بدأ الحديث عن "الدولة الاجتماعية" مع اندلاع الأزمة المالية العالمية سنة 2008، والدور الذي على الدولة القيام به للتخفيف من آثارها على المجتمع والاقتصاد. واليوم تعيد جائحة كورونا الحديث عن مفهوم "الدولة الاجتماعية"، إذ توحدت مطالب الأحزاب والنقابات بأن تستعيد الدولة أدوارها المركزية لحماية المجتمع والاقتصاد من الانهيار.
والدولة المغربية كانت تتدخل في المجال الاجتماعي رغم تكلفته المادية (صندوق المقاصة، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية...). كما جاء دستور 2011 الذي ينص في المادة 31 على كون "الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية (تعمل) على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في:
– العلاج والعناية الصحية.
– الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة.
– الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة.
– التنشئة على التشبث بالهوية المغربية، والثوابت الوطنية الراسخة.
– التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية.
– السكن اللائق.
– الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي.
– ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق.
– الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة.
– التنمية المستدامة".
لكن، وبمجرد وصول حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة حتى شرع في التخطيط للإجهاز على وظائف "الدولة الاجتماعية"، بدءا بإلغاء الدعم المخصص للمحروقات وعدد من المواد الأساسية، امتثالا لإملاءات الدوائر المالية الدولية، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، ثم التخفيض من ميزانيتي التعليم والصحة؛ الأمر الذي انعكس سلبا على واقعهما (الاكتظاظ : 50 تلميذ في القسم، المواعيد الطبية بآجال طويلة تفوق سنة، ضعف التجهيزات، قلة الأطر ..).
كما اتخذت حكومة "البيجيدي" سلسلة قرارات أجهزت على الحقوق الاجتماعية، ومن ثم على الدور الاجتماعي للدولة، بحيث ألغت الحق في الوظيفة العمومية وفرضت التوظيف بالتعاقد، كما ألغت الحق في الترقي بالدبلومات والشهادات الجامعية. وأخطر القرارات ذلك المتعلق بنظام التقاعد (تمديد سن التقاعد بـ3 سنوات، الرفع من المساهمة الشهرية للموظفين، مع تخفيض نسبة المعاش من 2.5 % إلى 2% ورفع سنوات الاستفادة من التقاعد النسبي من 21 إلى 26 سنة، واحتساب المعاش على أساس متوسط أجر 8 سنوات عوض الأجرة الأخيرة)..
ويقود تمديد سن التقاعد حتما إلى حرمان عشرات الآلاف من الشباب من فرص الشغل والمساهمة في التنمية؛ في حين تواصل حكومة "البيجيدي" نهجها بالإبداع في القرارات دون مراعاة الوضعية الاجتماعية للمواطنين، وذلك بغاية ضرب الدور الاجتماعي للدولة والسعي إلى عرقلة المبادرات، خاصة التي تروم الارتقاء بأوضاع المرأة أو ترجمة مقاربة النوع في السياسات العمومية أو دعم المقاولين الشباب أو تمكين المواطنين في المناطق التي تعاني الهشاشة والتهميش من الاستفادة من الماء والكهرباء (تعاني مناطق عديدة من العطش، وأظهرت جائحة كورونا أن نسبة مهمة من تلاميذ العالم القروي لم يستطيعوا الاستفادة من التعليم عن بعد بسبب انعدام الكهرباء). وفضلا عن هذا، سنّت حكومة بنكيران قانونا يقضي بتطبيق تسعيرة آخر شطر بلغته الكمية المستهلكة من طرف الأسر ولو بقطرة ماء عند الفوترة.
إستراتيجية "البيجيدي" هذه لم تكن سرية أو تتم في الكواليس، بل أعلنها بنكيران حين تولى رئاسة الحكومة بأنه حان الوقت لترفع الدولة يدها عن التعليم والصحة. وعلى منوال النهج "النيوليبرالي المتوحش" نفسه نسج لحسن الداودي، عضو الأمانة العامة للحزب ووزير سابق، عبارته: "لي بغا يقري أولادو يدير يدو في جيبو". وكثيرا ما هدد بنكيران بتخفيض أجور عموم الموظفين الذين حُرموا من الترقية والزيادة في الأجور طيلة رئاسته للحكومة.
وبعدما "وقعت الفأس في الرأس"، وعرّت جائحة كورونا عن العجز التام لقطاعي التعليم والصحة عن مواجهة الأزمة الناتجة عن الوباء، لولا الدعم المالي المهم الذي وفره الصندوق الخاص بتدبير جائحة كورونا (33 مليار درهم و700 مليون) الذي جاء بمبادرة ملكية، جاءت السيدة بسيمة الحقاوي، عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية والوزيرة السابقة في مداخلة لها ضمن ندوة نُظمت مساء الخميس 27 غشت 2020، في إطار فعاليات الملتقى الوطني 16 لشبيبة العدالة والتنمية، لتقول باحتشام إن "الفاعل الأساسي في التنمية البشرية هو الدولة، لكن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تبقى هي الوحيدة المبادرة والمتدخلة في مجال التنمية البشرية، وإلا فإن ذلك يعني عودة مفهوم الدولة الراعية الذي يتنافى مع مفهوم الدولة الاجتماعية"..هذه نموذج للأطر الفاشلة التي يزخر بها "البيجيدي" ويعتمد عليها في تدمير الدولة الاجتماعية وتشجيع "الرأسمال المتوحش". إذ في وقت يتفق فيه خبراء الاقتصاد السياسي على مركزية الدولة في تحقيق الرفاه للمواطنين وضمان استفادتهم من الخدمات الاجتماعية، مازال الحزب يخطط لتقليص وظائف الدولة.
والبيجيدي انخرط بفعالية، منذ ترؤسه الحكومة، في إضعاف دور الدولة الاجتماعي استجابة لشروط صندوق النقد الدولي حتى يتم الحصول على القروض، وفي مقدمتها تحرير الأسعار وإلغاء الدعم عن المواد الأساسية مع تقليص الإنفاق العام.
إذن، جائحة كورونا تثبت للعالم أن الدولة الاجتماعية ليست خياراً أيديولوجياً أو أن دورها ثانويا، بل كما قال عبد الله ساعف، الوزير السابق في حكومة عبد الرحمن اليوسفي التي أنقذت المغرب من "السكة القلبية" في نفس ندوة شبيبة "البيجيدي"، إن "المجتمع متعطش لدولة اجتماعية تنفذ بعمق إلى كل ما هو اجتماعي، بداية بالمجالات الأساسية، وفي مقدمتها التعليم والصحة والسكن والشغل، وكل ما هو نابع من هذه المنظومة".
ولعل الدرس الذي على كل الفاعلين السياسيين بالمغرب استخلاصه من جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية هو أن التعليم والصحة ينبغي أن يكونا قطاعيين سياديين مثل قطاعي الأمن والجيش، حتى لا يُتركا للمزايدات السياسوية والحسابات الحزبية الضيقة. فأيا كانت الخلفيات الإيديولوجية للأحزاب فإن القطاعات الاجتماعية، وخاصة التعليم والصحة، ينبغي وضعها خارج أي اعتبار غير اعتبار المصلحة العليا للوطن. بهذا المعنى ستعطي الدولة الأولوية القصوى للاستثمار في الإنسان .