في ظل الارتفاع المقلق لعدد الإصابات المؤكدة في الأسابيــع الأخيرة، ارتفع منسوب الترقب والتوجس والانتظار في أوساط الأسر والأطر الإدارية والتربوية وعموم الرأي العام، بشأن الدخول المدرسي والسيناريوهات أو النماذج البيداغوجيـة التي يمكن اعتمادها من طرف وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي - قطاع التربية الوطنية -من أجل تدبير أمثل لدخول مدرسي استثنائي بكل المقاييس. وقد اتسعت دائرة القلق والجدل بعد أن كشفت الوزارة الوصية على القطاع قبل أيام عن المقرر الوزاري لتنظيم السنة الدراسية الذي رسم خارطة طريق سنة دراسية "طبيعية"، قبل أن تحــاول في بلاغ لاحق توضيـح ما أثاره هذا المقرر الوزاري من جدل متعدد المستويات، بتأكيدها عدم الحسم في سبل تدبير الدخول المدرسي والسنة الدراسية برمتها، واضعة ثلاثـة خيارات بيداغوجية، ربطت أولها باعتماد "التعليم الحضوري" بشكل كلي، وثانيها بتبني "التعليم عن بعد" بشكل كلي وثالثها بإمكانية اللجــوء إلى خيار بيداغوجي تناوبي يجمع بين "الحضوري" و"الافتراضي".
عقب ذلك، أجرى الوزير الوصي على القطاع اجتماعا تنسيقيا - عبر تقنية المناظرة المرئية- مع مديري الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، بشأن تدارس الإجراءات والتدابير المرتبطة بإنجاح الدخول المدرسي المقبل2021-2020، وتم الوقوف من خلاله عند الأنماط التربوية التي أعدتها الوزارة والإجراءات اللازمة لتفعيلها وأجرأتها، بما ينسجم ويتماشى والخصوصيات الجهوية والإقليمية والمحلية، ما جعل الكثير من التحليلات تصب في اتجاه إمكانية اعتماد مقاربة بيداغوجية قائمة على تعدد السيناريوهات أوالنماذج البيداغوجية، التي تنسجم وخصوصيات الوضعية الوبائية لكل جهة أو عمالة أو إقليم. لكن في ظل هذه الموجة من الجدل والترقب والانتظار، لا أحد كان يتكهن بما ورد في بلاغ ليلة يوم السبت 22 غشت الجاري.
بلاغ لم يخرج عن قاعدة البلاغات والقرارات التي تعودنا أن تصدر في ساعات متأخرة من الليل، وبدل تذويب جليد الجدل والتوجس والتخفيف من درجات حرارة التوتر والقلق في أوساط الأسر والتلاميذ والفاعلين التربويين والإداريين، جاءت مضامينه حاملة لمفردات الضبابية والغموض والإبهام، بشكل سيجعلنا وبدون شك أمام دخول مدرسي على وقع الجدل واللخبطة والتعثر والارتباك، وسنة دراسية ستعيش أجواء من الاضطراب وعدم الاستقرار، بعدما تم ربط محطاتها وإيقاعاتها بوضعية وبائية مقلقة، لا أحد بإمكانه التكهن بتطوراتها.. وهو بلاغ جاءت خلاصاته الكبرى على النحو التالي:
اعتماد صيغة "التعليم عن بعد" في بداية الموسم الدراسي 2021-2020 المرتقب أن ينطلق رسميا يوم السابع من شهر شتنبر المقبل بالنسبة لجميــع الأسلاك والمستويات بكافة المؤسسات التعليمية العمومية والخصوصية ومدارس البعثات الأجنبية، مع توفير خيار "التعليم الحضوري" بالنسبة للمتعلمين الذين سيعبر أوليـاء أمورهم عن اختيار هذه الصيغـة، في أفق وضـع آليـة تمكن الأسر الراغبة في ذلك، من التعبير عن هذا الاختيـار.
خيار "التعليم عن بعد" كان "متوقعا" بالنظر إلى الوضعية الوبائية التي باتت مقلقة ومحرجة في ظل الارتفاع المهول في عدد الإصابات المؤكدة والوفيات والحالات النشطة والحالات الصعبة والحرجة. ولا مناص من القول إن أرقام كورونا جعلت من "التعليم عن بعد" الخيار الأقرب على الأقل لتدبير الدخول المدرسي في انتظار ما ستسفر عنه تطورات الوضع الوبائي، لكن "غير المتوقع" أن يتم تبني آلية "التعليم الحضوري بشروط" بالنسبة للمتعلمين الذين سيعبر أولياء أمورهم عن ذلك. بمعنى أن هذا الدخول المدرسي سيكون محكوما بتبني خيارين بيداغوجيين مختلفين، أولهما "عن بعد" (القاعدة) وثانيهما "حضوري بشروط" (استثناء). وهذه "التخريجة البيداغوجية" أثارت زوبعة من اللغط والجدل متعدد المستويات في أوساط الأسر والتلاميذ والأطر الإدارية والتربوية والباحثين والمهتمين، ليس فقط لأن لا أحد كان يتوقع أن تخرج الوزارة الوصية بقرار من هذا القبيل، ولكن لأن المبررات الوبائية التي فرضت اللجوء إلى خيار "التعليم عن بعد" اختفت أو لم يتم استحضارها لحظة التفكير في تنزيل "تخريجة التعليم الحضوري بشروط"، بشكل دفع الكثير من الآراء أن تصب في اتجاه ربط "التخريجة" بلوبيات مقاولات التعليم الخصوصي (مع الاستثناء طبعا)، التي منحت "آلية بيداغوجية" لممارسة الجشع واستهداف جيوب الأسر (واجبات التمدرس، واجبات التأمين ..) وإثقال كاهلها بعقود "إذعان" تفرض تأدية واجبات التمدرس في أي وضعية من الوضعيات (عن بعد، حضوري، تناوبي) وتحت أي ظرف من الظروف (جائحة، حوادث فجائية، أزمات ..). وهذا ما يفسر اتجاه إرادة "اللوبيات الخصوصية" إلى خيار "التعليم الحضوري" لممارسة رقصة الجشع والابتزاز بدون خجل أو حياء. وفي جميع الحالات نـرى أن هذه "التخريجة" (الحضوري بشروط) ستحمل بعض مشاهد اللخبطة والارتباك وعدم الاستقرار، للاعتبارات التالية:
- المؤسسات الخصوصية ومدارس البعثات الأجنبية ستلجأ إلى خيار "التعليم الحضوري" في ظل توفر بنيات مدرسية قد تساعد على أجرأة التدابير الوقائية والاحترازية (تخفيف عدد التلاميذ داخل الحجرات الدراسية، تحقيق التباعد، الكمامات، وسائل التعقيم ...)، أو يمكن الاعتماد عليهما معا حسب خصوصيات بعض المواد والتخصصات وحسب الإمكانيات التقنية المتاحة.
بنيات مدارس التعليم العمومي لا تسمح بالالتزام بما وضعته السلطات العمومية من إجراءات وتدابير وقائية واحترازية (محدودية الحجرات الدراسية، ضعف أو انعدام الفضاءات (قاعات رياضية، مسارح ..) التي من شأنها كسب رهان التخفيف والتباعد الجسدي).
آلية "التعليم الحضوري" ربطت بمدى رغبة أوليــاء أمور التلاميذ في اختيار هذه الصيغة، وهي رغبــة لا بد أن تتأسس على وعي حقيقي لا لبس فيه بواقع حال الوضعية الوبائيـة، وتقدير أي خطر محتمل على التلميذ(ة)/الابن(ة) في حالة تبني خيار "التعليم الحضوري". وإذا كانت الوزارة الوصية بل وحتى الحكومة نفسها لا تستطيع التكهن بتطورات الوضعية الوبائية وبمدى تداعيات "التعليم الحضوري" على الحالة الوبائيـة، فكيف يمكن أن نحمل ذلك لأولياء أمور التلاميذ، خاصة في ظل الفوارق الثقافية والاجتماعية والمادية والمجالية؛ فمثلا أب بائع متجول أو فلاح صغير في قرية معزولة وسط الجبال كيف نطلب منه الاختيار بين "التعليم عن بعد" و"التعليم الحضوري بشروط"؟. على الأقل الوزارة الوصية والحكومة ككل تستند في قراراتها على رأي "اللجنة العلمية" القادرة وحدها دون غيرها على تشخيص واقع حال الوضع الوبائي بالمملكة وعلى القدرة على التوقع بناء على ما بات يسجل في الآونة الأخيرة من أرقام ومؤشرات مثيرة للقلق، وبالتالي فهي (الوزارة) الأكثر "أهلية" في تبني الخيار البيداغوجي الذي ينسجم وخصوصيات هذه الظرفية الوبائية، أما إلقاء الكرة في مرمى آباء وأمهات وأولياء التلاميذ فهو محاولة لتحميلهم المسؤولية في هذه الأزمة الصحية، وليس إشراكهم في صناعة القرار التربوي.
ومن ناحية الأجرأة والتفعيل، هل يكفي لأولياء أمور التلاميذ التعبير عن الرغبة في الاختيار لأبنائهم صيغة "التعليم الحضوري" بتعبئـة "استمارة" مباشرة عبر خدمة توفرها منظومة مسار أو تعبئتها مباشرة بالمؤسسات التعليمية، أم إن المسألة تتطلب التزامات موازية مرتبطة بإخضاع أبنائهم لاختبار الكشف عن وباء كورونا المستجد "كوفيد 19"، وإذا ما كان هذا الاختبار يعد شرطا إلزاميا فمن يتحمل تكاليفه المادية، هل الإدارة أم أولياء أمور التلاميذ؟ وهل الأسر المتوسطة أو ذات الدخل المحدود باستطاعتها تحمل تكاليف أي اختبارات محتملة لأبنائها، خاصة في حالة تعدد الأبناء/التلاميذ؟.. وفي حالة إذا ما كانت هذه الاختبارات ستتحملها الأسر، وهو ما لا تستطيع تحمله، أليس ذلك إرغاما لهم على تقبل الأمر الواقع (الخضوع للتعليم عن بعد) بدون أي مساعدات أو وسائل؟.
نفترض أن كل أوليــاء الأمور اختاروا بشكل اعتباطي "التعليم الحضوري" بنسبة 80%، أو 90% منهم تخوفوا على أبنائهم واختاروا "التعليم عن بعـد"، فكيف سيتم تدبير كل وضعية على مستوى جداول حصص الأساتذة واستعمالات الزمن الخاصة بالتلاميذ وطرائق إجراء التقويمات (فروض المراقبة المستمرة)؟ وكيف يمكن تدبير حالة قسم نصفه اختار "الحضوري بشروط" ونصفه الثاني فضل آلية "التعليم عن بعد"؟، وما هي المعايير التي على ضوئها يمكن أن يشتغل الأستاذ(ة) "عن بعد" بشكل كلي أو "حضوريا" بشكل كلي أو بالتناوب؟ وإلى أي مدى يبقى الأستاذ(ة) حرا في اختيار الخيار البيداغوجي الذي يناسبه؟ أم إن "آلية الحضوري بشروط" هي التي ستتحكم في هندسة جداول الحصص (الخاصة بالأساتذة) واستعمالات الزمن (الخاصة بالتلاميذ)؟.
الدخول المدرسي، خاصة في أسابيعه الأولى، يخصص عادة للتعارف والتواصل وتحديد خطة العمل وإجراء التقويمات التشخيصية، فكيف يمكن تحقيق هذه الغايات في حالة دخول مدرسي "عن بعد"؟ كيف يتحقق التفاعل بين جماعة القسم؟ كيف يمكن للأستاذ(ة) التعرف على المواظبين والمجتهدين والمتهاونين؟ وكيف له أن يرصد المتعثرين منهم؟ وأي آلية بيداغوجية يمكن اعتمادها لتقويمهم (فروض المراقبة المستمرة)؟.
"عن بعد" و"حضوري بشروط" يجعلنا أمام بيئـة تنتج اللاعدالة وانعدام تكافؤ الفرص، خاصة في ظل الفوارق الاجتماعية والمجالية الصارخة.
لجوء الوزارة إلى خيار "التعليم عن بعد" هو خيار مبرر من الناحية الوبائية كما تمت الإشارة إليه، لكن على مستوى الواقع، لم يتم توفير البيئة المناسبة لهذا النمط من التعليم الذي يقتضي شروط الدعم والتحفيز للأساتذة (تعويضات محفزة، وسائل رقمية) والأسر (مساعدات مالية لتمكين أبنائها من الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية)، كما يقتضي رؤيـة واضحة المعالم على مستوى التدبير، وخاصة على مستوى تقويم التعلمات (سبل تقويم التلاميذ عن بعد). كما أن الرهان على "التعليم الحضوري بشروط" قد يواجه بصعوبات واقعية على مستوى الالتزام بالتدابير الوقائية والاحترازية، خاصة على صعيد المؤسسات العمومية (صعوبة تخفيف عدد التلاميذ داخل الأقسام في ظل محدودية البنيات المدرسية، صعوبة التحكم في تصرفات التلاميذ على مستوى إجراءات الوقاية والاحتراز، مدى القدرة على توفير الكمامات والمعقمات...). وفي المجمل، قد نواجه صعوبات موضوعية (خاصة في التعليم العمومي) على مستوى "التعليم الحضوري" الذي يفرض شروطا صارمة قد لا يتم الوفاء والالتزام بها بشكل كلي، كما سنواجه مشكلات على مستوى "التعليم عن بعد" في ظل الفوارق الاجتماعية والمجالية الصارخة، ورهان الحكومة ككل على التعليم "عن بعد"، كان لا بد أن توازيه إجراءات موازية (تعويضات مادية للأساتذة، مساعدة الأسر لتمكين أبنائها من الأجهزة الإلكترونية، توفير مجانية الأنترنيت للأساتذة والتلاميذ، مجانية منصات التعليم، انخراط حقيقي لمجموعة من المتدخلين في دعم تجربة "التعليم عن بعد" (شركات الاتصال، الجماعات الترابية وعلى رأسها الجهات، شركات القطاع الخاص التي تشتغل في مجال الاتصالات، الإعلام العمومي، مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين ... إلخ)).
الرهان على الخيارين معا يفترض أن يوازيــه تخفيف في الغلاف الزمني للبرامج الدراسية بالنسبة لجميع المواد والتخصصات، وهذا التخفيف لا مناص منه في هذا الظرف الخاص والاستثنائي (العبرة في الكيف وليست في الكم). وإجراء من هذا القبيل لا شك أنه سيخفف الأعباء عن الأساتذة والتلاميذ، ويتيـح للوزارة تكييف مخطط تدبير السنة الدراسية بكل يسر وسلاسة وأريحيـة حسب تطورات الوضعية الوبائيــة. ومن المخجل جدا أن يتم الاحتفاظ بنفس البرامج الدراسية والأطر المرجعية للامتحانات في ظرفية خاصة واستثنائية.
الوزارة أو الحكومة وهي تتبنى هذا الطرح الثنائي استحضرت ما تم تسجيله خلال الموسم الدراسي المنصرم (النزاع بين مقاولات التعليم الخصوصي وأولياء الأمور، جدل التعليم عن بعد) فحاولت "الموازنة بين مصالح "اللوبي الخاص" ومصالح الأسر التي خيرت بين أمرين أحلاهما مر إن صح التعبير ("الحضوري" (في ظل وضعية وبائية مقلقة) و"عن بعد"(في ظل ضعف أو انعدام الوسائل).
الحكومة حملت المسؤولية لأوليــاء الأمور، في محاولة لكبح جماح أي نزاع محتمل مع اللوبي الخصوصي أو أي احتجاج متوقع بشأن التعليم عن بعـد، فمن أراد لابنـه "التعليم عن بعد" فله ذلك، ومن اختار "التعليم الحضوري بشروط" فله ذلك، ليبقى العنصر الغائب هو "رأي التلميذ(ة)"، فماذا لو اختار الأب خيار "التعليم عن بعد" تخوفا من الحالة الوبائية، واختار الابن(ة)/التلميذة(ة) آلية "الحضوري بشروط"؟ لكن إلقاء المسؤولية على الآباء في الاختيار لأبنائهم بين "التعليم الحضوري بشروط" و"التعليم عن بعد" رأت فيه "الكونفدرالية الوطنية لجمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ بالمغرب" (بلاغ محرر بالدار البيضاء، بتاريخ 23 غشت 2020) "قرارا يراعي بالأساس مصالح بعض مؤسسات التعليم الخصوصي، ويضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص"، وهو موقف قد يضـع أولياء التلاميذ مرة أخرى في مواجهة مباشرة مع أرباب مقاولات التعليم الخصوصي التي ستستثمر دروس وعبر الموسم الدراسي المنصرم، بممارسة المزيد من الجشع والابتزاز. والحكومة وتحديدا الوزارة الوصية على القطاع لا يمكن أن تبقى على الحياد السلبي، فهي تبقى ملزمة بإعادة النظر في ما يؤطر التعليم الخصوصي من قوانين متجاوزة، بشكل يسمح بإرساء منظومة قانونية ناجعة وعادلة، قادرة على تقنين القطاع لكبح جماح بعض "تجار التربية" الذين انكشفت عوراتهم في ظل جائحة عالمية كانت تقتضي استحضار قيم المواطنة والتعاون والتضامن والتعاضد، وليــس الركوب على صهوة الجشع والإشهار المبكر لسلاح "الأزمة" ورفع مطالب التعويض.
الوضعية الوبائية أضحت مقلقة جدا، والأرقام القياسية التي باتت تسجل في عدد الإصابات اليومية المؤكدة تدق ناقوس الخطر كما ورد في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب، والرهان على آلية "التعليم الحضوري بشروط" قد يكون مجازفة مجهولة العواقب من الناحية الوبائية، قد تفرز بعض "البؤر المدرسية"، خاصة في المدن التي ترتفع فيها الإصابات كالدارالبيضاء ومراكش وبني ملال وفاس وطنجة. وهذا التوجه قد يشكل خطرا على الأطر الإدارية والتربوية، فهل استحضرت الوزارة "السلامة الصحية" لأطرها في ظل حساسية المرحلة الوبائية، خاصة أن الكثير من حالات الإصابة لا تظهر عليها أعراض؟ وما هي حدود مسؤولياتها الإدارية والقانونية في حالة إذا ما أصيب أستاذ(ة) أو إداري(ة) بالعدوى من طرف التلاميذ، ونقل العدوى إلى محيطه الأسري؟ وما هو "الإطار القانوني" الذي يمكن أن يؤطر أي إصابة أو إصابات محتملة في صفوف الأطر الإدارية والتربوية التي أصيبت داخل الفضاء المدرسي؟ وهل وضعت الوزارة الوصية في الحسبان حالة "الإغلاق الاضطراري" لمؤسسة من المؤسسات في حالة ظهور "بؤرة مدرسية" وسط التلاميذ؟ وهل استحضرت ما يفرضه ذلك من مرور سريع من نموذج بيداغوجي (حضوري) إلى آخر (عن بعد)؟ وما قد يترتب عن ذلك من تداعيات نفسية على الأساتذة والتلاميذ والأسر؟
تأجيل الامتحان الجهوي الموحد للسنة الأولى بكالوريا إلى "وقـت لاحـق"
هذا القرار تم تبريره بالوضعية الوبائية التي باتت أرقامها مثيرة للقلق، وهنا نرى أن قرار التأجيل من يوليوز إلى شتنبر(التأجيل الأول) لم يكن صائبا، وكان من المفترض إجراؤه مباشرة بعد الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا، استثمارا لما تم تحقيقه حينها من تعبئة جماعية ومن حرص على الإجراءات والتدابير الوقائية (الكمامات، المعقمات ..) ومن إعداد لجملة من المدرجات الجامعية والقاعات الرياضية التي استثمرت كمراكز للامتحان لتحقيق إجراء التباعد الجسدي واحترام مسافات الأمان، خاصة أن الحالة الوبائيـة كانت مستقرة ومتحكما فيها. وهذا التأجيل الثاني لم يقدر حجم ودرجة التداعيات النفسية والصحية على المترشحين (تلاميذ السنة الأولى بكالوريا) الذين عاشوا سنة دراسية مسترسلة منذ شتنبر الماضي (2019)، وحتى العطلة التي يفترض أن تكون للراحة والاستجمام استعدادا لموسم دراسي جديد، تم استثمارها للإعداد الجيد للامتحان الجهوي الذي كان مبرمجا خلال الأسبوع الأول من شتنبر (2020) قبل أن يتم إعلان تأجيله على بعد أقل من أسبوعين من موعد إجرائه إلى أجل "غير مسمى". وهذا التأجيل، سيفرض عليهم الدخول في سنة دراسية جديدة في ظل مستوى إشهادي جديد (الثانية بكالوريا)، وفي نفـس الآن، يحملون هم وثقل وهاجس الامتحان الجهوي الموحد. وهذا الوضــع ستكون له، ولا شك في ذلك، آثارا نفسية وصحية، ما قد ينعكس سلبا على مستوى "الجاهزية" لهذا الاستحقاق الجهوي (نفسيا ومعرفيا) الذي يمثل ما نسبته 25% من المعدل العام للبكالوريا. قد نتفهم التأجيل لأسباب وبائية، لكن يصعب تفهم فتح "إمكانية التعليم الحضوري" ما دامت الأسباب الوبائية واحدة، دون إغفال معطى موضوعي آخر يرتبط بالامتحانات الجامعية ( الدورة الربيعية) المرتقب إجراؤها في غضون مطلع شتنبر المقبل، والتي ستضع الوزارة الوصية على القطاع أمام اختبار ثان بعد استحقاق البكالوريا، سيتجدد معه الرهان في أن تمر هذه الامتحانات في أجواء عادية ودون أي تداعيات وبائيــة؛ وبالتالي كان من الصعب تدبير الامتحانات الجامعية والامتحان الجهوي في نفـس الآن، ما يؤكد مرة أخرى أن قرار تأجيل "الجهوي" لم يكن موفقا، مع الإشارة إلى أن مجموعة من الأساتذة الذين درسوا السنة الأولى بكالوريا (علوم، آداب) خلال الموسم الدراسي المنصرم سيكونون مضطرين من ناحية "المبدأ" و"الالتزام" لمواكبة تلاميذهم "عن بعد" والإجابة عن تساؤلاتهم واستفساراتهم، ومدهم بالتعليمات والتوجيهات الضرورية إلى حين اجتيازهم للامتحان الجهوي. وفي جميع الحالات فالوزارة مطالبة بتوضيح رأيها بخصوص مستقبل الامتحان الجهوي الموحد، إما بإلغائه واعتماد نقط المراقبة المستمرة ومعدل الامتحان الوطني بالتساوي (في حالة تعقد الوضعية الوبائية) أو الإعلان الصريح عن موعد إجراء الامتحان، لتحرير التلاميذ من حالة القلق والتوتر والترقب والانتظار.
يمكن في أي محطة من الموسم الدراسي 2021-2020، وفق تطــور الوضعية الوبائيــة ببلادنا، والتغيرات التي قد تطـرأ عليها مستقبلا، تكييــف الصيغة التربوية المعتمـدة على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الجهوي بتنسيق مع السلطات المحلية والصحيــة:
وضعت الوزارة الوصية على القطاع "ثلاث فرضيات" لتدبير الموسم الدراسي مرتبطة بالأساس بتطور الوضعية الوبائية بالمملكة، ترتبط الأولى بتوقع تحسن الحالة الوبائية والعودة التدريجية للحياة الطبيعية، بشكل يسمح بالمرور إلى "نموذج التعليم الحضوري" بشكل كلي، والثانية ذات صلة بوضعية وبائية في تحسن، وتستدعي المزيد من التقيد بالشروط الوقائية والاحترازية، وهي وضعية تنسجم وآليـة "التعليم بالتناوب" في إطار رؤية بيداغوجية تجمع بين "الحضوري" و"الافتراضي" (عن بعد)؛ فيما توازي الفرضية الثالثة وضعية وبائية متفاقمة وغير متحكم فيها، تفرض الاعتماد بشكل كلي على صيغة "التعليم عن بعـد"، وهي فرضيات لا شك أنها ستضعنا أمام سنة دراسية على وقع الارتباك وعدم الاستقرار والتوجس والقلق والانتظار، لارتباطها بأرقام ومؤشرات وبائية من الصعب التكهن بها في المدى القريب والمتوسط. لكن الرؤية لا يمكن أن تكون حاملة لمشاهد الغموض والضبابية والإبهام، فالوزارة ملزمة بوضع عتبات على امتداد الموسم الدراسي (العطل البينية)، تسمح بتشخيص وتقييم الوضع بما يتيح فرصة اتخاذ قرار المرور إلى مرحلة ثانية (التناوب بين "الحضوري" و"عن بعد" مثلا) أو البقاء في نفس المرحلة (عن بعد مثلا) حسب تطورات الوضعية الوبائية، لأننا أمام مجتمع مدرسي وإيقاعات تعلم وحياة مدرسية، من الصعب التحكم في إيقاعاتها عبر "قرارات فجائية" يتم الكشف عنها في "الوقت بدل الضائع".
في جميع الحالات، فالقرار الوزاري أثار زوبعة من الجدل واللغط والاحتجاج متعدد المستويات، ومهما اختلفت التبريرات أو تباينت المؤاخذات، فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، أن "الدخول المدرسي المرتقب" سيكون حاملا لمشاهد اللخبطة والتردد والقلق والترقب لاعتبارين اثنين، أولهما: تفاقم الوضعية الوبائية في ظل الارتفاع المهول في عدد الإصابات المؤكدة والوفيات، وثانيهما: اعتماد "آلية التعليم الحضوري بشروط"، التي حملت الأسر ما لا طاقة لها به، ما سيفرز مشكلات وإكراهات عملية على مستوى تطبيق هذه الآلية التي رأى فيه الكثير إرضاء واضحا لمقاولات التعليم الخصوصي. ونرى أنه كان من الأرجح اعتماد "التعليم عن بعد" بشكل كلي، انسجاما مع واقع الحالة الوبائية التي باتت صعبة ومقلقة، وتناغما والفرضيات الثلاث التي وضعتها الوزارة الوصية (حالة وبائية متفاقمة يوازيها تعليم عن بعد) أو اللجوء إلى خيار "تأجيل الدخول المدرسي" في انتظار أن تتوضح صـورة الحالة الوبائية بالمملكة، أو تكييف السيناريوهات البيداغوجية حسب الخصوصيات الجهوية والمحلية (تعدد النماذج البيداغوجية حسب الخصوصيات الوبائية على مستوى الجهات والعمالات والأقاليم). والوزارة الوصية على القطاع لا بد لها أن تستحضر ما أثاره قرارها من جدل ورفض واحتجاج، وتقدر تداعيات ذلك على الدخول المدرسي وعلى السنة الدراسية برمتها، بأن تراهن على المزيد من التواصل وعلى خلق نقاشات جادة ومسؤولة مع مختلف الفرقاء الاجتماعيين (النقابات) والتربويين (جمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ ..) وعلى الخبراء والمفتشين التربويين والأساتذة، من أجل بلورة مقاربة شمولية "متفق عليها"، تضمن دخولا مدرسيا "آمنا" و"سلسا" وسنة دراسية بأقل الأضرار.
ونختم بالقول إن الشأن التربوي ليس شأن وزارة أو حكومة، بل هو "شأن مجتمع" و"شأن دولة"، لذلك لا مناص من الرهان على بناء الإنسان/المواطن التي تعول عليه الدولة اليوم لكسب رهان "معركة كورونا"، وهو بناء يمر قطعا عبر منظومة تربوية عصرية وعادلة ومنصفة ومبدعة، تعيد الاعتبار لمن قيل فيه: كاد المعلم أن يكون رسولا ...