ما زالت وزارة التربية الوطنية مصرة على أن تخاطب المغاربة وكأنهم قاصرون أو جاهلون بمتطلبات وتقنيات التعليم عن بعد، ومحاولة إيهامهم وحصر فهمهم في كون التعليم عن بعد هو التلقين عبر الأنترنيت وبس، دون الإشارة إلى المقومات الأخرى التي تُعتبر العمود الفقري لهذا النوع من التعليم، ومنها بالأساس الربط بشبكة الأنترنيت وتوفير صبيب كاف لذلك، والاعتماد على لوحات رقمية، إضافة إلى الشروط الأخرى الأساسية التي تتمثل في توفير وبلورة وسائط بيداغوجية رقمية وتطبيقات ومنصات تفاعلية .
لكن، هل الواقع التعليمي المغربي يتيح هذا النوع من التعليم الافتراضي؟ بالتأكيد على أن الجواب سيكون طبعا بالنفي، وذلك راجع لأسباب بنيوية جعلت قطاع التعليم ببلادنا في تراجع مطرد، رغم تعدد الاستراتيجيات ومحاولات الإصلاح المتكررة التي لم تستطع تحقيق إقلاع حقيقي لمنظومة التربية والتكوين تمكنها من مسايرة ركب الرقمنة البيداغوجية. أما في ما يتعلق بالظروف المادية لأسر الثمانية ملايين من المتعلمين/ات فجلّها لا تتوفر على الربط بالأنترنيت عبر ما يسمى بحظيرة الاتصال اللاسلكي WIFI، إذ أن أغلبها تعتمد على التعبئة عبر الأداء المسبق، وهو ما يشكل عقبة أساسية لكون هذا النوع من خدمات الأنترنيت مكلف جدا، وخاصة بالنسبة للأسر التي تتوفر على أكثر من طفل واحد. إضافة إلى كون الإمكانيات المادية للأسر المغربية لا تتيح فرص اقتناء لوحات رقمية أو هواتف ذكية.
أمام هذا الواقع المأزوم تصبح مجموعة من الحلول التي تقترحها وزارة التربية الوطنية لمواجهة تداعيات فيروس كورونا في ما أسمته المقاربة الاستباقية عبارة عن وهم سياسي، ودجل تربوي لاستغفال للمغاربة؛ كما يمكن اعتبارها بمثابة إقرار على أن مصالح أبنائنا بعيدة كل البعد في أن تكون هي الحافز والمثل الأسمى للسياسات التعليمية المتبعة في بلادنا.
لا غرابة إذن أن يباغتنا وزير التربية الوطنية في مطلع يوم السبت 22 غشت 2020، ببلاغ فيه من الكلام المُنمّق وإعلان النوايا ما يمكن اعتباره في إطار المنظومة التربوية المغربية بمثابة مُسْتنسخات، مما يراه السيد أمزازي في دول أخرى لها من المقومات والخبرة في مجال التعليم عن بعد الشيء الكثير، وبالتالي يبقى بلاغه كمدركات فتية أهل الكهف بعيدا كل البعد عن العالم الحقيقي.
المقاربة الاستباقية التي تكلم عنها البلاغ والمخطط المتكامل لتدبير الموسم الدراسي 2020-2021، يمكن اعتباره وبدون مبالغة أغرب بلاغ مثير للجدل لحكومة السيد سعد الدين العثماني منذ ظهور أول حالة عدوى لفيروس كورونا في بلادنا، والدليل على ذلك هو ردود الفعل التي ما زالت متواصلة حتى من طرف أخصائيين في مجال الصحة النفسية للطفل، وما كتب عنه تجاوز بكثير وقع كل البلاغات والمراسيم الأخرى التي تم تنزيلها خلال كل هذه الفترة من حالة الطوارئ الصحية بالمغرب. يضاف إلى ذلك الكم الهائل من التعليقات والكاريكاتور.
لقد اعتبر المغاربة أن البلاغ الذي يقرر اعتماد التعليم عن بعد خلال الموسم الدراسي الحالي مع توفير تعليم حضوري بالنسبة للمتعلمين الذين سيعبر أولياء أمورهم عن اختيار هذه الصيغة، هو بمثابة استصغار لمدركات وفهم المغاربة الذين وضعهم البلاغ بين حيص وبيص، وما لهاتين الكلمتين من معاني الشدة والاختلاط. أولى الأمور التي تستوجب أن نسائل عنها السيد وزير التربية الوطنية ونحن ندرك أنه وطاقمه التربوي لهم من الكفاءة والخبرة والتكوين الأكاديمي والبيداغوجي، ما يمكنهم من الإدراك التام بأن تلقين أبناء وبنات المغاربة عن طريق "الواتساب" لا يمكن اعتباره تماما كمكون للتعليم عن بعد، فما قامت به بشكل تطوعي أسرة التربية والتكوين إبان الحجر الصحي الأول من إنشاء مجموعات عبر تطبيق "الواتساب" وما تترب عن ذلك من الجهد والعناء من طرفهم، كان في حقيقة الأمر إجراء لمواجهة الفراغ والأمر الواقع الذي أوقعتهم فيه وزارة التربية الوطنية عندما قيل لهم حبلُكمْ على غاربكُمْ، فأمركم بين أيديكم.
لقد اتضح للجميع من خلال بلاغ وزارة أمزازي غياب رؤية استراتيجية شاملة ومنسجمة، بل يمكن اعتباره وثيقة إثبات وحجة وبرهان على عشوائية التسيير والتدبير التي تنهجها الوزارة. إذ كيف يعقل أن تعتمد الوزارة هذه الصيغة الهجينة التي أضحت مثار السخرية والاستغراب دون أن تضع احتمال اختيار التعليم الحضوري من طرف الأغلبية من الأسر المغربية نظرا لغياب بعض المقومات الأساسية في العملية التي تعتبرها الوزارة تعليما عن بعد، واكتفى بلاغ 22 غشت 2020 بالتنبيه لاحترام مسافة التباعد وتقليص التلاميذ داخل الاقسام الدراسية!!!! فهل فكرت الوزارة في أن هذه العملية في حالة ما إذا اختارت جل الأسر المغربية صيغة الحضور تقتضي توفير حجرات دراسية إضافية وموارد بشرية لإنجاز هذه العملية؟
ما يثير الغرابة والتساؤل أيضا في المذكرات الوزارية والبلاغات التي تهم قطاع التربية والتكوين والتي صدرت منذ بداية الحجر الصحي، وهو كونها تتكلم عن هذا القطاع وكأنه قطاع متجانس تتساوى فيه الظروف وتكافؤ الفرص بين الحواضر والقرى.
فما مدى مصداقية هذه الإجراءات التي تتجاهل تماما ظروف المتعلمين والمتعلمات في العالم القروي، والذين يمثلون نسبة مهمة ضمن العدد الإجمالي الذي يناهز 8 ملايين تلميذ حسب إحصائيات الوزارة؟ فأي تعليم عن بعد يا ترى كيفما كان نوعه ومقوماته ولو بأبسط صيغه يمكن لهؤلاء التلاميذ أن يستفيدوا منه، والكل يعرف واقع العالم القروي ببلادنا وشظف العيش للأسر المغربية التي لا تُمكّنهم حتى شراء "هواتف بليدة" لأطفالهم فبالأحرى الذكية منها؟ إضافة لشبكة الأنترنيت التي لا تغطي كل القرى والبوادي في المملكة.
أما عن الأطر التربوية التي من المفروض أن تسهر على عملية التعليم عن بعد ولو بصيغته المغربية Apprentissage à distance made in Morocco، فتلك حكاية أخرى لا عنوان لها سوى أن وزارة السيد أمزازي تنهج وبالمكشوف سياسة غض الطرف عن عورات منظومتنا التربوية وتسويق شعارات زائفة لا صلة لها مطلقا بالواقع.