توقفتُ، اليوم، عند تدوينة في فضاء التواصل الاجتماعي تحمل شهادة في حقي ألهبت مشاعري وعادت بذاكرتي إلى واقعة من القرن التاسع عشر في إسبانيا، كان بطلها دون بينيطو بيريث غالدوس Benito Perez Galdós أحد أكبر الروائيين الإسبان بعد ميغيل دي صرفانطيس، ويُعتبر من مؤسسي الرواية الواقعية، ومن أعماله الرائعة أتذكر "عيطة تطاون" و"دونيا برفيكتا" وغيرها من روائع الأدب الإسباني التي رفعته إلى مصاف الروائيين الكبار ورشحته للحصول على جائزة نوبل للآداب.
الواقعة، التي قرأت عنها في سلسلة "حياة دون بينيطو"، تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين قام أحد خصوم الروائي باقتراحه لعضوية الأكاديمية الملكية الإسبانية. مينديث بيلايو Méndez Pelayo ملكي ينتمي إلى المحافظين، مسيحي كاثوليكي لا يتخلّف عن قداس الأحد، كان من اقترح الروائي الليبرالي التقدمي رائد الرواية الواقعية الذي لا يخفي انتماءه إلى الجمهوريين. كانت مفاجأة هزت المشهدين السياسي والثقافي في إسبانيا، وظلّت حديث المنتديات وكاسينو مدريد ودار الأطنيو العريقة لسنوات.
فراسة الكاتب والناقد الأدبي واعترافه كان أقوى عند مينديث بيلايو من مواقفه السياسية، ولم يتردد في خوض حرب دامت سنوات لترشيح غريمه إلى عضوية مؤسسة عريقة، أغلب أعضائها من المحافظين والوطنيين المسيحيين، وأغلبهم كانوا عرضة لسخرية بيريث غالدوس في كتاباته ومقالاته الصحافية. أغلبهم انتفض ساخطا معلنا لا نافية قاطعة لهذا الترشيح.
المؤرخ والملكي وزعيم المحافظين ورئيس حكومة الملك ألفونصو الثاني عشر كانوفاس ديل الكاستيو Cánovas del Castillo انتفض، حينها، قائلا: "كيف لهذا الجمهوري الليبرالي التقدمي أن يكون عضوا في مؤسسة عريقة من حجم الأكاديمية الملكية الإسبانية!؟".
الحدث ذاع صيته في إسبانيا ووصل صداه إلى عاصمة الأنوار، وكانت مفارقة اخترقت أحاديث الصالونات الأدبية والسياسية عن ملكي ومسيحي محافظ يقترح ويدعم تقدميا ليبراليا وجمهوريا لعضوية مؤسسة بحجم وتاريخ أكاديمية كانت حكرا على نخبة المحافظين، وانطلقت حينها (1883) أطول مداولة في تاريخها لاختيار من يملأ الكرسي الذي كان شاغرا في الأكاديمية.
مينديث بلايو كان يعرف أن صديقه غالدوس مُشاكس وعنيد وخصم سياسي مُحرج؛ لكنه كان يعرف، كما أسرّ بذلك لأصدقائه من المحافظين، أنه أمام قامة إبداعية كبيرة، ورائد روائي بارع يضاهي الفرنسييْن بالزاك وإيميل زولا، والبريطاني شارل ديكنز الذين تأثر بهم غالدوس.
مينديث بلايو كان واثقا من اختياره، ويرفض إنكار قدرات غالدوس بسبب مواقفه. يقال إنه كان مُعجبا بطريقته في الكتابة، وحتى في خصومته السياسية. كان يعرف بفراسة الناقد أن غالدوس سيرفع اسم إسبانيا عاليا، وكان في سجالاته مع خصوم غالدوس من اليمين المحافظ يسأل: "ما العيب في أن نعترف ببراعة وألمعية هذا الرجل رغم اختلافنا معه، جميعا نحب إسبانيا، ولو اختلفت طريقتنا في حبها وخدمتها؟"...
لم يجتاز غالدوس امتحان الالتحاق بالأكاديمية في المحاولة الأولى، واستمر مينديث بيلايو مُلحّا في ترشيحه للمرة الثانية التي فاز فيها بإجماع أعضاء الأكاديمية؛ لكنه لم يقدم كلمة التحاقه الرسمي بالأكاديمية إلا بعد 8 سنوات من اختياره لعضوية الأكاديمية (1897).
هذه الواقعة تُؤرخ لتطور مفهوم ما ندعوه اليوم بثقافة الاعتراف، خصوصا إذا كان الاعتراف من لدن من يوجد معك على طرف نقيض من حيث الموقف السياسي والقناعات الفكرية. ثقافة تبني بدون شك الإنسان الذي هو الأصل في الأوطان. واخترت هذه الواقعة بالضبط؛ لأنها تتعلق بروائي مبدع من الطراز الرفيع، ولأنها تعود في الزمن إلى القرن ما قبل الماضي، ولأنها من إسبانيا بالذات التي عرفت مجزرة بشعة ضد أبنائها من المسلمين والموريسكيين، وكذلك لأنها تتعلق بشخصية غالدوس الروائي والسياسي الليبرالي التقدمي الذي رافق الجنرال أودونيل في حرب تطوان وأصدر بعد عودته رواية "عيطة تطاون"، وكذلك لأنه ظل يُخفي مفارقة أن جده كان كاتبا في محاكم التفتيش.
ظلّ دون بينيطو وفيا لصديقه مينديث بيلايو بقدر وفائه لخلافهما السياسي.. وبعد وفاة صديقه، أبدع غالدوس في رثائه؛ حتى ظنّ الحاضرون أن الجمهوري غالدوس سيعانق المسيحية من جديد، وسيعلن فروض الطاعة والولاء للملك*.
* كل أحداث الواقعة حقيقية، باستثناء قصة الرثاء التي هي من وحي خيال الكاتب.
مدريد 11 شتنبر 2020