ارتبطت كثير من المدن ببعض الأسماء، سواء في الفن أو الأدب أو الرياضة أو السياسة، واسمنا هذه المرة لن يكون لاعبا كرويا شهيرا يداعب الكرة المستديرة على المستطيل الأخضر ويستعرض مهاراته الفنية، فتهتف الجماهير المحتشدة باسمه في المدرجات، ولا فنانا تتراقص الكمنجات المبحوحة على ركبتيه في أماسي الصيف، فتتمايل الأجساد على أنغامها والرؤوس الدائخة، لكن الأمر يتعلق هنا برجل علم أعطى فوفّى لأبناء وبنات بلده في مدرجات الجامعة وخارجها، إنه الأكاديمي المغربي الدكتور عبد الرحيم جيران.
حين قرأت تدوينة له كتبها على جداره الفيسبوكي، يقول فيها: "وداعا الدرس الأكاديمي والمحافل الجامعية...، مرحبا بحياة أخرى"، حضرتني المدينة الصغيرة الهادئة مارتيل واستحضرت كورنيش شاطئها الممتد الجميل وممشاها الليلي الضاجّ بالناس في الصيف والنهاري الهادئ في باقي فصول السنة. لا أنكر أن مشاعري ارتبكت واختلطت علي دفعة واحدة، أحسست بنوع من الدوار الخفيف واكتسحتني حسرة على الدرس الجامعي في المغرب عموما، وعملية إفراغ الجامعة المغربية من أطرها وكفاءاتها القادرة على البذل والعطاء وطرح السؤال بصيغة أخرى في مجال تخصصاتها، عملية بدأت ومازالت مستمرة مع الأسف، وهو أمر يثير الشفقة على مستقبل الجامعة المغربية ومدرجاتها، هناك من رحل عن عالمنا مبكرا وهناك من رحل على عجل منذ أن بدأت حملة المغادرة الطوعية، وهناك من استعجل الرحيل باللجوء إلى التقاعد النسبي حفاظا على ماء الوجه، وهناك من التجأ إلى المغادرة مكرها أو طواعية لمرارة ذاق طعمها ولم يعد يحتمل، وإن كنا هنا لا ندرس نوايا الناس.
مغادرة الدكتور عبد الرحيم جيران للدرس الجامعي والأكاديمي كما حصل لكثير من أمثاله، وإن جاءت عن رضى وقناعة، بعد أن وصل إلى سن المعاش واستوفى الأربعين سنة في الخدمة، كما تنص على ذلك القوانين والتشريعات المعمول بها في الوظيفة العمومية، إلا أن الجامعة المغربية مازالت محتاجة إلى كفاءات مثل هذا الرجل وعطاءاته، كما هي محتاجة إلى أمثاله وما أكثرهم، لكن المؤسف حقا هو أن الجيل الجديد قد لا يمكنه تعويض مغادرة مثل هؤلاء الكبار، مهما اختلفت ظروف المغادرة.
نحن نعرف أن الرجل أديب موسوعي، فهو جامعي، قاص، شاعر، مفكر وناقد لا يشق له غبار في مجال تخصصه، مبرّز في الفضل غزير في العطاء، لا يبخل على طلبته وطالباته وعلى كل من يقصده من مريدي المعرفة، أكاديمي كريم سخي في عطاء العلم كما في الحياة.
الرجال كما النساء عادة ما يحبون الرجل جهير الصوت، لكن جيران، وإن كان خفيض الصوت وعفويا في أحاديثه حين تجالسه، إلا أنه يفرض عليك بإرادتك أن تستمع إليه، وهذه من خصوصيات الرجل العالم، لأنه يعوض بالعلم ما لا يدرك بالصوت. الدكتور جيران لم يكن يوما أستاذي في الجامعة، لكنني كنت أقتفي أثر جديده في المكتبات الكبرى في الرباط، وظل دائما صديقا ودودا بشوشا مفيدا نصوحا ومستمعا حتى للأفكار والأطاريح التي قد يتعارض معها، لذلك لم يكن ممكنا أن أزور مارتيل دون مجالسة الأكاديمي عبد الرحيم جيران والاستفادة من علمه والاستماع لدرسه الأكاديمي الحرّ في ركن قصي من المقهى، وهو عادة ما يفضل المقاهي المنزوية هروبا من الضجيج المفتعل.
ظل جيران طيلة مشواره الأكاديمي والجامعي محافظا على نقاء معدنه، سواء حين كان أستاذا مكونا بالمدرسة العليا للأساتذة بمارتيل أو بعد التحاقه كأستاذ محاضر للأدب العربي بجامعة عبد المالك السعدي، ترك دائما تلك البصمة المتميزة والانطباع الجميل نفسه، مرسخا بذلك ثقافة مختلفة، جادة وهادفة عند الطلبة الأساتذة كما عند الطلبة الباحثين. لم ينحز يوما لممارسة سلطته العلمية أبدا في كلتا الضفتين.
شكرا لكم أستاذي عبد الرحيم، أديتم فكفيتم وأعطيتم فأوفيتم وخلصتم فنلتم محبة طلبتكم وأصدقائكم ومعارفكم. أطال الله في عمركم وحفظكم الرحمن لنا ولأسرتكم.