يتبوأ منصب الإفتاء في التراتيب الإدارية الإسلامية مكانة عظيمة، ويشغل منزلة شريفة، وحيزاً مهما، إذ هو من جملة الخطط الدينية التي ينهض بها ولي الأمر، ويكلف بها من يراه أهلا لها من العلماء الأجلاء، باعتباره نائبا عن صاحب الشرع الحكيم، في حفظ الدين، وسياسة الدنيا، كما يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون.
كما تظهر منزلة الفتوى ومكانة المفتين في التراتيب الإدارية الإسلامية بالنظر إلى منصب المفتي وحضوره في المجتمع، إذ المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، كما يقول الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي المعروف بالشاطبي. وهو أيضا مُوَقِّعٌ عن رب العالمين، كما يذكر الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، وإن كان مصطلح التوقيع غير متداول في الفقه الإسلامي.
يستمد منصب الإفتاء شرفه وهيبته من الشرع الحكيم نفسه، ذلك أن أول من قام بهذه المهمة الشريفة هو سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان صلى الله عليه وسلم "يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال أحكم الحاكمين ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ"﴾ [ص: 86] فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامعَ الأحكام ومشتملةً على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانيةُ الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدولُ عنها ما وجد إليها سبيلا، وقد أمر اللهُ عبادَه بالرد إليها، حيث يقول: ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59].
ولا يزال لمنصب الإفتاء مكانته في المجتمعات الإسلامية، وحضوره الرسمي في النظم الإدارية الإسلامية قديما وحديثا، إذ تعمل معظم الدولة إسلامية على تعين مفت عام لها، يكون مرجعها الأساس في مجال الإفتاء في الأمور الدينية العامة، كما تم تقنيين منصب الافتاء ومَأْسَسَتُهُ، حيث أصبح عبارةً عن مؤسسة قائمة الذات، كما أضحت الفتوى صناعة فقهية يسهم في إنشائها كبار العلماء.
لقد ارتبطت الفتوى في الإسلام بحياة المسلمين العامة والخاصة، ولم ينقطع سندها البتة، فقد مارس الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عملية الافتاء في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر منهم بهذا الأمر ثلاثة عشر صحابيا، منهم الخلفاء الراشدون، ولم يكن يفتي أحد بحضوره صلى الله سوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
من مميزات الدولة الإسلامية عبر تاريخها الحافل وجود مؤسسات علمية يعهد إليها بالحفاظ على الوظائف الدينية كالفتيا والقضاء والحسبة، ومع تطور النظم الإدارية الإسلامية تطور معها منصب الإفتاء، حيث أصبح يمارس بشكل فردي أو في شكل اجتهاد جماعي، أو في شكل لجان دائمة للإفتاء، أو في شكل هيئة علمية مكلفة بالإفتاء.
وعن خطة الإفتاء يقول أستاذنا الدكتور عمر الجيدي -رحمه الله-:
"من الخطط الشرعية التي اهتم بها علماء الإسلام، وحاطوها بسياج من الرعاية: خطة الإفتاء لما لها من الأهمية في نظر الإسلام وحياة المسلمين، فعليها تتوقف مصالح الناس، وبها يهتدون في شؤون دينهم ودنياهم، من عبادات ومعاملات وسلوك وأخلاق، وبها تنتظم أمورهم، وتصان حقوقهم، وترعى مصالحهم، فإلى المفتي يفزع الناس حالما تحل بهم الملمات، وتحز بهم الأمور، وتداهمهم المعضلات، وتكثر بينهم النزاعات، وتحدث لهم الخصومات، وتختلط الحقوق وتتجاذبها المصالح، ولأهمية الفتوى وجلالة قدرها تولى الله أمرها بنفسه في محكم كتابه، وتولاها رسوله صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده، والتابعون من بعدهم، ومن خلف من بعدهم من أهل العلم".
وجدير بالذكر أن منصب الإفتاء وإن كان من الخطط الشرعية في التراتيب الإدارية الإسلامية فإن الفتوى في حد ذاتها ظلت مرسلة في كثير من الأقطار الإسلامية يتصدى لها كل من يرى نفسه أهلا لها من العلماء.
وفي هذا الصدد يقول أستاذنا الدكتور عمر الجيدي -رحمه الله-:
"والأصل في الفتوى أن لا تقيد بقيود، ولا تخضع لتنظيم أو تقنين، بحيث تسند إلى أشخاص بالتعيين من قبل السلطة، بل شأنها أن تبقى مرسلة، يتصدى لها كل من أنس من نفسه القدرة على إفتاء الناس فيما يعرض لهم، وإن كان المشارقة قد أخضعوها للتقنين، واعتبروها وظيفة رسمية، ومنصبا من مناصب الدولة، فإنها في المغرب ظلت مطلقة من كل قيد، فلا تحجر على المفتي، ولا تدخل في شؤونه من طرف السلطة، فكل من أحرز على درجة من العلم تؤهله لأن يرتقي هذا المرقى أن يفتي الناس بما يراه، ولعل هذا كان سببا في ازدهارها في المغرب".
إن المتأمل في كلام أستاذنا الدكتور عمر الجيدي -رحمه الله- لا يملك إلا أن يخالفه الرأي فيما ذهب إليه، فهو من جهة يصرح في النص السابق أن الفتوى من الخطط الشرعية المهمة في الإسلام، ثم ينقض كلامه بأنها لم تخضع للتنظيم والتقنين. ثم إن الخطط في حد ذاتها مظهر من مظاهر التقنين والتنظيم.
وحتى نضع كلام أستاذنا الدكتور عمر الجيدي -رحمه الله- في سياقه التاريخي لابد أن نميز بين الفتاوى العامة والفتاوى الخاصة، ثم لابد أن نعرج على شروط المفتي ومدى تمكنه من صناعة الفتوى، يقول الدكتور عمر الجيدي -رحمه الله-:
"على أن الفتوى وإن ظلت هكذا مرسلة، فإن هذا لا يعني أن كل واحد في استطاعته أن يتولى الإفتاء في قضايا الناس، ولا تُرِكَ بابُ الفتوى مفتوحا يلج منه كلُّ من هب ودب، ولا أغمض أولو الأمر أعينهم عما يلحق هذه الخطة من ضرر وفساد، ولا سكت العلماء عن كل ما لا يليق وقداسةَ هذا المنصب الجليل... فالفتوى صناعة لا يحسنها كل فقيه، فلا بد فيها من الدربة والممارسة ومعرفة نفسيات المستفتين، ومراعاة أعراف البلد الذي يُفتى فيه..."
وتأسيسا على ما سبق فإن تقنين الفتوى وجعلها مؤسسة علمية قائمة الذات ضمن الخطط الشرعية يتولاها أهل الاختصاص، أصبح ضرورة في زمانا هذا، خصوصا مع تطاول كثير من الناس على الإفتاء، حيث تصدى للفتوى كل من هب ودب. ليس هذا فحسب، بل إن هذه الفتاوى تنتشر في الناس انتشار النار في الهشيم، عبر مختلف وسائل التواصل الحديثة، حتى أصبحنا نعيش فتنة الإفتاء.
وينتظم مقالنا هذا المقال في مبحثين وخاتمة:
المبحث الأول: مؤسسة الفتوى في التراتيب الإدارية الإسلامية.
المبحث الثاني: التمييز بين الفتاوى والأحكام في التراتيب الإدارية الإسلامية.
خاتمة.
المبحث الأول: مؤسسة الفتوى في التراتيب الإدارية الإسلامية:
للإمامة العظمى في الإسلام وظيفتان أساسيتان متكاملتان هما: حفظ قواعد الدين، وسياسة أمور الدنيا. فالوظيفة الأساسية الأولى التي هي حفظ قواعد الدين ترجع إليها جميع الخطط الدينية كإقامة الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة...
وقد نظر بعض العلماء إلى الوظيفة الدينية للإمامة العظمى في الإسلام نظرة مقاصدية، حيث ربطوا بينها وبين كليات ما تحفظ به الشريعة، وهي الضروريات الخمس المتفق على رعايتها في جميع الشرائع: وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ذلك أن وضع الشرائع -كما يقول الإمام الشاطبي- إنما هو لصالح العباد في العاجل والآجل. كما " أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة السالفة المذكور، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود، أعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف، وكذلك الأمور الأخروية، لا قيام لها إلا بذلك، فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن البقاء في العادة، ولو عدم المال لم يبق عيش ... وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة".
وإذا كان الحفاظ على الكليات الخمس من الأركان الضرورية التي ينهض بها ولي الأمر فإن ذلك يتم من خلال وظيفيتين:
الوظيفة الأولى: حفظها من جانب الوجود: وذلك بإقامة أركانها ورعاية مكملاتها.
الوظيفة الثانية: حفظها من جانب العدم، وذلك بترك الخلل الواقع والمتوقع فيها.
منزلة الفتيا في الخطط الدينية:
مرادنا بمصطلح الخطط الدينية في هذا المقال ما هو أخص من مصطلح التراتيب الإدارية، ذلك مصطلح التراتيب الإدارية يشمل جميع مناخي الحياة معاشاً ومعاداً، في حين يقتصر مصطلح الخطط الدينية على الوظائف ذات الطابع الديني المحض كالصلاة والزكاة والحج ... أو التي ترجع إلى الدين كالفتيا والقضاء والحسبة.
وعن هذه الخطط الدينية يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون: "فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير، والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها، وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم."
خطة الإفتاء:
وبخصوص منصب الفتوى الذي يعنينا أمره في هذا المقال فإن ولي الأمر هو من يقوم باختيار المفتي من أجل القيام بهذه المهمة الشريفة، بناء على توفر شروط علمية وخلقية، مع ضمان شروط ممارسة عملية الإفتاء.
وفي هذا الصدد يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون: "وأما الفُتْيَا فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك، ومنع من ليس أهلا لها وزجره، لأنها من مصالح المسلمين في دنياهم".
نستنج من كلام العلامة عبد الرحمن بن خلدون أن اختيار من يقوم بمهمة الإفتاء من قبل ولي الأمر يراعي فيه شروط علمية وخلقية:
أولا: الشروط العلمية:
لقد أجمل العلامة ابن القيم شروط المفتي فقال:" ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالما بما يبلغ، صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله ... فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عُدَّتَهُ، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قَدْرَ المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديَه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ [النساء: 127] وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة، إذ يقول في كتابه : ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ﴾ [النساء: 176] وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسئول غدا وموقوف بين يدي الله.
لقد شدد العلماء في شروط المفتي، فقد نقل الإمام بن بطة عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- أنه قال في شروط المفتي:
لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتوى حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: النية ليكون على كلامه نور.
الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية وإلاَّ مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس، وإلاَّ رجع عليه المكر والخداع والاحتيال.
وقد استنتج أحد العلماء المعاصرين من هذه الشروط أن الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- يلاحظ نفسية المفتي، ويلاحظ سمته واحترام الناس له، كما لابد أن يكون له بصيرة نافذة يدرك بها آثار فتواه وانتشارها بين الناس، فإن رأى الأثر سيئا كف، وإن رآه غير ذلك تكلم.
ثانيا: الشروط الخلقية:
المقصود بالشروط الخلقية، ما يرجع إلى خلق المفتي وسلوكه، وهو غير الشروط العلمية، كالصدق والإخلاص والعدل والأمانة في النقل ... وجماع ذلك كله أن يطابق قولُه فعلَهُ. يقول الإمام الشاطبي: إن من اجتمع فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين:
أحدها: من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله على مقتضى فتواه، فهو متصف بأوصاف العلم، قائم معه مقام الامتثال التام، حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك عن السؤال في كثير من الأعمال، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤخذ العلم من أقواله وفعله وإقراره.
فهذا القسم إذا وجد فهو أولى ممن ليس كذلك وهو القسم الثاني ...
لقد ربط الإمام الشاطبي أيضا بين المفتي وبين النبي من ثلاثة أوجه، من حيث الإخبار والتوقيع عن الشرع الحكيم، ثم من حيث نفوذ أمر المفتي فقال:
"وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي، وَمُوَقِّعٌ للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي، لذلك سمو أولي الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59] والأدلة على هذا المعنى كثيرة.
ومن أهم الشروط الخلقية التي ينبغي أن يتصف بها المفتي في مجال الافتاء هو الحرص على تحقيق مبدأ التوسط واليسر، وهو المنهج الذي مضى عليه السلف الصالح، بحيث "يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، كما يقول لإمام الشاطبي.
خطة الافتاء في صلتها بالاجتهاد:
قسم أبو الوليد بن رشد المفتين إلى ثلاثة أقسام:
الأول: المجتهد المطلق القادر على أخذ الأحكام من أدلتها الشرعية: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، وهذا القسم هو الذي يجوز له الإفتاء عموما، ويولي القضاء وغيره من الخطط الدينية.
الثاني: طائفة اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدا تحفظ مجرد أقواله وأقواله أصحابه دون معرفة الأدلة، ولا تمييز الصحيح من تلك الأقوال من غيره وهذه لا يجوز لها الإفتاء بمجرد التقليد من غير معرفة الدليل، لأنه إفتاء بغير علم.
الثالث: من يكون مقلداً لمالك وهو يعلم من أقواله وأقوال أصحابه ما هو جار على أصوله، وما هو سقيم غير جار على ذلك، ولكن لم يبلغ معرفة القياس ونحوه من الأدلة بحيث لا يستطيع أن يقيس الفروع على الأصول، وهذا ما يعرف بمجتهد الفتوى، وهذه الطائفة يجوز لها أن تفتي من الأقوال بما علمت صحته، وتعمل في خاصة نفسها، ولا يجوز لها أن تجتهد لعدم القدرة منها على الاجتهاد لعدم استكمال لآلته.
ما أشار إليه ابن رشد في أجوبته وإن كان متعلقا بمذهب الإمام مالك -رضي الله عنه- فإنه ينطبق على جميع المذاهب الفقهية.
المبحث الثاني: التمييز بين الفتوى والحكم في التراتيب الإدارية:
من المباحث المهمة المرتبطة بالخطط الشرعية في التراتيب الإدارية الإسلامية، التفريق بين الإفتاء والقضاء، وهو مبحث تشريعي مهم يتناول تحديد اختصاصات كل من المفتي والقاضي.
وقد بحث هذه المسألة وحررها العلامة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي في كتابه القيم"الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام" وأول شيء ينبه علي الإمام القرافي أن القاضي ينشئ الحكم بخلاف الفتوى فإنها مجرد إخبار عن الله تعالى بأن حكمه في هذه القضية كذا فهو مخبر.
وكما يقول العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري في قواعده "الفتيا إخبار عن حكم الله عز وجل، فهو كالمترجم، والحكم إنشاء له، فهو كالنائب."
فهناك أمور يشترك فيها كل من المفتي والقاضي، وهناك أمور يفترقان فيها.
الأمور المشتركة بين الإفتاء والقضاء:
وهي العلم وفقه النازلة وأن يكونا كل من المفتي والقاضي من أهل الاجتهاد.
الأمور التي يفترق فيها الإفتاء عن القضاء:
أما الأمور التي يفترقان فيها فهي كما يلي:
أن القضاء ملزم للخصوم ونافذ فيهم بخلاف الإفتاء فإن المستفتي مخير بين العمل بالفتوى وإهمالها.
أن قضاء القاضي بما يخاف فتوى المفتي نافذ ولا يعد نقضا لقضاء سابق، بخلاف القضاء بما يخالف قضاء سابقا فإنه لا ينفذ.
أن المفتي لا يقضي إلا إذا ولي القضاء بخلاف القاضي فإنه يجب عليه الافتاء إذا تعين له. ويجوز منه إذا لم يتعين.
خاتمة
بعد هذا العرض المقتضب لمؤسسة الفتوى ومنزلتها في التراتيب الإدارية الإسلامية أخلص إلى النتائج الآتية:
أولا: يعتبر منصب الإفتاء إلى جانب القضاء والحسبة ... من الخطط الدينية المهمة في النظام الإسلامي، وهو من لوازم الإمامة العظمى ومقتضياتها الشرعية، ومن ثَمَّ رأينا كثيراً من العلماء يخصصون لهذه الوظائف الدينية حيزاً مهما في المؤلفات التي تعنى بموضوع التراتيب الإدارية الإسلامية، كما أن هذه المناصب من جملة الخطط الدينية التي ينهض بها بولي الأمر ويكلف بها من يراه أهلا لها.
ثانيا: لقد نظر علماء الإسلام إلى الفتوى نظرة تعظيم وإجلال، فكانوا يحذرون من الإسراف في الإفتاء والتجاسر على الفتوى، ومما أثر عنهم في هذا الباب قولهم: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
ثالثا: لقد ميز العلماء في مجال الإفتاء بين المفتي المجتهد، وهو الذي أحاط بأصول الفقه وبالأدلة السمعية والتفصيلة واختلاف مراتبها، والمفتي المقلد، وهو دون ذلك، ويشترط فيه أن يكون متوسطا في العلوم العربية، ماهراً في علم أصول الفقه، ليعرف تطبيق النصوص على النازلة، عارفا بعرف البلد التي يفتي فيها، عالما بما جرى به عملها، مستحضراً نصوص المذهب الذي يفتي به، عارفا بمطلقها ومقيدها، عامها وخاصها، ماهراً في فهم اصطلاحاتها، واندراج جزئياتها في كلياتها، سالكا سبيل الجد والتبصر من مطالعة أقوال الأئمة الفقهاء.
وهذا التميز بين طبقات المفتين ضروري من أجل ترشيد خطة الإفتاء، وبالتالي تأطير للحياة الدينية تأطيراً أفضل، وإسعاف المستفتين في أمور دينهم والإجابة عن تساؤلاتهم وانشغالاتهم، حتى إذا ما فقد المجتهد المطلق لم نعدم المقلد الذي يسد مسد المجتهد. وإذا ما وجد المجتهد فلا سبيل لإفتاء المقلد ولا لتوليته القضاء" لأن المجتهد يحكم عن علم والمقلد عن جهل.
رابعا: لقد ظل منصب الفتوى محل عناية ورعاية في تاريخ الإسلام، كما ازدهرت الفتوى في فترة من فترات التاريخ وضعفت في فترات أخرى، وقد رأينا كثيراً من العلماء يتأسفون على ما آلت إليه الفتوى في القرون الوسطى، حيث تصدى لها من ليس أهلا لها. وقد وصف أحد العلماء هؤلاء المتجاسرين على الفتوى بقوله:" فهذا الضرب الذين يستفتون بالشكل لا بالفضل، ويأكلون بالعمائم والأكمام لا بالعلوم والأحكام، تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجا، وتضج من أقلامهم ضجيجا، فمن تجرأ منهم على دين الله، وأفتى أو حكم فرسول الله خصمه يوم القيامة، والله الحكم، " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ". [الشعراء: 227]
خامسا: قد اهتم بعض العلماء بالتصرفات النبوية حيث فرقوا بين تصرفاته صلى الله عليه وسلم بالفتيا والتبليغ والقضاء والإمامة العظمى، فتصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتيا هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك وتعالى، وتصرفه بالتبليغ هو مقتضى الرسالة، والرسالة هي أمر الله تعالى له بالتبليغ، وتصرفه بالحكم هو إنشاء للحكم وإلزام به، وتصرف بالإمامة العظمى زائد على التصرفات السابقة.
وفي هذا السياق يقول الإمام القرافي: "فإذا تقرر الفرق بين آثار تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة والقضاء والفتيا: فاعلم أن تصرفه عليه الصلاة والسلام ينقسم إلى أربعة أقسام:
قسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة كالاقتطاع وإقامة الحدود وإرسال الجيوش ونحوها.
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء، كإلزام أداء الديون وتسليم السلع، ونقد الأثمان، وفسخ الأنكحة ونحو ذلك.
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالفتيا كإبلاغ الصلوات وإقامتها وإقامة المناسك ونحوها.
وقسم وقع منه صلى الله عليه وسلم مترددا بين هذه الأقسام، اختلف العلماء فيه على أيها يحمل وفيه مسائل..."
ومعرفة هذه المراتب تساعد المفتي على تنزيل الأحكام على الواقع بشكل سليم، وتجعله يراعي فقه الأولويات في مجال الإفتاء.
ومن فروع هذه المسألة "أن من أفتى رجلا فأتلف بفتواه مالا فإن كان من مجتهداً فلا شيء عليه، وإلا فقال المازري يضمن ما تلف، ويجب على الحاكم التغليظ عليه، وإن كان أدبه فأهل، إلا أن يكون تقدم له اشتغال بالعلم فيسقط عنه الأدب، وينهى عن الفتوى إن لم يكن أهلا".
*أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الأول بوجدة