ن تفجير نحو 2800 طن من نترات الأمونيوم المخزنة في ميناء بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ليس لجهة غضب اللبنانيين ضد حكومتهم والطبقة السياسية الحاكمة، لكن نظراً لأن لبنان هو إحدى ساحات التداخل والتنافس الإقليمي، فلا بد وأن تمس تداعيات انفجار مرفأ بيروت بعض القوى الإقليمية لا سيما والمرتبطة بعدم الاستقرار في لبنان. ومن ذلك إيران التي تعتبر حزب الله نموذجاً لنجاح أفكار تصدير الثورة واستنساخ ولاية الفقيه. تمثل حالة حزب الله نجاح تجربة إيران في دعم الفاعلين من دون الدول وتقديم كافة أشكال الدعم العسكري والاقتصادي في مواجهة الدولة المركزية إلى حد يميل معه ميزان القوى لصالح هؤلاء الفاعلين على حساب سلطة الدولة.
وقد كان تناول الإعلام الإيراني لانفجار مرفأ بيروت ضعيفاً، وإن كانت صدرت بعض التصريحات المتعاطفة مع الحادث الأليم، إلى جانب إعلان إيران تقديم مساعدات إنسانية للبنان، لكنها لم تشارك في مؤتمر المانحين الذي رعته فرنسا لدعم لبنان جراء الحادث.
لكن بمتابعة ردود الفعل داخل إيران، نجد أنها تمحورت حول نقطتين رئيستين الأولى، هي انتقاد استجابة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للانفجار وتصريحاته، والثانية، هي العقوبات الأميركية على حزب الله. فقد كان هناك نقد شديد لجهة زيارة الرئيس الفرنسي وحثه على ترتيب الأمور في الداخل اللبناني، ومطالبته السياسيين اللبنانيين بضرورة إجراء إصلاحات كبيرة.
فقد اعتبرت إيران أن تصريحات ماكرون خلال زيارته للبنان في أعقاب تفجير بيروت الدامي "تدخلاً" في الشؤون الداخلية اللبنانية. وأن ما يحدث يستهدف شيطنة لصورة حزب الله. وقد اتهمت صحيفة "كيهان" الإيرانية المحافظة ماكرون بمحاولة "إضعاف المقاومة اللبنانية" بحسب الصحيفة، واعتبرت أن مؤتمر المانحين الذي نظمته فرنسا لدعم لبنان إنما هو خدعة، ولم تشارك إيران في المؤتمر الذي شاركت فيه المملكة العربية السعودية والكويت إلى جانب فرنسا والولايات المتحدة. أما بشأن العقوبات الأميركية على حزب الله، فقد صرح عباس موسوي المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بـ"إذا كانوا صادقين فعليهم رفع العقوبات عن لبنان حكومة وشعباً"، وذلك في إشارة منه إلى الولايات المتحدة. وتقصد إيران رفع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على حزب الله اللبناني في إطار الضغط ومحاصرة وكلاء إيران في المنطقة ونشاطهم العسكري في دول الصراعات كسوريا واليمن والعراق. ومن المعروف أن الأزمة الاقتصادية التي يعانيها لبنان يقع سببها على حزب الله وحلفائه، وذلك نتيجة لتضرر القطاع المصرفي اللبناني جراء العقوبات الأميركية عليه ومحاولته التهرب منها، ومن ثم تلاشي المساعدات الغربية والخليجية. فحزب الله منذ 2007 استخدم قوته العسكرية لتعزيز دوره المهيمن في الحكومة اللبنانية، واستخدم حق النقض ضد أي تغييرات قد تهدد مصالحه، فضلاً عن ربط السياسة الخارجية اللبنانية بالتفضيلات والخيارات الإيرانية.
وتخشى إيران من النقطتين السابقتين، فالتداعيات عليها قد تكون من خلال الضغط الذي قد يمارس من جهة فرنسا إلى جانب ربما الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والذي سيسعى إلى تشكيل الداخل اللبناني، بعد ما كانت اليد الطولى لحزب الله حتى في التشكيل والتحكم بأجندة الحكومة، مع محاولة تقليل تأثير إيران، فوفقاً لبيان صادر عن الرئاسة الفرنسية، فقد أخبر ماكرون الرئيس الإيراني بشأن لبنان بضرورة تجنب، كل القوى المعنية، أي تصعيد للتوتر وكذلك أي تدخل خارجي، ودعم تشكيل حكومة مهمتها إدارة الأزمة الطارئة.
النقطة الجديرة بالانتباه، هي أنه في معرض تشجيع ماكرون للرئيس دونالد ترمب للانخراط في شؤون المنطقة ودعم لبنان، أبلغه أن العقوبات الأميركية التي استهدفت جماعة حزب الله كانت لصالح أولئك الذين استهدفت إضعافهم، أي عملت لصالح حزب الله والإيرانيين، وأنه على الولايات المتحدة "إعادة الاستثمار" في لبنان للمساعدة في إعادة بنائه. لكن هذه النقطة تثير السؤال الذي ستوضحه مسارات ومحادثات ترتيب الوضع الداخلي بلبنان، وهو هل يمكن أن يلعب ماكرون دوراً في تشديد وتقييد وضع حزب الله في لبنان خلال بحث تشكيل الحكومة الجديدة، وتخفيف التأثير الإيراني في مقابل إقناع الولايات المتحدة بتخفيف العقوبات على إيران وبالتالي تخلي إيران أو ضغطها على حزب الله؟ وهل سيعمل ماكرون على إقناع ترمب بتخفيف العقوبات عن إيران من جهة أخرى، على أمل حدوث انفراج في الملف النووي الإيراني؟
كل تلك السياقات تحدث مع الوضع في الاعتبار أن الولايات المتحدة ستقدم مشروع قرار لمجلس الأمن لتمديد حظر الأسلحة على إيران، وبالتالي من غير المتوقع أن تقوم إيران بأي استفزازات خلال تلك الفترة أو الظهور في المشهد اللبناني.
لكن بشكل عام، فإن دعوة ماكرون لضرورة انخراط الولايات المتحدة في المنطقة، لأن الانسحاب منها كان لصالح إيران ووكلائها، ومن ثم تتحسب إيران لإمكانية أن تسيطر فرنسا والولايات المتحدة على العملية السياسية بلبنان، وبدورهما سيستهدفان إضعاف دور الحزب في الحكومة إلى جانب إثارة قضية نزع سلاح حزب الله وإعادة إحياء مبدأ النأي بالنفس. فتفجير المرفأ سيعيد التركيز على قضية تسليح حزب الله، خاصة مع التركيز على وجود مخازنه ومقراته وأسلحته في قلب السكان المدنيين، حتى يكون المدنيون بمثابة دروع بشرية.
ولا يفوت هنا أن تكون قضية إعادة بناء مرفأ بيروت فرصة قد تسعى القوى العظمى أو الدول الخليجية إلى المساهمة بها، وربما تعد استثمارات السعودية والإمارات فرصة لتعظيم النفوذ العربي بساحة لبنان. وهنا يثور تساؤل حول، هل من الممكن حال قيام قوى كبرى أو خليجية بالاستثمار في الميناء سيكون لديها القدرة على تشديد القبضة على عمليات نقل الأسلحة والتهريب والإمدادات المرتبطة بحزب الله من خلال المرفأ؟
أما الصين وروسيا، فهناك فرصة للصين بما لديها من إمكانات لتوسيع مبادرتها "الحزام والطريق"، حيث تقوم ببناء الموانئ والطرق في جميع أنحاء العالم. ولروسيا، فرصة إذا توفرت لها المقدرة ستستفيد من أن يكون لها موطئ قدم آخر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، على غرار ميناء طرطوس في سوريا، لكن روسيا لم تشارك في مؤتمر المانحين الذي عقد بشأن لبنان.
أما بشان علاقة حزب الله بإسرائيل والتي معروف أنها علاقة ثلاثية تتضمن إيران، فإن دمار بيروت يجعل استفزاز إسرائيل من قبل حزب الله أكثر خطورة في حال ردت إسرائيل على تحركاته. لكن بشكل عام ستتراجع أي خطوات من جانب حزب الله لاستفزاز إسرائيل أو تنفيذ عملية انتقام لأحد عناصره والذي قتلته إسرائيل في سوريا أخيراً. لكن ستسمر سياسة الحزب في دعم نشاط إيران لا سيما في سوريا وستسمر الضربات الإسرائيلية على أهداف إيران وحزب الله في سوريا، لكنها ستتحاشى الرد على حزب الله في لبنان الفترة المقبلة.