنبيتين) باعتبار أن نوازل متشابهة لم ينل أصحابها عقوبة الإعدام، باستثناء المتهمين الثلاثة الذين أنزلت محكمة سلا عقوبة الإعدام في حقهم بتهمة الإرهاب.
ويعزو كثيرون إيقاف تنفيذ العقوبة إلى مصادقة المغرب على ترسانة الاتفاقيات والمواثيق الدولية والقوانين ذات الصلة، إلا أن مجموعة منها وإن نصت على مبدأ الحق في الحياة، فهي مع ذلك لم تجعل عقوبة الإعدام مناقضة لهذا الحق، بل جعلته مقيدا ببعض الشروط والضوابط كما جاء في المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛ حيث تنص المادة صراحة على أنه "لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة وفقا للتشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة". وتم تفسير "الجرائم أشد خطورة" من لجنة حقوق الإنسان على أنها "الجرائم المتعمدة (نية القتل العمد) التي تسفر عن نتائج مميتة أو نتائج أخرى بالغة الخطورة".
الموقف نفسه تتبناه الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بحيث تنص في المادة 2 المتعلقة بالحق في الحياة على أن "القانون يحمي حق كل إنسان في الحياة، ولا يجوز إعدام أي إنسان عمدا إلا تنفيذا لحكم قضائي بإدانته في جريمة يقضي فيها القانون بتوقيع هذه العقوبة".
الخلاصة أن عقوبة الإعدام لم تحظر بعد بموجب القانون الدولي، بل هناك فقط التأكيد على أنه في حالة الاحتفاظ بالعقوبة وجب وضع ضوابط وشروط لتطبيقها، أهمها مثلا أنه "لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا حينما يكون ذنب الشخص المتهم قائما على دليل واضح ومقنع لا يدع مجالا لأي تفسير بديل للواقع".
صحيح أن هناك رغبة عبرت عنها أجهزة وهيئات الأمم المتحدة العاملة في مجال حقوق الإنسان في اتجاه تشجيع إلغاء العقوبة، ودعت الدول إلى النظر في وقف تنفيذ عمليات الإعدام، وحثت على الحد تدريجيا من عدد الجرائم التي يجوز المعاقبة عليها بالموت، لكن يوجد بون واسع بين منطوق القوانين والدعوة إلى النظر في إمكانية توقيف التنفيذ.
القانون الجنائي المغربي يتضمن ما يقرب 36 مادة تنص على عقوبة الإعدام، إضافة إلى 16 مادة ينص عليها قانون العدل العسكري. وحتى مشروع القانون المعدل للقانون الجنائي ما زال يحتفظ، إلى حدود اليوم بالعقوبة ولو أن النقاش سائر في اتجاه تقليص حكم الإعدام بالنسبة لعدد مهم من الجرائم واقتصاره فقط على "الجرائم الخطيرة".
وبعيدا عن العاطفة والقناعات الشخصية، فإن القانون الدولي والقانون الجنائي للملكة ينصان على العقوبة في الجرائم بالغة الخطورة بمراعاة شروط محددة.
ففي أي خانة من الجرم نصنف قضية الطفل عدنان إذن؟ وقضية الإمام؟ وقضية الزوجين؟ وقضية الفتاتين السائحتين؟ وهل منا من يرى هذه الجرائم بمنظور آخر غير "بالغة الخطورة". إذا كان الأمر كذلك، فالاحتكام يكون للقانون، وإذا أجمعت الأغلبية على غير ذلك فلنغير القانون، أما وأن نترك القانون في واد والتنزيل في واد فهو ليس إلا نوعا من السكيزوفرينيا المضرة بقوانيننا.
فعوض تمتين قوة القانون نسهم في هشاشته وضعف حجيته ومراميه!
في سنة 1975 حكم على شخص بالسجن المؤبد عقب مقتل شرطي. لم تمض 5 سنوات على اعتقاله حتى أجهز على أحد الحراس بالسجن المركزي بالقنيطرة، فصدر في حقه قرار بالإعدام. لم ينفذ الحكم وظل سجينا لمدة 27 سنة ليطلق سراحه فيما بعد. وبعد بضعة أشهر على مغادرته السجن، ارتكب من جديد جناية قتل وهو ينتحل صفة شرطي، ليحكم عليه مجددا بالإعدام. وطبعا مجرد حكم وليس تنفيذا للعقوبة.
لنعد إلى نظرية تأثير الفراشة، بحيث يمكن أن نستشف منها أن كل أعمالنا ومواقفنا تؤثر بشكل غير مباشر على حياتنا في المستقبل، لذا وجب أن نشعر بقدرتنا على إحداث التغيير فيما هو قادم من الأيام. بمعنى هل بإمكاننا أن نكون جناح الفراشة الذي يساهم في إحداث الإعصار في المستقبل؟ وهو طبعا إعصار ضد الهمجية والجريمة والبشاعة. لكم التعليق!