ما حملني على كتابة هذا المقال هو ذلك الحوار الذي أجراه الأخ والأستاذ إبراهيم أبراش مع إحدى الجرائد الوطنية الإلكترونية، وهو الأستاذ الذي تربطني به ذكريات طيبة قائمة على المودة والاحترام، وهو رجل ذو أخلاق عالية يجمع ما بين المعرفة الأكاديمية وما بين الواقعية في الفهم والتحليل، على الأقل هذا ما عهدته فيه منذ زمان أثناء لقاءاتنا في الرباط وغزة.
وإذا كنت أتابع من حين إلى آخر مقالاته التي ينشرها في "هسبريس"، فإن هذه المرة قد استوقفني حواره الصحافي ووجدت في ذلك فرصة لأجدد معه نقاشا في سلسلة من النقاشات التي جرت بيننا في الماضي قائمة على الاحترام المتبادل، رغم اختلاف وجهات النظر.
ولذلك، دعني أستاذي المحترم أن أشهد لك بداية بمنهجيتك المميزة في الدفاع عن أفكارك والتي يفتقر إليها العديد من القادة الفلسطينيين وربما لاعتبارات تخصهم تتوزع ما بين وجودهم في منصب المسؤولية أو بالأحرى حبهم للسلطة، وما بين أولئك الذين ما زالوا يعيشون على وهم شعارات ولى زمانها وأدبر، وهو ما تريد إسرائيل أن تراهم فيه؛ لأن ذلك جزء من إستراتيجيتها كي تقيم الحجة عليهم.. وما يعجبني في كتاباتك هو أنك تقر بذلك وتلقي باللائمة في ذلك على القيادات الفلسطينية من كل المشارب، ولأنك أيضا جريء لا تخشى لومة لائم. فالأفكار التي وردت في حديثك تتسم بالواقعية وبقوة الحجة وبالخلفية التاريخية تعزز بها أفكارك التي أحيانا قد لا يشق لها غبار مما يصعب على المرء أحيانا كيفية اختراقها.
وإذا كنت أختلف معك في بعض الجوانب، فذلك أمر طبيعي لأن هذا الاختلاف جار وحاصل حتى ما بين أصحاب القضية. ولكن ما لم يعجبني في حديثك هو اتهامك لبعض المتواصلين مع إسرائيل من مثقفين وإعلاميين وفنانين من أبناء الشعب المغربي بأن لا وزن لهم، فاعذرني أخي الكريم أن أقول لك إنني ذهلت لهذه الجرأة الزائدة. من حقك أن تتحدث عن قضيتك كما شئت ولا أحد يلومك، أما أن تصنف المغاربة ما بين أوزان ثقيلة وأخرى خفيفة أو لا وزن لها فهذا لا يقبله عاقل. ومن يريد أن يدافع عن قضيته يحاول أن يتجنب إثارة العداوة ضده لا من قبل القلة ولا من قبل الكثرة من الناس. وأعتقد أنه غير خاف عليك أن القضية الفلسطينية في زمن ما كانت ضحية أصحابها لأسباب نحصرها في تعدد ولاءاتها لعالم عربي منقسم على نفسه. فالاستثناء الوحيد في زمن الاستقطاب والتجاذبات كان هو المغرب، كما تعلم. ولست بحاجة لكي أؤكد لك كأستاذ جامعي عاش في المغرب وله ذرية مغربية وأنت أعلم بذلك أن دور هذه المملكة كان وما زال مطلوبا من القيادة الفلسطينية في الوساطة بينها وبين إسرائيل لوجود الثقة ولوجود المصداقية ولغياب مصلحة خاصة بالمغرب. وقد سمعت من القيادة الفلسطينية أن حضور المغرب في إسرائيل وفي رام الله أمر في غاية الأهمية ويخدم القضية عن قرب. ولذلك، فالحديث عن التطبيع يجب اقترانه بوجود مصلحة، ولعلي في هذا الباب أسائلك: هل تعتقد أن المغرب له مصلحة تتنافى مع مصلحة الشعب الفلسطيني فيما لو أعيدت العلاقة مع إسرائيل أم العكس هو الحاصل؟
وما تراه تطبيعا مع إسرائيل ما هو إلا علاقة لخدمة القضية ولخدمة أبنائها. فشخصيا، كنت موجودا لمدة ست سنوات في إسرائيل وقطاع غزة وقد جمعتنا لقاءات في عين المكان وفي عين العاصفة. وعشت بجوارك سنة كاملة تحت القصف الإسرائيلي لقطاع غزة. فكيف كنت تراني في تلك الأيام العصيبة مطبعا أم مؤازرا لك وللقضية الفلسطينية. وما زلت أتذكر أخي إبراهيم والقطاع كله محاصر ولم يكن لك سبيل للخروج منه والالتحاق بعائلتك الكريمة في الرباط إلا بالاستعانة بي وكنت عند رهن الإشارة. فتفجر في وجداني حبي للقضية وحبي لك شخصيا أن أجريت اتصالات مع وزارة الخارجية الإسرائيلية ليسمح لك بالسفر معي إلى المغرب عبر معبر رفح ومنه إلى سيناء والقاهرة. وجاءت الموافقة من إسرائيل وأقلتنا سيارة السفارة من حي الرمال والعلم المغربي يرفرف والدبابات الإسرائيلية تأذن لنا بالمرور في كل حاجز وما أكثرها تلك الحواجز. وكنت أقرأ في عينيك تارة علامات الارتياب والتوجس حينما كنا نمر أمام دبابة إسرائيلية، وتارة أخرى علامات الارتياح بعد تجاوز كل حاجز. وكنت أقرأ فيهما كذلك أنك لا تراني مطبعا في تلك اللحظة إلى أن وصلنا إلى مداخل معبر رفح، وجاءت حافلة إسرائيلية من أربعين مقعدا جاءت خصيصا لتنقلنا نحن الوحيدين وتركنا من وراءنا وزراء فلسطينيين قضوا ليالٍ في العراء ولم يسمح لهم بالخروج. وعند وصولنا إلى المعبر استقبلنا جنود إسرائيليين من أصل مغربي ووزعوا علينا فناجين من الشاي ورحبوا بنا أيما ترحاب. وعند مرورنا إلى الجانب المصري من معبر رفح لست ملزما لأذكرك بذاك الذي كان ينتظرنا. واستمرت الرحلة بيني وبين أخي ابراهيم إلى القاهرة عبر سيناء ومنها إلى الدار البيضاء. ما زلت أحتفظ لك بهذه الذكريات، أما أنت ما هذا الذي غيّرك حتى تقول عني مطبع لا وزن لي.
ولأنني بك متيّم سأشفع لك وستزداد شفاعتي إن سخرت قلمك الرائع اعتراضا على أولئك الذين يرفعون علم الانفصاليين من دبلوماسيين فلسطينيين نكاية في المغاربة الذين أحبوا القضية الفلسطينية إلى حدود الحماقة والجنون بعد أن اعتبروها قضيتهم الأولى. أخ لا يمن عليك ولا يدعوك إلى صرف المقابل، بل من باب أننا لنا قضية مقدسة لا تقل عن قدسية قضيتكم، فلنكن على درجة واحدة من التعاطي.