كان مستغربا جدا تصريح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، بحر الأسبوع الماضي، بأنه لا ينبغي أن ننتظر حلا سحريا لكورونا، ولربما كان أغرب منه وأشد وقعا قوله بنبرة تكاد تكون جازمة إنه لن يكون هناك حل أبدا؛ فقد بدت تلك التصريحات متنافرة كليا مع سيل الأخبار المفرحة التي تتقاطر هذه الأيام من بريطانيا، وروسيا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، حول التقدم الكبير في الأبحاث الجارية للتوصل إلى لقاح يعول عليه الجميع كي ينقذ البشرية في أقرب الآجال؛ ما يدفعنا إلى التساؤل عن براءة هذه الخرجة الإعلامية لتيدروس أدهانوم، وحول ما إذا كانت تعبر فعلا عن حقيقة علمية أو بحثية توصل إليها خبراء المنظمة بعد شهور عديدة من التعامل مع الفيروس والجائحة، أم إنها تعكس خلفيات وتخفي نوايا وأهدافا محددة يسعى إليها هذا المدير العام ومن يدورون في فلكه، أو يدور في فلكهم، خصوصا بعد أن أصبحت المنظمة في أتون تجاذبات قوية بين الغريمين الصيني والأمريكي حول حقيقة مسؤوليتها في تفشي الداء عالميا؟.
إذا وضعنا التصريح في سياق الأحداث فسوف نلاحظ أنه يتزامن مع إعلان رغبة الرئيس الأمريكي ترامب في تأجيل الانتخابات الرئاسية، وإطلاقه مؤخرا لبالون اختبار لاستكشاف حظوظ هذه الفرضية، وكذلك مع الحماس اللافت للنظر للعالم منصف السلاوي، عراب اللقاحات لدى ترامب، و"مدير" حملته الخفي للرئاسة، والذي وعد العالم والأمريكيين بلقاح قريب قد يعلن في الأمتار الأخيرة للانتخابات الأمريكية.
من الواضح جدا أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار هجومات ترامب المتكررة على المدير العام الإثيوبي، وسعيه الحثيث إلى جعله كبش فداء للفشل الأمريكي في مواجهة الداء؛ وهي الهجومات التي وصلت أحيانا حد السخرية والاستهزاء والاتهام بالتواطؤ والعمالة للصين، فإنه يمكننا أن نرى أن المنظمة هي بصدد رد الصاع صاعين للرئيس الأمريكي الذي تحاول أن تنتزع من يديه ورقة اكتشاف اللقاح التي يغري بها قطاعات واسعة من الناخبين الأمريكيين؛ لذلك هي تفسد عليه خطته متوخية من وراء ذلك هزيمته؛ ما قد يعني بالنسبة لها نهاية صداع مزمن مثله مسلسل الصراع الناشب بين واشنطن ومنظمة الصحة العالمية.
تيدروس عقد مؤخرا ببريطانيا "قمة اللقاح"، حيث رصدت الدول المشاركة أموالا طائلة لتمويل الأبحاث؛ كذلك هو أعجز من أن يسفه جامعة ذات صيت عالمي كجامعة أكسفورد، تقول إنها قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى هذا اللقاح.. وليس بوسعه أيضا أن يعاكس علنا كل هذا العدد الكبير من معاهد الأبحاث التي تشتغل على ما يفوق 150 لقاحا، ولا أن يغامر بإحباط العالم وتيئيسه من إمكانية الخلاص الوشيك، فالأمل وهو خير العارفين يعد المنقذ الأول للمرضى..ولذلك لا نظن أنه عندما ألقى ذاك التصريح اليائس كان بصدد إعلان خبر علمي؛ فهل كان إذن يطلق الكلام على عواهنه؟..
الحقيقة الساطعة أنه كان يطلق فقط كلاما سياسيا مدروسا ومعدا بعناية فائقة في الدهاليز الدولية للسياسة العالمية..كلاما ظهر وكأنه يتوجه به إلى العالم، بينما هو في العمق لم يكن يقصد به إلا أفراد الشعب الأمريكي، وتحديدا الناخبين منهم.
لم تختلط السياسة بالطب أبدا كما اختلطت بمناسبة كورونا؛ لذلك لا نستبعد أن المدير العام للمنظمة ينفذ الآن خطة صينية أخرى للإطاحة هذه المرة بترامبب وتصفية الحسابات معه...فهو الرئيس المغرور الذي وصف كوفيد ١٩ بالفيروس الصيني، وحرم المنظمة من الاعتمادات الأمريكية الحيوية لحسن أدائها، واستمراره على رأس الإدارة الأمريكية يعني المزيد من المتاعب لمنظمة الصحة العالمية، وربما هو يفقدها كل أمل يراودها في عودة تلك الدولارات الأمريكية ما لم يتغير صاحب القرار بالبيت الأبيض.
واهم من يعتقد أن المنظمة لا تمارس السياسة، وأنها تحرص على الحياد بين الدول لطبيعة اختصاصها الذي يسمو على حسابات القوة والنفوذ؛ فمجرد كونها تابعة لمنظمة الأمم المتحدة التي تسوس العالم يجعلها منظمة سياسية حتى النخاع، بل وفي قلب الصراع على تسيد العالم.
المنظمة تعرف أن أيام ترامب صارت معدودة في البيت الأبيض، وهي تغرس الآن المسمار الأخير في نعشه..إنها تنتقم منه في توقيت محكم، معتقدة أنه في الرمق الأخير من حياته السياسية، وتحرمه بدهاء كوروني من طوق النجاة الأخير بعدما تحملت منه الكثير.. وها هي في الأخير تقرر أن ترد؛ فالانتقام يتم طبخه على نار هادئة..لكنها وهي تحاول أن تتدخل بطريقتها في الانتخابات الأمريكية تؤكد مرة أخرى الاتهامات الموجهة إليها من ترامب نفسه بأنها منظمة مسيسة.
بالنسبة لنا نحن في العالم الثالث أعتقد أن قراءة ما يصدر عن منظمة الصحة العالمية من تصريحات في المستقبل يجب أن تكون بمنظار السياسة قبل منظار العلم..تلك هي القراءة الصحيحة. واللبيب هو من يميز متى يكون بلاغ المنظمة علميا أو سياسيا إيديولوجيا يدخل ضمن لعبة النظام الدولي الجديد الذي مازال في مخاض..
وقد تكون "الصحة العالمية" التي تعرف بالتدقيق جنس الجنين الذي ستزفه في المستقبل مديرا جديدا للعالم.
*بروفيسور بكلية الطب بالرباط