عاهات العقل العربي، على تنوعها، لا يمكن حصرها في آفات محددة. كثيرة هي ومتداخلة مع بعضها تزيد من تعقيد الوضع؛ مما يصعب من مهمة تشريحها أو محاولة الخوض والمغامرة في السعي إلى حلول، لأن تلك الشخصية العربية غامضة وتتعايش فيها المتناقضات إلى حدود تبني الشيء وتبني نقيضه بحسب الأهواء والظروف. وهنا، تكمن الكارثة في صعوبة تحديد العقل العربي.
من عاهاته أنه عقل انفعالي يقول ما لا يفعل، ويتحدث كثيرا ولا يترجم كلامه على أرض الواقع. عقل تتحكم فيه العواطف والأهواء ويهتز بتلقائية لكل الخطب المدغدغة للمشاعر. عقل لا يؤمن ولا يقبل بالنقد الذاتي؛ ولعل هذه هي أم العاهات، وهو بذلك يجيز لنفسه ما لا يجيزه لغيره. فهو على صواب وغيره مخطئ، وما يراه هو الحقيقة التي ما بعدها حقيقة والبقية في ضلال مبين. وإن دخل في حوار لا يدخله إلا بالصراخ وبالسب والشتم. حوار العرب هو ألا يسمع أحدهما الآخر تجدهم في حالة هيجان مثلهم في ذلك كمثل الثور الإسباني الهائج. بينما أدب الحوار، وأعني الحوار المتحضر، هو أن نرهف السمع ونصغي جيدا لبعضنا.
ولو استحضرنا هذه العاهات، وفي مقدمتها النقد الذاتي، لكي نعكسها على الجدل القائم حول الخطوة التي أقدمت عليها القيادة الإماراتية نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، نلاحظ أن ردة الفعل حيال هذه الخطوة كانت عبارة عن حالات انفعالية مليئة بالسب ومليئة بالشتم. وهذا الأمر ليس غريبا على العقلية العربية التي ألفت الهجاء في معلقاتها وفي شعرها من زمان يعود إلى العصر الجاهلي ومرورا بالعصر العباسي والعصر الأموي من أمثال الفرزدق وجرير بن عطية الكلبي والحطيئة وعلي بن العباس بن جريح الرومي. إنه إرث كبير من تاريخ السب والشتم، وهو إرث ما زال حيا يرزق في العقلية العربية الراهنة.
وحاولت أن أفتش عن الانتقادات التي جوبه بها الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي لم أجد فيها على الإطلاق أي انتقاد موضوعي سوى انتقادات أكل عليها الدهر وشرب؛ من قبيل التخوين والجبن، ومن قبيل الكلام الفارغ المليء بالعنتريات التي تثير الاشمئزاز والغثيان. والمعارضون يتوعدون باللغط إسرائيل بالزوال. وما لفت انتباهي هو أن أصحاب القضية وهم الفلسطينيون تصدوا إلى هذا الاتفاق بكونه خيانة كبرى وطعنة للقضية. والمثير للاستغراب هو الكلام الذي جاء على لسان أمين سر اللجنة التنفيذية السيد صائب عريقات، في سياق حديثه عن هذا الاتفاق. وبعد أن وصفه بالخيانة والطعنة، كشف عن ذلك المستور لدى القيادة الفلسطينية حينما قال: "لم نفاجئ بخطوة الإمارات؛ لأنها، منذ عام 2014، أوقفت مساعداتها المالية للفلسطينيين".. وربما كان قصده للقيادة الفلسطينية، بدليل أن تلك المساعدات وغيرها كانت تعرف طريقها إلى كل الجيوب ما عدا جيوب الشعب الفلسطيني؛ منها أنه بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات كانت زوجته سهى أعدت العدة منذ وقت مبكر لتفتح بتلك المساعدات حسابات لها في البنوك الغربية باسمها وباسم ابنتها الوحيدة بمليارات الدولارات حتى أضحت البنت من أغنى البنات في العالم، وهي حاليا تتمتع بعيشة هنية في قصر من قصور باريس. وكيف يحق للسيد صائب عريقات أن يلوم الإمارات بإيقاف مساعداتها.
وفي باب التطبيع من يلقي باللوم على دولة الإمارات العربية المتحدة عليه أن يعلم بأن من كان بيته من زجاج فلا يضرب الناس بالحجارة. ثم إن الادعاء بأن ما قامت به دولة الإمارات فهو خيانة وخروج عن الصف العربي، فهو ادعاء مردود عليه من خلال النهج الذي تتبعه القيادة الفلسطينية نفسها. وفي هذا الصدد، نستحضر الانزلاق الخطير الذي أبانت عنه تلك القيادة بعزل نفسها عن الوفد العربي الذي كان يتفاوض مع إسرائيل في مؤتمر مدريد للسلام لتفتح في غفلة من الجميع مسارا سريا مع إسرائيل في أوسلو. وكانت القيادة الفلسطينية سببا في انفراط العقد العربي مما جعل حافظ الأسد يفتح من جهته الباب على مصراعيه في التفاوض مع إسرائيل، وكذلك الأردن في وقت لاحق انتهى بإبرام معاهدة وادي عربة مع إسرائيل عام 1994.
ولذلك، نتساءل إذا كان العقل العربي قائما على النقد الذاتي، فإن القيادة الفلسطينية هي التي يجب أن تحاسب على هذه الأخطاء التاريخية وقبلها حينما رمى الفلسطينيون الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة بالبندورة على وجهه بعد أن نصحهم في أريحا بقبول قرار التقسيم الأممي عام 1947. ويا لها من سخرية القدر إنهم اليوم يبحثون عن موطئ قدم فلن يجدوه. ومن حسرتنا نلقي عليهم باللوم من دون أية شماتة، إيمانا منا بأن القضية عادلة وقضية إنسانية؛ ولكن من يتولاها جعل منها أصلا تجاريا.
إلى جانب هذا التفكير الميركانتيلي في السياسة بل وفي قضايا مصيرية تهم الشعب الفلسطيني، الواقع يشير إلينا بأن القيادة الفلسطينية التي تلوم دولة الإمارات العربية المتحدة، يجب أن تلوم نفسها قبل أن تلقي اللوم على غيرها. ونحن في الصدد، لا نطلق الأحكام على عواهنها بل من أرض الواقع ومن كوننا عشنا الحدث ولم نقرأه في الجرائد أو الكتب كبعض المهرجين. وهذا الواقع يبرز بكل وضوح أن العديد من الشخصيات الفلسطينية تقتات من علاقاتها مع إسرائيل ولها مشاريع مع ما يسمى بالعدو من قبيل مصانع الإسمنت والتجارة في الوقود في غزة والضفة وفي مواد التموين بتراخيص حصرية إما باسم تلك الشخصيات او بأسماء أبنائها أو بأسماء تجار وضعوا في الواجهة، ونحرص على عدم ذكر الأسماء.
والمفارقة، التي يستعصي فهمها من قبل الواهمين والغارقين في الأحلام بالشعارات الفارغة، هي أن العديد من تلك القيادات تخرج علينا في النهار بتصريحات نارية ضد إسرائيل وحينما يسدل الليل ستاره يسدل الستار كذلك على تلك التصريحات ويبدأ المجون في ملاهي تل أبيب وتقرع كؤوس النخب على جثامين الشعب الفلسطيني الجريح. إنه نضال من صنف آخر. "والفاهم يفهم".
عليهم كذلك أن يلقوا باللائمة على أنفسهم قبل إلقائها على دولة الإمارات. يتهمونها بالتطبيع فإذا هم المطبعون الأولون. فلماذا لا يلام الفلسطينيون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويشاركون بموجب القوانين الإسرائيلية في الانتخابات البلدية والتشريعية. ولمن أراد أن يعلم من دون أي انفعال، إن عدد أعضاء الكنيست من الفلسطينيين في البرلمان الحالي هو 20 عضوا أغلبهم مرشحين من القائمة العربية المشتركة. هؤلاء الأعضاء يقفون إجلالا واحتراما للنشيد الوطني الإسرائيلي حينما يعزف في الكنيست أو خارجه، وكذلك كان يفعل الأستاذ عزمي بشارة أبو القوميين حينما كان عضوا في البرلمان الإسرائيلي.
وتضم هذه القائمة عربا ينتمون إلى أحزاب يهودية؛ من بينهم النائب حمد عمار من حزب "إسرائيل بيتنا"، الذي يقوده اليهودي المتطرف "أفيغدور ليبرمان". وبقية الأعضاء العرب هم: عيساوي فريج من حزب ميريتس، طالب أبو عرار من القائمة العربية الموحدة، زهير بهلول من حزب العمل، باسل العطاس من التجمع الوطني الديمقراطي، مسعود غنايم من القائمة العربية الموحدة، يوسف جبارين من القائمة المشتركة، عبد الله أبو معروف من القائمة المشتركة، أيمن عودة من القائمة المشتركة، أسامة السعدي كذلك من القائمة نفسها، أحمد الطيبي من التجمع الوطني الديمقراطي كان في الوقت نفسه مستشارا للرئيس عرفات، عايدة توما سليمان من القائمة المشتركة، عبدالحكيم الحاج يحيى، جمال زحالقة من التجمع الوطني الديمقراطي، وأخيرا حنين زعبي من التجمع نفسه.
وهكذا يبدو أن ما قامت به دولة الإمارات العربية المتحدة من خطوة تجاه إسرائيل لا يرقى إلى مستوى التطبيع الذي اعتاد عليه الفلسطينيون في تعاملهم مع الكيان الإسرائيلي، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. إخفاء الشمس بالغربال لم يعد له مجال في عالم التكنولوجيا الحديثة. الكل بات تحت المجهر. ويسألونك عن العمى قل لهم: عميت أفئدتكم ولو كان بصركم من حديد.