"أحداث هذه القصة خيالية لا تمُتُّ إلى الواقع بِصِلَة"... أبعد مصطفى أصابعه عن لوحة المفاتيح، وابتسم كعادته كلما كتب هذه الجملة.
مِن هنا بالضبط، تَولَّد شغفه بالقراءة وبعدها إلى الكتابة. وهو طفل صغير كان يُجَنُّ حين يقرأ "لا تَمُتْ إلى الواقع بَصَلَة"، وكان يتساءل عنِ العلاقة بين قصص بسيطة و"البصل"، ثُمَّ كيف تموت البصلة. وتزداد حيرته وهو يُتِمّ باقي الجملة "وأي تشابه بينها وبين الواقع هو من قَبْلِ الصَّدَفَة". كان يُعاني عندما يُتِمّ القراءة دون أن يجد بصلاً ولا صَدَفَةً، ويمنعه الخجل أن يسأل أحداً من الكبار...
الآن، بات مصطفى مغرماً بالقراءة، ومن حين إلى آخر ينشر بعض القصص القصيرة المستمدة جلها من أحداث واقعية، على أن يستهلها دائما بالجملة إياها.
أحس مصطفى بنوع من الراحة الممزوجة باسترخاء تام، وشتَّان بين مصطفى الذي تراه الآن والذى كانَهُ في الصباح.
…
- هل أنت على ما يُرام...؟ سألتْ ماري...
بدا أن العصب السمعي، أو ما يُعرف بالعصب الدهليزي القوقعي، عند مصطفى وكأنه زُقاق مزدحم في حي شعبي حيث الحُفر والمطبّات، والباعة المتجولين، وبعض المتسولين، لذلك وصل صوت ماري مشوّه المعالم، واستطاع بالْكاد أن يُرجِعه إلى زمكانيَّته. استفاق مصطفى من سرحانه، فوجد نفسه خارج مركز تحاقن الدم التابع لجامعة مونتريال، ورأى عينين مُبتسمتين متجهتين نحوه.
ـ هل اكتشفوا أنك مصاب بالسيدا؟ سألته الكندية الشقراء...
ابتسم بِتصَنّع وأجابها: "ليس بعد"..
- لا تيأس، ردَّتْ ماري بنصف ابتسامة...
وحين يمشي مصطفى بجانب ماري دون أن يتكلم فالأكيد أن ما يشغله أمر جلل. فهو يعشقها بجنون، بساطتها، ضحكاتها، إصرارها على مساعدته، طريقتها اللذيذة في النطق ببعض الكلمات العربية، كل ذلك وغيره يجعله لا يتردد في وصفها بالملاك.… وعندما تحلو له الدندنة بأغاني مارسيل خليفة، تجده يبدل كلمة "رِيتا" فيغني: "اسم ماري كان عيداً في فمي، جسم ماري كان عرساً في دمي… والمدينة كنَّست كل المغنين … وماري"..
ولولا إلحاح تلك المجنونة الرائعة ما كان مصطفى ليأتي إلى هذا المركز اللعين؛ فهو لا يعرف أين يوجد مركز تحاقن الدم في مدينته الأصلية، ولم يسبق له ولا لأي فرد من عائلته أنْ مارس ذلك السلوك البورجوازي المسمى بـ"التبرع بالدم".
......
ـ هل أنت من مواليد كندا؟ سأل الممرض المكلف بأخذ الدم.
ـ ويحك، هل هذه سُحْنة واحد من مواليد كندا، قالها مصطفى في نفسه، ثم أجاب: كلّا أنا من "طِرّا دِي سابيا" terra di sabbia. (وتعني بالإيطالية أرض الرمال).
ـ من أي مدينة بالضبط؟
– المَنارة.
تفحص الممرض إحدى اللَّوائح على مكتبه، ثم قال وكأنه إنسان آلي ودون أن تشي ملامحه بأي إحساس: آسف، لا يمكننا قبول دمك.
ـ هل لي أن أعرف السبب؟
ـ طبعا هذا مِن حقك…
مدَّ الممرض ورقة صغيرة مكتوب فيها العنوان الإلكتروني للمؤسسة المسؤولة عن تدبير كل ما يتعلق بتحصيل الدم وتخزينه على مستوى مقاطعة كيبيك، وتسمى هيما كيبيك Hema quebec
ثم استرسل قائلاً: ستجد عشر مدن في العالم لا نقبل دم الأشخاص المولودين فيها، ولكل مدينة سببها الخاص. بالنسبة لمدينتك، أعتقد أن للمسألة علاقة بِنشاط منجمي هناك. لا يمكنني أن أقول أكثر من هذا، ستجد كل التفاصيل في الموقع.
أخذ مصطفى الورقة وهو يهُزُّ رأسه، ابتسم بصعوبة، شكر الممرض هامسا دون أن ينظر إليه ثم انصرف.
أول سؤال خطر بباله: هل أخبر ماري أنهم لم يقبلوا دمي لأني ولدت في مدينة منجمية اسمها "المنارة"؟ هل ستعاقبني هي الأخرى على هذا الجرم؟ ثم أخذت الأسئلة والتساؤلات تتناسل... وانهمرت السيناريوهات…
....
- اسمحي لي بالانصراف سأمتطي الميترو للذهاب إلى المنزل… قال مصطفى.
- طبعا لا مانع، هل أذَكِّرك بعنوان بيتك، أخشى أن تكون نسيته…
هذه المرة ابتسم وابتسمت كل عضلات وجهه، وابتسم قلبه…
- انتبه، النزول عند محطة جون طالون… أضافت ماري متصنِّعة الجدِّية في ملامحها...
قبْل أن يبتعد عنها أشار لها بإبهامه وهي تحيَّة يذَّخرها مصطفى للمقرَّبين… وبِعينيْه قال لها جملة صغيرة ومركّزة، ربما قال لها: "شكرا ماري"، أو لعله قال: "ما أروعك"… أو ببساطة أسرَّ لها: "أحبك"…
في الميترو، حاول مصطفى أن يهدأ ويرتِّب أفكاره... أخرج الورقة من جيبه الخلفي وأخذ يتأملها...
المنارة أمي، إن غابت أمي…المنارة الوطن المنسي… الزهرة والطلقة والعاصفة الحمراء… من لم يعشق المنارة فليدفن نفسه في الرمضاء… دندنة أخرى كان مصطفى يستأنس بها حين يداهمه الحنين…
كما سمعتم من مصطفى، فبلده الأصلي هو "أرض الرمال "، وهي مستعمرة إيطالية كانت تسمى بـ"أرض الأحرار "، لكن الاستعمار له رأي آخر.
أما بالنسبة لمدينة "المنارة" فهي العاصمة الاقتصادية والقلب النابض للبلد. قِلّة مِن الجيل الجديد من يعرف أن اسم المدينة لا علاقة له بالمنارة الكبيرة الموجودة في فيناء ضريح الولي الصالح سيدي بلْعيد الغَربي. إنما هو تحريف لكلمة La miniera والتي تعني بالإيطالية المنجم. ولولا المنجم ما كانت إيطاليا لِتُرسل جنديا واحدا إلى هناك.
وبالموازاة مع استغلال المنجم، حاول الاستعمار التقرب إلى الزاوية فخصص لها العطايا وبَنى في فنائها تلك المنارة التي أضحت مَعلمَة المدينة.. في المقابل أصدر شيخ الزاوية فتاوى عديدة تحرم قتال الإيطاليين. فتارة كان يصف الاستعمار بأنه قدر ربّاني لا يجوز الاعتراض عليه، وحينًا كان يتكلم عن اتفاقيات وعقود بين إيطاليا وأولي الأمر في البلد، وعلى المؤمنين الوفاء بالعهود. وبِصفة عامة، كان الشيخ يحضُّ المريدين على عدم الخوض فيما لا يعنيهم، وكان يعني كل ما هو سياسي، فكانت الجملة الشهيرة التي ما زالت الألسن ترددها هناك: "من السياسة ترْكُ السِّياسة".
ولكن ذلك لم يمنع الزاوية، أثناء الحرب العالمية الثانية، أن تشجع المريدين على القتال بجانب الجيش الإيطالي، وأوحت إلى الناس بأن إيطاليا المؤمنة بالله تعرضت لهجوم من السوفيات الملحدين. فتم الزجُّ بالبسطاء في معارك لا تَعنيهم، وكان من هؤلاء جد مصطفى من أمِّه.
وبعد الحرب ارتأت إيطاليا أن توكل إدارة الأمور "في طيرّا دي سابي" إلى أطر محلية، فكانت معاهدة "فك الارتباط الإداري المباشر"، و التي تم تسويقها داخليا تحت يافطة "اتفاقية السلام والاستقلال". وهكذا، بات الاسم الرسمي للبلد هو "جمهورية طِرّا دي سابي العربية الديمقراطية". ولا غَرْوَ إن كان أوّل ما قامت به الإدارة المحلية هو ترميم ضريح سيدي بلعيد بما فيه المنارة. وقد حرصت السلطات الجديدة على أنْ تبْصمَ المكان بالطابع المعماري التقليدي، وهو ما استحسنه جل المواطنين.
هناك رأى مصطفى النور، في حي شعبي، رابع ثلاثة من أسرة متواضعة. كجُلِّ سكان المدينة، كان الحاج علال، أبو مصطفى، يشتغل بـ"الشركة"، كلمة لها هالة ومعنى شبه أسطوري في البلد بِرُمّته. واسمها الحقيقي "الشركة العالمية للمناجم".. لا أحد هناك يعرف أو يريد أن يعرف شيئاً عن أصحابها. كل الذين تناوبوا الجلوس على كرسي الحكم في البلد مرتبطين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالشركة... جل أنشطة المدينة، بل الدولة كلها، تستمد وجودها من الشركة. ثمة تماهٍ بين الدولة والشركة، ولا أحد يعلم أين تتوقف إحداهما لتبتدئ الأخرى. الجميع تواطأ على ألا يتكلم في هذا الموضوع، ألم أقل لكم إن الشعار كان ولا يزال: "من السياسة ترك السياسة".
خِلاف إخوته الذين كانوا يُمَنُّون أنفسهم بمنصب ما في الشركة، كان مصطفى يحلم بالهجرة إلى هناك… في فصل الصيف، كان أبناء خاله يشعلونها نارا في نفسه حين يزورونهم. كان مصطفى يتابعهم بإعجاب وهم يتحدثون فيما بينهم بالإيطالية وكم كان يستمرئ لكنتهم العربية المتكسرة… كان وهو صغير يترجى الأقدار أن ترسله إلى روما ويتكلم العربية بنفس "الغنج"...
والغريب هو أنه مع مرور الوقت، وبفضل كثرة المطالعة، صار مصطفى متفوِّقا في العربية. كما طوَّر مهارة لا بأس بها في الإنجليزية ابتدأت بالأفلام الأمريكية ثم انتقلت إلى شكسبير وهمنغواي، مقابل ضعف في الإيطالية وجهل شبه كامل باللغات الأُخرى. وكانت لمصطفى نقطة قوة أخرى تتجلى في رياضة الكراطي. الفضل يعود إلى جاره رضوان، صاحب النادي المجاور. أربعيني حائز على الحزام الأسود الدرجة الرابعة، حُرِم نعمة الأولاد، فكأنه صار أبا لكل أطفال الحي؛ لكنه اختص مصطفى باهتمام أكثر. لا غرابة، إذن، أن ينال هذا الأخير حزاما أسودَ في زمن قياسي. فكانت الألقاب والميداليات. وكانت جولات مع النادي داخل الوطن، وملتقيات دولية خارجه…
عكس ما ظن الجميع، بمن فيهم مصطفى نفسه، لم يكن فيروس الهجرة جُزءًا طريفاً من الماضي؛ بَلْ كان في حالة كمون وتربص. حالة لم تستطع باريس ولا مدريد ولا دبي أن تكشف عنها. ولم يتحرك الجني إلا في مونتريال… لم يكن مصطفى مضطراً لابتكار سيناريو هوليودي للبقاء في مونتريال، فَعلها الكثيرون قبله وسيفعلها آخرون بعده. تختفي قُبَيْل العودة، يرحل الفريق بدونك، وفي الغد تبدأ إجراءات طلب اللجوء، لجوء اقتصادي بثوب سياسي. كان لا بد من المرور عبر بعض المساحات الرمادية، فكان العمل ليلا دون ترخيص... لكنه سرعان ما حصل على إِذْن خاص بالدراسة، فوَثيقة الإقامة، فمنحة للدراسة... فماري… وها هو الآن يدرس الإعلاميات في مدرسة البوليتكنيك. أما الكراطي فيمارسه من حين إلى آخر فقط من أجل الحفاظ على اللياقة حسب قوله..
شقة مصطفى تتكون من غرفة واحدة بسيطٌ أثاثها. أهم ما يميزها هي الفوضى وأكوام الملابس وبعض كؤوس القهوة هنا وهناك… وسط هذا العبث، تتفاجأ بسَطْر من الحواسيب: سبعة أو ثمانية حواسيب، طبعا اشتراها من إحدى محلات الأدوات المستعملة، ناهيك عن حاسوبين محمولين.
والحال أن الوضعية المالية الحرجة جعلت مصطفى يهتم بسوق العملات الدولية. لِنَقُل إنه ضحية ذلك القصف الدعائي الذي تمارسه شركات الفوركس عبر الأنترنيت، إذ لا يكاد يفتح موقعاً إلا وتصطدم عيناه بـ"أصغر مليونير عربي " أو "تعلم كيف تصبح مليونير وأنت في بيتك" وغيرها من الدعايات التي تبشرك بالثراء السريع. ولكونه غير مستعد لأي خسارة، فمصطفى لم يفتح إلى حد الآن أي حساب حقيقي، إذْ إنَّ حساباته الستة كلها تجريبية، وكلها مدججة بترسانة من برامج التداول الآلي. ويطمح مصطفى إلى أن يُطوِّر برنامجا شخصياً للتداول الآلي ذا مردودية معقولة، والعُهدة عليه. ويبدو أن إلمامه ببعض البرامج ساعده كثيرا على التشبث بحلم "التريدر" المحترف الكسول. ويبدو أنه فيروس آخر حمله مصطفى معه من بلده الأصلي واسمه: الرغبة في الربح السريع بأقل جهد.
لا ينكر أحد أن مصطفى أضحى خبيراً، ولو نظرياً، في مجال العملات الدولية، والدليل هو أنه أصبح محجاً لكلّ صديق يوَدُّ إرسال أو استقبال النقود من الخارج؛ فإما يشجعهم على الإسراع أو ينصحهم بالتريث، حسب رؤيته لسوق العملات. كما أنه، وعلى غرار المهنيين المحترفين، كان يترقب خطابات رئيس البنك المركزي الأمريكي بحماس، ولا يتوانى عن وصفه بأقوى رجل في العالم. فالعالم بأسره، حسب مصطفى، يكون في حالة خشوع عند سماع خطاب هذه الشخصية التي تؤثر بطريقة مباشرة على كل بورصات العالم.
طفولة مصطفى، تجاربه، أحلامه، تعلقه بماري وأشياء كثيرة أخرى تجعل التنبؤ بما يجول في دماغه أمرا مستحيلاً. أما الآن فأقسم بأغلظ الأيمان أن كل ما يهمه هو الموقع الإلكتروني، والذي من المفترض أن يشبع فضوله، ويجيب على تساؤلاته...
"من السياسة ترك السياسة"، لا يدري مصطفى لماذا خطرت على باله هذه اللازمة… هل عاش آباؤنا وعشنا من بعدهم تحت تأثير غسل ممنهج للدماغ؟ لماذا لم ينبري أحد من مثقفينا، وُعَّاظُنا أو أطباؤنا ليجعلونا فقط نتساءل هل توجد نسبة واحد في المليون من إمكانية تأثرنا بالعيش داخل منجم؟
من عادة مصطفى أن لا يفارق حاسوبه المحمول؛ لكنه اليوم كان يفكر في الذهاب مع ماري إلى إحدى البوفيات الرخيصة، بعد الانتهاء من بِدعة التبرع بالدم. لذلك، ارْتأى ألا يحمله.
ما إن فتح الباب حتى مسح المكان بعينيه بحثا عن ابنه، كما يحب أن يسميه. انقض عليه، فتحه بسرعة، شغَّله، وأخذ ينتظر بعصبية تلك الثواني وتلك الرنة التي تنبئك بجاهزيَّة نظام "الوندوز" والذي من المفترض أن اسمه بالعربية النوافذ… أدخل اسم الموقع: https://www.hema-quebec.qc.ca
ـ تباً … قال مصطفى... طوفان من المعلومات...
حاول مصطفى أن يركز أكثر... قرأ أسماءً لأمراض لم يسمع عنهاChagas , Zika ....
ولكن أين هي المدن التي أخبرني عنها الممرض... أين المنارة...
ازداد تركيزه حين قرأ هذه الجملة :
Vous serez exclu du don de sang de façon permanente si :vous avez séjourné cumulativement six mois et plus en Arabie Saoudite entre le 1er janvier 1980 et le 31 décembre 1996 inclusivement;
أعاد مصطفى قراءة الجملة... خمَّن بأن الأمر لا يتعلق بالنشاط المنجمي لأن المدَة محصورة بين سنة 1980 و1996... والسعودية لا تزال تنتج البترول. كما أنه لا علاقة للبترول مع المنجم الذي وُلد فيه...
المنارة أمّي إن غابت أمي... المنارة الوطن المنسي... المنارة الوطن المسبي...
مرّتْ أكثر من ساعة ومصطفى يبحث عن "المنارة" في الموقع ولا منارة...
أحس مصطفى بتشوّش في دماغه، فكر في الاتصال بالرقم المكتوب في الموقع؛ لكنه فضَّل أن يتريث قليلاً.
تعلم مصطفى من الكراطي أن القدرة على التحكم في النفس هي الفيْصل بين الرياضي المحترف وغيره، وقد جرب هذا الأمر في مواقف عديدة سواء داخل الحلبة أو خارجها. كما علّمته مدْرَسته ومُدرِّسته ماري أن "لا شيء يستحق…" وأن أهم وسيلة لحل المشاكل هي الضحك عليها.
وإن كان مصطفى قد أقسم على نفسه ألا يقرب المنشطات، فيبدو أن مجرد تَذَكُّر ماري له مفعول كيلوغرام من البانترازول والبيرادول التي تستعمل كمحفزات للجهاز العصبي.
"اسم ماري كان عيداً في فمي، جسم ماري كان عرساً في دمي… والمدينة كنست كل المغنين.. وماري"… هكذا دندن مصطفى، قبل أن يتوقف… من عادته، في مثل هذه الحالة، أن يستغيث بكأس من القهوة دون سكر. لكنه هذه المرة فضّل ألا يبتعد عن حاسوبه.
قرر أن يتوقف مؤقتا عن عملية التنقيب... مصطلح خليق بمن ولد في المنجم...
فتح صفحة "الوورد" وطفق يمرر أصابعه على لوحة المفاتيح كأنه عازف بيانو. على الرغم من أن مصطفى يدرس الإعلاميات بالفرنسية، فإنه استطاع أن يُطوِّع أصابعه على لوحة المفاتح بالعربية، وهو ما يثير استغراب زملائه…
وكأن جنّا تلبَّسه، وكأنه يخشى أن تضيع منه التفاصيل، انهمك مصطفى يكتب بسرعة… لم يكن متأكدا ماذا يكتب بالضبط، قصة قصيرة، رواية، أم مجرد خواطر… كل ما في الأمر أنه استعمل ما وقع له في مركز تحاقن الدم، بل وما عاشه في جمهورية "الشركة". كتاباته غالباً ما تكون حبلى بإيحاءات تاريخية وأحداث واقعية من هنا وهناك، يُغَيِّر بعض الأسماء حينا ويعفو عنها أحياناً. لا يشك أحد في قدرته العجيبة على الخلط بين الواقع والخيال، لا جرم أنه معجب بالساحر دان براون صاحب "الرمز السري" و"شفرة دافينتشي" و"الجحيم"..
يُبرِّر مصطفى طريقته في الكتابة بكونه يفضِّل أن يحرر كتاباته من سطوة السياسة أو ما يسميها بدكتاتورية اللحظة. والحال أنه يمارس نوعاً من التَّقية، ترعرعت ونمت في ظل "دولة الشركة".
أخبرني مصطفى ذات مرة بأنّه سمع المرحوم المهدي المنجرة يبرِّر بعض "مبالغاته"، معتبراً أن الأمر يشبه الصواريخ الباليستية، حيث يجب إضافة 5 في المائة من الطاقة لامتصاص الاحتكاك ومقاومة الهواء؛ لكني أحيانا أخال أن مصطفى يتعدى "هامش المهدي المنجرة"... على العموم، ذلك خياله، فلْيفعل به ما يشاء..
بدا ما يكتب وكأنها قصة...
آدم، مواطن من جمهورية "أرابلاند Arabland العربية الديمقراطية"، أراد له مصطفى أن يصير مهاجرا سريا في أستراليا... ساقت له الأقدار فتاة أسترالية فعلت المستحيل لتسوية وضعيته... طبعا، يجب أن يكون اسم الفتاة هو ماري... ماري التي أصيبت بحادثة سير خطيرة نزفت على إِثرها وفقدت الكثير من الدم.
لا نعرف بالضبط كيف علم آدم أن فصيلة دمه يمكن نقلها إلى ماري الأسترالية، يبدو أن مصطفى نسي هذه الحيثية. كل ما كتب هو أن الممرضين أخبروا آدم أنهم لا يستطيعون قبول دمه لأنه ملوث بمادة مُشعة.
من هنا، سينتقل مصطفى بخياله إلى السرعة القصوى، ليجعل من آدم بطلا قومياً في بلاده؛ ذلك أنه اكتشف أن إحدى الجمعيات الخيرية العالمية والتي تترأس فرعها المحلي زوجة الرئيس ما هي إلا غطاء شركة أخطبوطية تعمل على دفن النفايات النووية في بلده. أرسل آدم تحاليل ودراسات عديدة إلى صحيفة مغمورة بدولة أرابلاند. ولِأن أرابلاند لا تختلف كثيرا عن نظيراتها العربية، فالأرضية كانت جاهزة في انتظار الشرارة، وكانت الانتفاضة.… ولم ينتظر البلد المجاور، "جمهورية الجزر السوداء العربية الديمقراطية"، كثيراً حتّى سخَّر إعلامه وغدا يُحرِّض على الثورة ضد النظام الحاكم. كما أنه استعمل نفوذه كي تجمد عضوية أرابلاند في منظمة الصحة العالمية وفي منظمة اليونيسكو.
استغل مصطفى حيثيات إحدى تجاربه الشخصية، حين أثبت أحد الفحوصات التي أُخضِعَ لها من طرف الجامعة القارية للكراطي وجود نسبة قليلة من مادة فينكامين في دمه، وقد تحمَّل طبيب الفريق حينها المسؤولية وأقر بأنه هو من وصف لمصطفى دواء يحتوي على هذه المادة التي تنشط الجهاز التنفسي ولم تكن أصلا يومها مصنفة في لائحة المنشطات. وعلى الرغم من اقتناع الجامعة بدفوعات الطبيب، فإن ذلك لم يمنع أحد الرياضيين الذين انهزموا أمام مصطفى في المباراة النهائية أن يثير زوبعة من الانتقادات والاحتجاجات.
وكَوْن دولة أرابلاند، حسب مصطفى، معروفة بتفوقها في سباقات المسافات المتوسطة؛ فقد حرّض في قصته بعض العدائين القدامى وجعلهم يكتبون العرائض للجامعة الدولية لألعاب القوى ليسحبوا الميداليات التي حصل عليها مواطنو آدم، خاصة منهم العداء الأسطورة فرحان طويع والعداءة عطاء المعتمد. وأمدهم مصطفى بحجج طريفة مفادها أن تربة أرابلاند مشبعة بإشعاعات نووية، وربما كان لذلك انعكاس إيجابي ولو مؤقت على الرياضيين مما يفسر تفوقهم رغم انعدام أي بنية تحتية.
كما جمح الخيال بمصطفى، فأوْعز إلى أحد الأجانب المقيمين في إنجلترا أن يرفع دعوى طلاق وتعويض ضد زوجته التي تنحدر من أرابلاند، وجعله يتذرع بكونه تعرض للغبن؛ لأن هذه الأخيرة لم تخبره بحقيقة دمها الملوث.
وسط كل هذه الأحداث كان آدم يكافح على جبهتين ... كان يصارع من أجل فضح المفسدين في بلده، وكان يريد الاطمئنان على سلامة ماري...
حينما قرأت قصة مصطفى أحسست بشيء من الامتعاض تجاه بطله آدم.. لاحظتُ أنه يبالغ في بعض الأحيان؛ لكني تذكرت أنه مغترب والاغتراب نوع من الابتلاء، فكيف إذا انضافت إليه تلكم الطامة المسماة، عافاكم الله، بالحب... إن القلب ليحزن، والعين لتدمع، ولن نلوم المغترب المتَيّم إن اشتكى وتألّم...
- آدم: لا مانع عندي أن تكون كل ماريات الدنيا قِدِّيسات، لكن يحزنني أن تُصِرَّ كل دولنا على وصف نفسها بالديمقراطية، وحين تغادرها تتفاجأ بأن دمك يحمل سموما من التاريخ أو الجغرافيا .
- علي، صديق جديد لآدم، لاجئ من "جمهورية مازيغِستان العربية الديمقراطية": عُدنا إلى جَلْد الذات..
-آدم: لا أعتقد أنه جَلْد الذات ... رُبما حكٌ خفيف لِجِلْد الذات، أو لعله جَلَدٌ في الذات... إذ رغم كل ما نقوله عن الوطن ما زلنا نعشقه ونتغنِّي به...
- لكنك، مؤخراً، صرت تتغنى بامرأة أسترالية.. .
ابتسم آدم، وكاد يرفع الراية البيضاء ... لكنه سرعان ما استدرك وقال: نعم أفعل، لكن بالعربية ... هل تصدق أخي علي أن ماري بالنسبة لي ليست سوى امتدادا للوطن، ولا أعتبرها وطني الثاني...
- ماري امتداد للوطن... لم أكن أعلم أن الأستراليات يشكلن امتدادا للصحراء العربية... مقاربة لذيذة لتفسير حركات الصفائح التكتونية.…. ابتسم الاثنان ... ثم غاصا في سلسلة متشابكة من المواضيع....
...
كتب مصطفى وكتب... استعمل التشبيه والمجاز والاستعارة... أسقط أشياء على أشياء، وأحال أشياء على أشياء... ولمّحَ إلى أشياء... لكن يكفي أن تتأمل قليلا كي تكتشف أن كل ما تكلم عنه إنما هي مرادفات كثيرة لاسمين، ماري والوطن. وإذا آمنت بالمقاربة اللطيفة التي ابتدعها صديقنا آدم فيما يخص التمدد أو الامتداد، فسنجد في آخر المطاف أن مصطفى كتب فقط عن الوطن، تارة ممدداً فوق الرمال، وتارة فوق الفراش إثر حادث تاريخي...
لم يحس مصفى بالتعب ولست أستغرب من ذلك؛ لكنه يدرك أنه في وقت ما يجب أن يتوقف... وفي لحظة ما قدّر في قرارة نفسه أن ذلك الوقت قد حان. احتال على الحبكة لِيخلص إلى نهاية بسيطة...
- آدم: وددت لو أقضي بعض الأيام في هذا المستشفى، يبدو أن الممرضات الأستراليات يُتقنَّ عملهن...
- ماري: وأنا وددت أن أذبحك، لكني لا أستطيع...
- آدم: أعرف أنك تحبينني ولا يمكنك أن تفعليها...
- ماري: لا يا صديقي، فقط لأن دمك يحتوي على مواد مشعة، ولا أريد التسبب في تشرنوبيل أخرى.
.....
انتهى مصطفى من كتابة قصته، أو بالأحرى مشروع قصته، فالأكيد أنه سيعود إليها ويُنقِّحها، وقد يتذكر بعض التفاصيل الأخرى فيزيد وينقص. انتبه إلى أن الأمر استغرق ست ساعات أو سبعا أو ثماني، في الواقع كلّما حكى لي مصطفى هذه الواقعة إلا وتكلم عن رقم مختلف، لا ضيْر، لِنقلْ أنه قضى سبع ساعات.
من حسن حظه، أو ربما من سوئه أنه كان قد نسيَ هاتفه في وضعية "صامت" بعدما طلِبَ منه ذلك في مركز تحاقن الدم. ألقى عليه نظرة، فأحس بنوع من الذنب. لقد اتصلت ماري أكثر من عشر مرات، وتركت أربع رسائل صوتية. قرر أن يحفظ قصته في الحاسوب ويتصل بها؛ لكنه ارتأى أن يعيد قراءة ما كتب.
اكتشف بعض الأخطاء الإملائية وأخرى موضوعية. فمثلا شبَّه رئيس دولة الجزر السوداء بالسيدة فيوريطا تشامورو ووصفها برئيسة الهندوراس، ليتذكر فيما بعد أنها كانت رئيسة نكاراغوا. كما أنه انتبه إلى أنّ آدم يستشهد بأحد الخطابات التي ألقاها باراك أوباما في الربع الأخير من حياته الرئاسية، وهي فترة كان فيها ثمن البترول متدنياً، في حين أن الإطار التاريخي للقصة يقتضي عصراً ذهبياً تتمكن فيه دولة الجزر السوداء البترولية من الإنفاق بسخاء لمناكفة جارتها اللدودة أرابلاند العربية الديمقراطية.
وضع مصطفى بعض العلامات باللون الأحمر على أن يعود فيما بعد للقيام بالرتوشات الضرورية. ألقى نظرته الأخيرة على النص، ضغط على زر الحفظ ثم همّ بإغلاق الصفحة؛ لكنه سحب فجأة أصبعه، وكأنه أحس بأن ثمة خللا آخر لم ينتبه إليه وأنه أكثر أهمية من كل الأخطاء الأخرى.
كعازف بيانو منتش بالنوتات الأخيرة من سيمفونيته، كتب مصطفى في أعلى الصفحة: "أحداث هذه القصة خيالية لا تمُتُّ إلى الواقع بِصِلَة".
أبعد مصطفى أصابعه عن لوحة المفاتيح وابتسم، كعادته كلما كتب هذه الجملة.
*كاتب روائي مدون. ناشر.