يُعد إريك فروم من أهم المفكرين الماركسيين الذين اهتموا بنقد الدولة المعاصرة وبيان زيف أسسها؛ بحيث اهتم بتتبع مظاهر انحراف الحضارة الغربية المعاصرة، التي أصبحت فيها المادة والاستهلاك مقياسًا للتقدم والتحضّر. كما اهتم بالوضع الحرج للإنسان المعاصر، القائم على الصراع الدائم مع الطبيعة ومع نفسه؛ ويتمظهر الصراع مع الطبيعة في محاولات الإنسان غير العقلانية والأنانية للسيطرة عليها، وإخضاعها، باستخدام التكنولوجيا المخرّبة والمدمرة. أما الصراع مع نفسه فيتجلى في تمركزه حول ذاته، وفي شوقه المستمر للكسب والادخار، وهذا ما جعله يعيش في حالة الاغتراب الوجودي الذي تمخّض عنه مظاهر اليأس وعدم الرضى في حياته.
إن الاضطرابات والاختلالات التي شهدتها الحياة الإنسانية المعاصرة، أوقفتها على مشارف كارثة بشرية محققة، لا يمكن لشيء أن ينتشلها من الفوضى، غير التصالح مع الطبيعة عوض تدميرها، ومع الأنا بدل تغريبها. ولن يتحقق ذلك إلا عن طريق إعادة النظر في سلوكنا تجاه الكون، والسعي إلى بناء عالم جديد قائم على القيم والمحبة؛ أي عالم تتحقق فيه كينونة الإنسان كإنسان. ولذلك لا بد من تظافر الجهود في معالجة الانتكاسة الأخلاقية البشرية، وتأسيس عالم جديد يصبح فيه الإنسان الأخلاقي أعظم إنجاز حققته البشرية، لا السعي إلى تدمير هذا الإنسان، وتعويضه بإنسان مستلب مغيّب الوعي. وتماشيا مع السياق أكد فروم من خلال كتابه "التملك والكينونة" على وجود نمطين من الوجود في حياة الإنسان المعاصر، يتصارع ليتحكم فيه ويخضعه، وهما: التملّك والكينونة. فكيف يتجلى التملّك إذن؟ وما هي الكينونة؟ وما هو الفرق بينهما؟ وكيف يصوّر لنا فروم العالم المعاصر؟ وأي نمط يرجّح فروم هل هو نمط الكينونة أم نمط التملّك؟
أضحى نزوع الفرد المعاصر نحو التملك أمرًا عاديا، لا يثير لدى الإنسان المعاصر أي انتباه؛ بحيث أصبحت رغبة التملك عاملا مشتركا بين جميع أفراد المجتمع، بل وأكثر من ذلك صار يُنظر إلى الإنسان الذي يملك أنه ذو قيمة سامية، في حين يُنظر إلى الذي لا يملك أنه لا يساوي شيئا.
يشير فروم إلى أن التملك نمط من الوجود، يُقصد به كل ما يتعلّق بالملكية الخاصة؛ فكل ما يهم في هذا النمط من الوجود، هو الحصول على الملكية والمحافظة على ما حصلت عليه1، فهنا حتى اللغة تميل إلى استخدام ألفاظ التملك والعندية؛ بمعنى هناك ميل إلى إحلال الاسم محل الفعل، كقول شخص يطلب مساعدة من محلل نفسي يبدأ الحديث ب: دكتور، لدي مشكل، لدي الأرق، فرغم أن لدي منزلاً جميلاً، وأطفالا رائعين وزواجًا سعيدًا، فإن لدي همومًا. قبل عشرات السنوات ربما كان الزبون سيقول، عوض لدي مشكلة: أنا مضطرب. بدل لدي الأرق: لا أستطيع أن أنام. بدل لدي زواج سعيد: أنا سعيد في البيت. ليتضح لنا أن أسلوب الخطاب المعاصر يسجل لاشعوريا ارتفاع درجة الاستلاب التي تسود اليوم، فعندما أقول لدي مشكلة بدل أنا مضطرب، فإنني أقصد التجربة الذاتية؛ فالذات الفاعلة في التجربة قد تم استبدالها بهو التملك؛ إذ تحوّل الشعور إلى شيء أمتلكه، إلا أنني لا يمكن أن أمتلك مشكلاً، لأن الأمر لا يتعلق فقط بموضوع لا يمكن أن أمتلكه، بل الأخطر أن المشكل يمكن أن يمتلكني، مما يعني أنني تحوّلت إلى مشكل، وإني الآن مملوك من طرف شيء خلقته أنا، وطريقة التعبير هذه تعكس استيلابًا مخفيا. فعندما أقول لدي مشكل فهو تعبير عن نشاط داخلي ذاتي ملكني أنا هو ذاته الفاعلة2.
يتضح أنه لا توجد علاقة حية بين الأنا والملكية، لأن نمط الملكية لا يقوم على صيرورة حية ومثمرة بين الذات والموضوع، وإنما هي علاقة تجعل من الذات والموضوع أشياء والعلاقة بينهما علاقة تماوت وليست علاقة حياة3، وسبق ووضّحنا كيف تتغذى اللغة وتتقوي نزعة التملك لدى الفرد؛ فالتملك يقود على هذا الاعتبار إلى الاغتراب والضياع والاستهلاك المستمر. كما يعدّ الاستهلاك من بين أهم النتائج التي تفرزها المجتمعات الصناعية التقنية الحديثة.
أما الكينونة فيقصد بها ذلك الارتباط الحيوي بالعلم، وتعبّر أيضا عن حقيقة الشيء، أو جوهره. فهي تؤكد صفات التوجه الإنساني والاستقلال والحرية والعقلانية النقدية والنشاط المثمر الفاعل بمعنى الإنتاجية. ولا ينحصر نقاش فروم للكينونة في الإطار الأنتروبولوجي- النفسي فحسب، بل حاول دراستها فلسفيا بالاستناد إلى رؤى كل من هيراقليطس وبوذا وهيغل وماركس... الذين نظروا إلى الكينونة على أنها قائمة على السيرورة والحركة والتغيّر، التي يتبناها فروم بوضوح4. ولعل فروم يقصد بالكينونة ذلك الوجود الإنساني الخالص الذي كان يتمتع به الإنسان في القِدم، قبل أن يستولي شبح الاقتصاد، وهاجس التملّك على عفوية هذه الحياة، ويقدّمها في قالب مزيّف يقوم على الترويج والتسويق والتزييف؛ فالكينونة من هذا المنطلق دعوة إلى نمط حياة جديد، تقوم على البساطة وقيم الإخاء والمحبة والتشارك... بدل قيم المنفعة. ومنه، هل يدعونا فروم إلى تأسيس العالم الجديد على نمط الكينونة فقط؟ أم أنه يدعونا إلى الربط بين نمطي الكينونة والتملك؟
قبل الإجابة على السؤال سنقوم باستحضار تصور فروم عن المجتمع المعاصر: عُرف فروم بانتقاده لنظرية الغرائز الفرودية في تحديد سلوك الفرد؛ فهو يرى أن المجتمع هو الذي يحدد سلوك الفرد ويتحكم فيه، بل وينتج غرائزه ويوجهها ويقودها ويختار ما يناسبه معها طبقا للحاجيات الاقتصادية المتحكمة في هذا المجتمع، هذا الأخير هو الذي يصنع بميكانيزماته الخاصة، ومن بينها على الخصوص ما سماه فروم اللاوعي المجتمعي، أو سلوك الفرد في المجتمع؛ فهذه القيم محكومة بطبيعة نمط الاقتصاد السائد في هذا المجتمع، فالمجتمع لا يؤثر في السلوك فقط، بل يطبعه ويحدده. ويستدل فروم على ذلك بما يسميه بالنجاح المجتمعي، الذي يمكّن الإنسان من عيش حياة متفائلة لا يظهر فيها الإنسان ضعفه أو أخطاءه ومشاكله وحزنه؛ بمعنى يكون الإنسان في هذه الحالة إيجابيا على الدوام، والناجح لا يجب أن يخفي نقاط ضعفه عن الآخرين وفقط، بل عليه أن يؤمن بنفسه ويدرك قوتها، ويشدد فروم على ضرورة تجنّب الضعفاء، ومرافقة الناجحين5.
إن الإنسان الذي يحاول أن يعيش دون اعتقاد هو إنسان عقيم، حسب فروم، يعيش دون أمل وغير مضطلع بعمق الوجود؛ فالإيمان عنده خاصية إنسانية جد مهمة يمكن أن تتمظهر في أشكال أخرى غير المعتقدات والعبادات الدينية، فهي تهدف إلى انفتاح الإنسان على عوالم أخرى. يشدد فروم على ضرورة إدراك استغلال العالم الرأسمالي للجانب الروحي من أجل تقوية مبدأ الامتلاك، على الرغم من أن هذا الجانب الروحي ينتمي طبيعيا إلى عالم مبدأ الوجود، وهذا الاستغلال أدى بالعالم الروحي، إلى انزلاق سيميائي خطير، مفاده أن مضمون الروح لم يعد كما كان في السابق مركزا على الطهارة الروحية الداخلية والتنفيس الروحي للإنسان، بل أصبح أداة أيديولوجية لخدمة مصلحة دنيوية؛ بمعنى يتم توظيف المقدس لإحكام السيطرة على عالم الأشياء الفانية، وهو توظيف مرفوض إنسانيًا وحضاريًا، لأنه يؤدي بالضرورة إلى صدام الحضارات؛ فهو صدام مفتعل ومرغوب فيه ومخطط له من أجل إقصاء كل الحضارات الأخرى، لكي نصل في الأخير إلى المثل الأعلى لمبدإ الامتلاك، ألا وهو نهاية التاريخ (الفوكويامي)، أي نهاية الإنسان، وذلك لكون مبدأ الامتلاك يقود حتما إلى الملل والقرف. بالتالي إلى إشعال فتيل من الطاقة الهدامة في الإنسان على شكل حروب6.
إن فكرة المعتقدات الروحية التي يدعو إليها فروم لا تفترض كفكرة المقدس أو الذات المطلقة أو المحرك الذي لا يتحرك، بقدر ما تتطلب معاشا نفسيا وتجربة شخصية، يعيش فيها الإنسان كل مرة تجربة روحية فريدة، يشعر فيها بإنسانيته مكتملة، وقد تتمظهر هذه التجربة في أعمال إبداعية: كفن الرسم أو الموسيقى أو الكتابة، أو حتى أعمال اجتماعية خيرية: كالاهتمام بالمهمشين والتطوع...7
وعالج فروم أيضا مسألة استيلاب الإنسان في المجتمع الاستهلاكي الرأسمالي، ووضّح أن الاستلاب يقوم على ثلاث مستويات، وعلى رأسها استلاب وعي الإنسان، والزج به في عوالم استهلاكية خيالية، لا يكون مطالبا فيها باستعمال ذكائه وخياله وعبقريته وعقله، بقدر ما يكون مرغما على الاستهلاك الأعمى، مما ينتج عنه تقييد الإنسان بأصفاد غير مرئية تبيع له القيد معلّبا، بمبادئ من قبيل الحرية الفردية وخصوصية الامتلاك.
ينتقد فروم كما وضّحنا ذلك الاستهلاك غير الواعي الذي يقودنا إلى السقوط في فخ مبدإ الامتلاك، الذي يقلص الحياة الإنسانية، وكيف جعل العصر المُعوْلم من الإنسان بضاعة تباع وتشترى، تماما كباقي البضائع الأخرى (حول الحب إلى الجنس وإشباع الشهوات الغريزية، وأفرغه من مضمونه الإنساني، سواء مورس هذا الإفراغ من طرف شبكات الدعارة، أو من طرف شركات أفلام الفيديو ومواقع الأنترنيت).
إن التملك والكينونة من هذا المنطلق، مرتبطان بشخصية الفرد وشخصية المجتمع السائدة؛ أي في طريقة الحياة المعاشة في مجتمع ما، فالمجتمع البورجوازي يتصف بالادخار والتملك، أما المجتمع الاشتراكي فهو مجتمع نمطي، التملك والكينونة يرتبطان فيه بقيم حب الحياة وقيم حب الموت، اللذين يشكلان المشكلة الفاصلة للوجود. وعليه فإن القوة النسبية لأحدهما –التملك والكينونة- هي التي تحدد الفوارق بين شخصيات الأفراد، والأنماط المختلفة الشخصية في المجتمع8، فتقوية مبدأ الوجود لدى فروم لا يقوم على القضاء النهائي على مبدأ الامتلاك وإنما على إيجاد التوازن بين المبدأين من أجل حياة متوازنة.
تمتاز فلسفة فروم بطابع إنسانوي، تسعى إلى إعادة الاعتبار للإنسان باعتباره كائنا حيا وواعيا، وذلك من خلال إصرارها على ضرورة إنشاء مشروع الحوار والتعايش بين الثقافات المختلفة، والوعي بالفخ المحكم الذي أسقط الإنسانية في أتون الاستهلاك والشهوات المادية غير المعقلنة. ليدعونا في مقابل ذلك إلى تأسيس عالم جديد يقوم على قيم السلام، والمحبة، مع غياب لمظاهر استلاب الإنسان وتزييفه. والمخيف من هذا كله أنه رغم هذه الصرخات الإنسانية، والمجهودات الفكرية التي تسعى إلى الحد من مكننة الإنسان (جعله كالآلة)، فإن هذه المجهودات لا تؤتي أكلها في ظل التطور الصارخ الذي يشهده المجتمع الصناعي، والأخطر أننا أصبحنا نشهد حتى المجتمعات غير الصناعية، تنزع إلى السيطرة والتحكم، وأضحى الرأسمال هو المقدّس، وهنا يفرض علينا السؤال الوجودي نفسه؛ هل حان الوقت لنعلن موت الإنسان؟ وإذا افترضنا موت الإنسان فمن نكون نحن إذن؟
هوامش:
1- قاسم جمعة، النظرية النقدية عند إريك فروم، (منتدى المعارف، بيروت، 2011)، ص 321.
2- إريك فروم، التملك والكينونة، تر: محمد سبيلا، (مجلة فكر ونقد، المغرب، عدد3)، ص 1.
3- قاسم جمعة، النظرية النقدية...، المرجع نفسه، ص 321.
4- نفسه، ص 321.
5- إريك فروم، الإنسان المستلب وأفاق تحرره، تر: حميد لشهب، (شركة تداكوم للطباعة والنشر)، ص 10- 12.
6- المرجع السابق، ص 14- 18.
7- نفسه، ص 20.
8 قاسم جمعة، النظرية النقدية...، المرجع السابق، ص 320.
