يقول ميشيل دوبري – الخطابات المباشرة التي توجهها مؤسسة الرئاسة الفرنسية إلى الرأي العام الوطني تستهدف تأكيد وترسيخ الدور الرئيسي والمحوري لمؤسسة رئاسة الجمهورية أمام باقي المؤسسات الأخرى في البلد، كما تستهدف التأكيد على أنها المؤسسة الوحيدة المكلفة بتحديد وقيادة السياسة الوطنية العامة للبلد.
ومن المعروف أنه لا يمكن قيادة الديمقراطيات الرئاسية والديمقراطيات التنفيذية دون تواصل ودون كلام ودون شرح وتوضيح، ووعيا من المشرع الدستوري بذلك عمل على تضمين الفصل الثاني والخمسين من الدستور ما يلي-للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان، ...-.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن عيد العرش اليوم هو عيد يتم خلاله توجيه خطاب إلى الأمة من طرف ملك البلاد وبالتالي هو يوم مؤطر من خلال القاعدة الدستورية، وتحت سقف دستور 2011، وبالتالي فإن تخليد ذكرى عيد العرش اليوم يخرج من الطابع التاريخي والديني والاحتفالي ليأخذ الطابع الدستوري والتعاقدي والتدبيري والديمقراطي.
وإذا كان الاحتفال بعيد العرش قد بدأ فعليا منذ بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، فإنه لم يتم ربط عيد العرش بالخطاب الملكي إلا بتاريخ 18 نونبر 1952.
إذا كان عيد العرش هو في حد ذاته نوع من التعاقد بين الملكية والحركة الوطنية، فإن عيد العرش اليوم يستهدف تعزيز التعاقد بين العرش والشعب.. وإذا كان عيد العرش في السابق يستهدف الطابع الاحتفالي وطابع الطقوس التاريخية وتجديد البيعة بمفهومها الديني، فإن عيد العرش اليوم محوره الأساسي هو خطاب العرش، ومن خلال خطاب العرش يتم التركيز على الأهداف والبرامج المستقبلية وتقييم الفعل العمومي السابق وفتح الباب على المستقبل..
مما يثبت أن عيد العرش لم يكن بعيدا عن الوصفة الدولية للتطور والتحديث، الالتزام بالوصفة الدولية للتطور والتحديث هو التزام دائم بالرغبة في جعل الملكية، ملكية متحركة ومرنة، وذلك رغبة منها كذلك في القيام بالتغيير المستمر والهادئ.
في التجربة الفرنسية مثلا وفي إحدى الوثائق المهمة لليمين الفرنسي والتي شارك في تحريرها مجموعة من السياسيين والمثقفين ووزراء سابقين ووزراء أولين سابقين والباحثين الفرنسيين المنتمين إلى اليمين والتي تحمل عنوان -من أجل مصالحة الفعالية والمسؤولية في الجمهورية الفرنسية الخامسة، اعتبرت هذه الوثيقة أن الخطابات الرئاسية في مفهومها التقليدي تعتبر متجاوزة ومنتمية إلى عهد الجمهورية الثالثة.. وبالتالي، فإن خطابات رئيس الجمهورية في عهد الجمهورية الخامسة وما بعد يجب أن تخضع للتحديث والتطور، من خلال جعل مؤسسة الرئاسة الفرنسية تركز في هذه الخطابات على عرض وتوضيح الفعل العمومي السابق وتقييمه مع تقديم برنامجها المقبل للبرلمان والمواطنين.
المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس لم تكن بعيدة عن تحديث وتحيين وظيفة الخطابات الملكية التي صار موضوعها مركزا على تقييم الفعل العمومي السابق-قصور النموذج التنموي السابق والدعوة إلى البحث عن نموذج تنموي جديد- وشرح وعرض السياسة العمومية المقبلة.
1ـ خطاب العرش وترسيخ تمثيلية المؤسسة الملكية للشعب الكلي والشعب الحقيقي
في خضم مواجهة جائحة كورونا، استعملت المؤسسة الملكية السلطة الرئاسية والعلاقة الرئاسية مع باقي المؤسسات؛ ولكن في خطاب العرش الموجه إلى الأمة أكدت المؤسسة الملكية في خطابها على التالي -ومن هنا، فالعناية التي أعطيها لصحة المواطن المغربي، وسلامة عائلته، هي نفسها التي أخص بها أبنائي وأسرتي الصغيرة - هذه العلاقة الأبوية بين الملكية والشعب، والروابط التعاقدية، وما أكدت عليه المؤسسة الملكية في خطاباتها من أنها تمثل المصوتين والمقاطعين، تجعل الملكية تطمح وتعمل على تمثيل الشعب الكلي والشعب الحقيقي .
تمثيلية المؤسسة الملكية للشعب الكلي والشعب الحقيقي تجعل من الملك في الواقع صاحب التمثيلية الأولى، هذه التمثيلية الأولى تستند كذلك على وجود دستور حديث مصادق عليه في سنة 2011، وبالتالي فهو ليس دستور قديم صادق عليه الأموات ويلزم الأحياء -مثال بعض الدساتير الدولية التي وضعت في القرن الماضي-، بل دستور صادق عليه الأحياء ويلزم الأحياء، وهو كذلك دستور شارك في الاستفتاء عليه أكثر من ثلاثة وسبعين في المائة من المسجلين في اللوائح الانتخابية، أما نسبة المصوتين بنعم فتجاوزت نسبة ثمانية وتسعين في المائة من المشاركين في التصويت .
خطاب العرش السنوي هو تأكيد سنوي على تجديد التعاقد على الأهداف ما بين الملكية والشعب الكلي والحقيقي، بينما المؤسسات السياسية المنتخبة تجدد تعاقدها كل خمس سنوات ومع جزء قليل من الشعب الكلي والشعب الحقيقي وهو الشعب الانتخابي والشعب القانوني.
مسؤولية التمثيلية الأولى ومسؤولية تمثيلية الشعب الكلي والشعب الحقيقي تضع على عاتق الملك مسؤوليات جسيمة من أجل البقاء في ارتباط دائم بقضايا الشعب الأساسية وتجعل المؤسسة الملكية تعمل على تحديث وتحيين أجندتها بشكل سنوي، وتضع على عاتقها مسؤوليات جسيمة بربط الأقوال بالأفعال.
2ـ الخطاب الملكي وثنائية القول والفعل
تعتمد السياسة في الغالب على الأقوال، ولكن السياسة اليوم في الحاجة إلى الأقوال والأفعال، وقلة من السياسيين اليوم يستطيعون ربط القول بالفعل، والضربات القوية والمؤلمة التي تلقاها العمل السياسي كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بابتعاد الأقوال عن الأفعال لدى الطبقة السياسية.
المؤسسة الملكية في المغرب، وبعد دستور 2011 والذي رسخ الملكية التنفيذية، تستثمر كثيرا في ربط الأقوال بالأفعال؛ أولا لأن الدستور خول لها سلطة وضع الأهداف الإستراتيجية للدولة.
وفي علم التدبير، لا يمكن تخويل سلطة وضع الأهداف الإستراتيجية للدولة دون تخويل السلطة المكلفة بوضع هذه الإستراتيجية بالسلطة الأولى المتصرفة في الأموال العمومية.
فإذا كان رئيس الحكومة والوزراء باعتبارهم مسؤولين عن وضع السياسات الوسطية والتنفيذية يتمتعون من أجل القيام بذلك بسلطة الآمر بالصرف -المادة الرابعة والستون من المرسوم الملكي المتعلق بالمحاسبة العمومية-وبالتالي فإن الملكية في عهد محمد السادس فعلت بشكل إيجابي سلطتها المرتبطة بوضع الإستراتيجية العامة وسلطتها المرتبطة بالالتزام المادي بتنفيذ هذه المشاريع.
ثنائية وضع الأهداف وتحديد الوسائل تترسخ على مستوى المشاريع من خلال ثنائية-المشروع التمويل، وامتلاك ثنائية المشروع والتمويل، تجعل من الأجندات والمشاريع الملكية حقائق على الأرض في المستقبل.. وفي هذا السياق، يلاحظ المتتبعون أن جل إن لم نقل كل المشاريع الملكية في العهد الجديد وجدت طريقها نحو التنفيذ.
الملكية اليوم وفي ظل دستور 2011، صارت تمتلك سلطة الآمر بالصرف الرئيسي والأول.. وبالتالي، فإن المشاريع التي يقترحها ويدشنها الملك ويشرف على توقيعها الملك هي مشاريع من المفروض الالتزام بها أولا، ونعني بالالتزام هنا الالتزام بمفهوم المحاسبة العمومية، سواء في شقه القانوني أو شقه المحاسباتي.. وهكذا ربطت المشاريع الملكية بكلفتها المالية وبتحديد الجهات العمومية المسؤولة عن التمويل -خصوصا بعد ما ترتب عن عدم تنفيذ المشروع الملكي منارة المتوسط والمحاسبات الذي أعقبته.
امتلاك المؤسسة الملكية لسلطة تحديد الأهداف الإستراتيجية وسلطة توفير الاعتمادات لتنفيذ هذه الأهداف الإستراتيجية بل والسهر كذلك على متابعة هذه الأهداف الإستراتيجية منح المؤسسة الملكية قوة دفع كبيرة أمام الشعب، باعتبار أن ما تلتزم به المؤسسة الملكية يجد طريقه نحو التنفيذ.
ربط القول بالفعل عند المؤسسة الملكية جعل الشعب الكلي والحقيقي يعطي أهمية كبيرة للقول وبالتالي للخطابات الملكية، وصار زمن إلقاء الخطابات الملكية زمنا مفصليا ومهما في الزمن السياسي المغربي.
3ـ الخطاب الملكي وإحداث الوكالة الوطنية للتدبير الإستراتيجي لمساهمات الدولة
تدبير المؤسسات العمومية يبقى هو المشكل المستمر منذ منتصف السبعينات، أي منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني. تعامل الملك الراحل الحسن الثاني مع أزمة المؤسسات العمومية اعتمد على إنشاء وزارة منتدبة مكلفة بإصلاح المؤسسات العمومية والتي توجت عملها بإصدار التقرير الشهير المعنون بتقرير الجواهري، والحل المقترح آنذاك كان يتمثل في تصحيح الاختلالات ومن ثم الخوصصة.
دستور 2011 والقانون التنظيمي للتعيين عملا على تقسيم هذه المؤسسات ما بين مؤسسات إستراتيجية ومؤسسات غير إستراتيجية، المؤسسات الإستراتيجية يملك الملك سلطة تعيين مديريها، أما المؤسسات غير الإستراتيجية فسلطة التعيين يمتلكها رئيس الحكومة.. هذه المقاربة القانونية المحضة حملت في طياتها غيابا للتنسيق وغياب توحيد طرق الحكامة لهذه المؤسسات.. وبالتالي، عجزت مديرية المؤسسات العمومية داخل وزارة المالية عن ابتكار طرق قادرة على تحسين حكامة هذه المؤسسات.
وفي هذا السياق، كان الكل ينتظر تدخل المؤسسة الملكية لإعادة الأمور إلى نصابها، البحث عن نموذج تنموي وجائحة كورونا عجلا باقتراح الحلول، وهكذا سيؤكد الملك في خطاب العرش على التالي-... كما يجب الإسراع بإطلاق إصلاح عميق للقطاع العام، ومعالجة الاختلالات الهيكلية للمؤسسات والمقولات العمومية، قصد تحقيق أكبر قدر من التكامل والانسجام في مهامها، والرفع من فعاليتها الاقتصادية والاجتماعية-.
هذه الحلول كانت تستهدف تعزيز دور المؤسسة الملكية في القيادة الإستراتيجية للبلد من خلال إعادة دورها في تنسيق الحكامة ما بين المؤسسات الإستراتيجية والمؤسسات غير الإستراتيجية، خصوصا أن الحل لم يعتمد كما في عهد الملك الراحل الحسن الثاني على تشكيل وزارة منتدبة لدى الوزير الأول مكلفة بإصلاح المؤسسات العمومية؛ بل اعتمد على تشكيل هيئة للحكامة بعيدا عن السلطة الحكومة، إنشاء هيئة للحكامة من المفروض أن يضع حدا للارتجال ويعجل بتحسين الحكامة الإستراتيجية لهذه المؤسسات.
كما أن إحداث الوكالة الوطنية للتدبير الإستراتيجي لمساهمات الدولة هو اقتراح يفتح الباب على مصراعيه من أجل مردودية أحسن لهذه المساهمات وعلى حقيبة من الحلول لمستقبل هذه المساهمات ما بين تحسين المردودية أو إعادة الهيكلة أو الخوصصة، خصوصا أن الأجندة الملكية المعلن عنها في خطاب العرش تحتاج إلى موارد كبيرة تتطلب إبداعا وبحثا وابتكارا لحلول التمويل، باعتبارها الوحيدة القادرة على الموازنة بين القول والفعل.
4ـ الخطاب الملكي وتفعيل السجل الاجتماعي الموحد
جائحة كورونا والجفاف والتوقف شبه التام للنشاط الاقتصادي كان له وقع كبير على الفئات الهشة والمستضعفة، وبالتالي كانت هذه الفئات تتطلع إلى الجديد الذي سيحمله الخطاب الملكي.
وإذا كان الفصل الثاني والخمسون من الدستور، كما سبق أن أكدنا على ذلك، ينص على أن الملك يوجه خطابا إلى الأمة، فإن الخطاب الملكي لم يكن ليغفل الفئات الهشة والمستضعفة من الأمة من الإجراءات التي ستستفيد منها هذه الفئات الشعبية.
المؤسسة الملكية كانت تعي بأن الإجراءات الظرفية التي حملتها تدابير مواجهة جائحة "كوفيد 19" والدعم المخول من صندوق مواجهة الجائحة غير كاف لضمان دعم مستمر في الزمن.
مجال السياسات العمومية يعطي أهمية كبيرة لمرحلة الوضع على الأجندة، ومرحلة الوضع على الأجندة لا يمكن أن تعتمد على العشوائية والحظ بل من المفروض أن تكون هناك دراسات قبلية للاحتياجات والفئات المتضررة والأولويات المطلوبة.
المؤسسة الملكية كانت تعي هذه الحقائق، وبالتالي فإن تجارب المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتحديث إطار اشتغال الولاة والعمال والباشوات والقياد والشيوخ والمقدمين كان انخراطا فعليا للمؤسسة الملكية في الفعل الدائم المرتبط بتحسين وتحيين المقروئية.
إن تأكيد المؤسسة الملكية في خطاب العرش على تفعيل السجل الاجتماعي لا يمكن ربطه فقط بتركيز الدعم على من يستحقه، بل يجب ربطه كذلك بتحديث آليات اشتغال المؤسسة الملكية والتي لا يمكن أن تتم، دون تعزيز ما يطلق عليه بالمقروئية.
وفي هذا السياق، وجب التأكيد على أن المقروئية يتم ربطها في التجارب الدولية، بموجة ترسيخ الحداثة على المستوى العالمي؛ فالعصر الحاضر يتميز بحداثة تعتمد على ثنائية -الحكومة المفتوحة والمجتمع المقروء.
هذه الثنائية هي التي تمكن من ترسيخ المواطنة الفعلية، كما أن هذه الثنائية تستهدف تفعيل المعرفة من أجل تقليص المسافة ما بين الحاكمين والمحكومين. وإذا كانت الحكومة ما زالت بعيدة عن ترسيخ الحكومة المفتوحة من خلال تعزيز المقروئية الخاصة بفعلها العمومي وأنشطتها وكيفية بناء واتخاذ قراراتها.
إن المؤسسة الملكية ومن خلال التركيز في خطاب العرش على السجل الاجتماعي الموحد كانت تؤكد على أولوية هدف مقروئية المجتمع واهميته، كما لو أنها تملك يقينا أن مقروئية المجتمع قد يكون الجسر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام دفع الحكومة إلى فتح الطريق أمام ترسيخ هدف الحكومة المفتوحة.
السجل الاجتماعي الموحد، والذي يستهدف تسجيل الأسر قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي التي تشرف عليها الإدارات العمومية والجماعات الترابية والهيئات العمومية، هو سجل من المفروض أن يستهدف الشعب الكلي والشعب الحقيقي، بدل الدعم الذي تفضله الطبقة السياسية الانتخابية والذي يبقى رهين الولاء السياسي والزبائن السياسيين.
المجتمع المقروء سيمكن المؤسسة الملكية من تحديد الأولويات ومن القدرة على التحرك من خلال استهداف من يستحقون الدعم العمومي وسيمكنها كذلك من القدرة على تمثيلية الشعب الكلي من خلال معرفة وقراءة الخرائط الشخصية الخاصة بكل مواطن على حدة.
5 ـ المؤسسة الملكية وممارسة الحكم من خلال سلطة الهيبة، عبر إحداث صندوق خاص لمواجهة التداعيات الصحية والاقتصادية والاجتماعية للوباء
في كتابه "المجتمع ضد الدولة" فتح الباحث بيير كلاست الطريق أمام تجاوز الفكرة السائدة والمعتمدة على أن كل مجتمع يتميز بوجود سلطة قهرية عقابية، وأن كل مجتمع يتميز بوجود نوع من التراتبية والتبعية، من خلال ثنائية -القيادة والطاعة- وبالتالي وجود نوع من السياسة لا تعتمد إلا على القوة والعقاب والقيادة، من خلال الحديث عن نوع جديد من ممارسة السلطة لا يعتمد على العنف والقوة والإكراه.
وقد أطلق على هذا النوع من ممارسة السياسة -السياسة بدون سلطة-ممارسة السياسة بدون السلطة هي القدرة على حل المشاكل واستيعابها من خلال مفهوم الهيبة التي يتمتع بها الزعيم الذي يمارس الحكم من دون سلطة.
سلطة الهيبة هي القدرة على إقناع المواطنين والمجتمع ككل دون الحاجة إلى اللجوء إلى العنف والإكراه، ممارسة هذا النوع من السلطة دون إكراه ودون عنف غير متوفرة لكل الزعماء ولا يمكن ممارستها إلا من طرف الزعماء الذين يحظون بما يطلق علية -سلطة التموقع داخل المجتمع- وسلطة الوضعية الاعتبارية الرمزية- وسلطة الهيبة.
إبان أزمة "كوفيد 19" استعملت المؤسسة الملكية بذكاء موقعها الرمزي داخل المجتمع للإعلان عن مجموعة من الإجراءات دون تحميل هذه الإجراءات في قوالب القانون والإكراه- حرية تقديم المساهمات-حيث سيؤكد الملك في خطاب العرش على أن -...ما أثلج صدرنا أن هذه المبادرة لقيت حماسا تلقائيا، وتضامنا متواصلا-.
مما يؤكد أن المؤسسة الملكية كانت تبتكر طريق سلطة الرمزية في تنفيذ الإجراءات، خصوصا في مرحلة الأزمات، من خلال استعمال سلطة الرمزية، كانت المؤسسة الملكية تؤكد أن فكرة سيادة القانون وحتى فكرة المصلحة العامة التي نظر لها أرسطو، باعتبارها معطى محددا للحكامة الجيدة، تحمل في طياتها كذلك حقائق مستترة لممارسة العنف من خلال القانون.
وبالتالي، فإن المؤسسة الملكية كانت تدرك أن ثنائية الطوعية إلى جانب ثنائية القوة هما محددان أساسيان للحكامة الجيدة في العصر الحاضر، وبأنه من المستحب في مرحلة الأزمات العمل على ترجيح كفة الطوعية على كفة القوة، وبالتالي كانت المؤسسة الملكية ترجح كفة المقاربة الطوعية على كفة المقاربة القانونية.
وهكذا عملت المؤسسة الملكية على ترجيح طريق ممارسة الحكم دون الحاجة إلى استعمال وسائل العنف المادي الشرعي، وهو ما يطلق عليه ممارسة الحكم دون يد مسلحة ولا شرطة ولا إكراه قانوني، وبالتالي هي ممارسة جديدة تقطع مع الماضي الأليم-وتعمل على تحديث دولة الحق والقانون.
بينما عجزت مؤسسة رئيس الحكومة والحكومة عن ممارسة السلطة دون إكراه ودون استعمال القوة-قرار الاقتطاع من أجرة الموظفين-بل وغابت عن الإجراءات الحكومية في مرحلة الأزمة، الإجراءات التي تستمد مفعولها من رمزية رئيس الحكومة والحزب الأغلبي والأغلبية البرلمانية مما يثبت أنها لا تستند إلا على انتخابات بالنمط النسبي لجزء متواضع من الشعب الحقيقي والكلي.
لجوء المؤسسة الملكية إلى خيار ممارسة الحكم دون الحاجة إلى وسائل الإكراه كان ابتكارا جديدا في ممارسة الحكم، ابتكارا أظهر أن الملكية تتوفر على سلة من الخيارات جزء منها تم استعماله وتجربته والجزء الآخر لا يزال ينتظر الظروف المناسبة لاستعماله.
6ـ المؤسسة الملكية وملف المحروقات، وثنائية الدخول المفتوح والدخول المحدود إلى السوق
أظهرت التجارب الدولية أن تحالف مقاولات الريع كان أكثر تنظيما وفعالية من الناخب المتوسط. كما أن هذا التحالف كان في بعض الأحيان قادرا على تغيير النظام الاجتماعي من نظام الدخول المفتوح حيث تسود المنافسة إلى نظام للدخول المحدود حيث يسهل الاتفاق المبطن والضمني، وهذا ما أكده الاقتصادي أولفيي بومسيل في كتابه المهم -الاقتصاد السياسي الجديد باعتباره إيديولوجية القرن الحادي والعشرين.
منظرو الفعل الجماعي والخيارات العمومية يؤكدون على انحرافات ما أطلقوا عليهم تسمية صيادي الريع، وأكدوا أن صيادي الريع هم أكثر تسليحا من المواطنين العاديين من أجل الحصول على المزايا.
هكذا، وإذا ما مكنت إجراءات معينة صيادي الريع من الاستفادة من ريع معين، يعمد هؤلاء فورا إلى الانتظام في اللوبيات من أجل الدفاع عن الريع وعن المزايا، قطاع المحروقات في المغرب هو قطاع يمثل نموذجا حيا لما يطلق عليه بصيادي الريع -ورغم المقاطعة الشعبية في مواجهة صيادي الريع، فإن المؤسسة الملكية كانت تنتظر تدخل مؤسسات التمثيلية ومؤسسات الحكامة لإيجاد الحلول أو اقتراح الحلول.
تقرير مجلس المنافسة، الذي أكد على وجود اتفاق ما بين شركات توزيع المحروقات، لم يكن ليمر بالسهولة الذي يتوقعها المواطن العادي؛ بل إن لوبي المحروقات كان من المتوقع أن ينسف التقرير من داخل الهيئة، خصوصا أن هذا النوع من الهيئات يستمد قوته كما ينص على ذلك القانون الخاص بهيئة المنافسة، وكما يقول الباحث بيير روزنفلون من قراراته ذات الصبغة الجماعية.
صيادو الريع بقطاع المحروقات من خلال المذكرة المضادة كانوا يستهدفون الحفاظ على وضعية الستاتيكو، وكانوا يتوقعون أن المذكرة المضادة ستعيد الأمور إلى وضعها المعتاد؛ ولكن بلاغ الديوان الملكي كان بلاغا يثبت أن الملف لن يجمد وإن هناك لجنة متخصصة ستتكفل بإجراء التحقيقات الضرورية لتوضيح الوضعية وترفع إلى النظر السامي تقريرا مفصلا عن الموضوع في أقرب أجل.
طبيعة تشكيل اللجنة المتخصصة-رئيسا مجلس البرلمان، رئيس المحكمة الدستورية، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، والي بنك المغرب، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ويقوم بتنسيق عمل هذه اللجنة الأمين العام للحكومةـ تثبت أن تحالف صيادي الريع يوجدون الآن أمام حتمية القرار المقبل وإن هذا القرار في كل الأحوال هو قرار ليس في صالح لوبي وصيادي الريع، وأن زمن غياب المحاسبة يتبعه حتما زمنا للمحاسبة وإن تأخر.
كما أن رسالة الديوان الملكي هي رسالة لصيادي الريع في قطاعات أخرى، إن زمن الحساب قادم وإن هناك حلين لا ثالث لهما، طريق الحل الطوعي وطريق الحل القانوني، طريق الحل الطوعي يتمثل في انخراط صيادي الريع في المجهودات المبذولة من طرف الدولة من أجل مواجهة تبعات جائحة كورونا، -خصوصا أن خطاب العرش أثبت أن الملكية في زمن الأزمة هي في حاجة إلى ممارسة إعادة توزيع جديد للمزايا ما بين من استفادوا من الريع سابقا لصالح السياسات العمومية الجديدة- وإلا فإن القرار القانوني الملزم قادم، وإن هذا القرار يطبخ من الآن على نار هادئة.
7.الخطاب الملكي والتعامل بحذر مع عصر التعقيد واللايقين
جائحة كورونا قدمت درسا قاسيا للسلطات السياسية في العالم أجمع، وتتمثل هذه الحقيقة في أن عصر اليقينيات قد انتهى وذهب إلى غير رجعة، المغرب ومن خلال المؤسسة الملكية كان يعي جيدا هذه الحقيقة المرة.
وفي هذا السياق، يؤكد الملك في خطابه-...لذا، أدعو لمواصلة التعبئة واليقظة والتضامن، والالتزام بالتدابير الصحية، ووضع مخطط لنكون مجندين ومستعدين لمواجهة أي موجة ثانية من هذا الوباء، لا قدر الله، ....-
مواجهة الموجة الثانية لا قدر الله، بانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية، تؤكد أننا نواجه وضعا يتميز باللايقين ووضعا غير ثابت.. الوضع غير الثابت يتطلب حلولا جديدة وأفكارا جديدة تتناسب وطبيعة هذه الأزمة.
أفكار وحلول مجربة دوليا، الأفكار والأبحاث الخاصة بالتعامل مع هذه الوضعية كانت توصي بنهج حل وطريق التعامل بحذر.
وهنا سيؤكد فرانسوا ايوالد، في مقال له بجريدة لوموند بتاريخ 11 مارس 2000، أن التعامل بحذر هو جزء من مسؤوليات الدولة، وحتى المجلات العلمية ستتبنى إستراتيجية الحذر.
وفي هذا السياق، ستعمد المجلة العلمية التي تحمل عنوان البحث في عددها رقم 325 الخاص بشهر نونبر1999 إلى نشر مقال تحت عنوان، الأخطاء البشرية ومبدأ الحذر.
إستراتيجية الحذر تتطلب ديناميكية تقريرية تعمل على تغيير التراتبية المعهودة بين زمن المعرفة الكاملة والنهائية للمشكل، وبعد ذلك المرور إلى زمن الحل واتخاذ القرار الخاص بمواجهة المشكلة، وتؤسس لعلاقة جديدة تتميز بذهاب واياب بين زمن الحقائق المتعلقة بالمشكلة وزمن اتخاذ القرار.
إستراتيجية الحذر تقطع مع القرار في زمن واحد والقرار الذي تتخذه سلطة واحدة وتفتح الطريق امام القرار المجزأ والمتجدد في الزمن والذي يتطلب تضافر مجهود مجموعة من الفاعلين وترسخ القرار القابل للتراجع والتجديد أخذا بعين الاعتبار الحقائق والمعطيات الجديدة-مشكل مجلس المنافسة.
خطاب العرش كان خطابا يتعامل مع الجزء المكشوف من آثار جائحة "كوفيد 19" على الحياة الوطنية ويعد الوسائل والإمكانات لمواجهة الجزء الذي ما زال مخفيا وغير معروف والمرتبط بنهاية الجائحة واكتشاف اللقاح الخاص بها، وبالتالي كان الخطاب واقعيا ومرتبطا بالحقائق على الأرض.
8ـ خطاب العرش وتدبير أزمة "كوفيد 19" وتعزيز دور الديمقراطية الرئاسية
أزمة "كوفيد 19" أثبتت أننا نواجه عالما معقدا وغير متوقع وغير ثابت.. وبالتالي ساهمت هذه الأزمة في تأكيد حقيقة أساسية تتمثل في حقيقة مفادها أنه إذا كان القرن العشرون هو قرن الديمقراطيات البرلمانية وقرن الديمقراطيات التمثيلية، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الديمقراطيات الرئاسية وقرن الديمقراطيات التنفيذية.
كما أن أزمة "كوفيد ـ 19" عززت من حضور المجال السياسي التنفيذي باعتباره مجال القرار السريع والفوري أكثر من المجال السياسي التمثيلي المتميز بحضور القاعدة العامة والمجردة والمستمرة والمحكومة بالمسطرة الثقيلة.
تعزيز حضور المجال السياسي التنفيذي حمل معه كذلك حضور الزعامات السياسية الكاريزمية-بوتين، ترامب، ماكرون، ميركل، كما أن تعزيز حضور المجال السياسي التنفيذي حمل معه الانتقال من عمومية القانون إلى شخصنة الزعامات.
في المغرب عززت أزمة "كوفيد 19" من حضور الدور الرئاسي للملكية التنفيذية. وهكذا، أتقنت المؤسسة الملكية لعب دور مهندس الدولة، من خلال التوقع القبلي وعقلنة التوقع (نظرية مهندس الدولة هي النظرية التي طور جزء منها كارل ماركس وتعتمد على أن المهندس وبخلاف النحلة يضع التصور القبلي في رأسه قبل المرور إلى التنفيذ- وبالتالي تطبيق إستراتيجية الحكم هو التوقع-، أما الجزء الثاني من نظرية المهندس فطورها جامس مارشال وهيبر سيمون ونالت جائزة نوبل للاقتصاد سنة1978، حول نظرية العقلانية المحدودة والتي تعتمد على أن المهندس يركز على العقلانية الحسابية ووضوح الأهداف من خلال التصرفات الذكية والحكامة العقلانية).
لم تتقن المؤسسة الملكية فقط لعب دور مهندس الدولة، بل أتقنت كذلك لعب دور بستاني الدولة، نظرية بستاني الدولة هي النظرية التي أطرها الاقتصادي الأمريكي ألفريد مارش وطورها الاقتصادي الفرنسي إيلي كوهن، بستاني الدولة هي المؤسسة التي تقوم بتطوير وتصحيح القصور الذي قد يشوب عمل باقي المؤسسات دون أن تعمد إلى الحل محلها-التعامل مع مشاكل مجلس المنافسة مثلا-.
القدرة على ممارسة دور بستاني الدولة هو الذي جعل المؤسسة الملكية، تواجه جائحة كورونا إلى جانب باقي المؤسسات ودون الحاجة إلى إعلان حالة الاستثناء كما طالبت بذلك بعض الأصوات.
الخلاصة:
المؤسسة الملكية اليوم تثبت لجميع الباحثين والمهتمين أنها مؤسسة تخرج من الماضي وتدخل إلى الحاضر والمستقبل، وأنها مؤسسة تلج القرن الحادي والعشرين من بوابة السياسات العمومية، ومن باب الأهداف والمؤشرات وأثر السياسات العمومية على الواقع المعيشي للمواطن.
وإن المؤسسة الملكية اليوم تعمل على تعزيز ثنائية التعاقد والأثر الإيجابي للسياسات العمومية التي تقودها على حياة المواطن، وإنها تشتغل من داخل المظلة الدستورية، وإن إشرافها على ما هو إستراتيجي هو متطابق مع الدستور ومع التجارب الدولية التي تعرف ترسيخا للديمقراطيات الرئاسية والتنفيذية.
خطاب العرش اليوم يستهدف تحديد وتحيين الأجندة الملكية.. وبالتالي فهو يحجز مكانته وأهميته في الزمن السياسي المغربي، وتحظى الأجندة المعلن عنها في هذه الخطابات باهتمام الشعب الكلي، خصوصا بعد أن عملت المؤسسة الملكية على الانتقال بأجندتها من أجندة مأمولة ومرغوبة إلى أجندة منفذة وواقعية وممكنة، وعملت بالتالي على ربط الأقوال بالأفعال.
وبالتالي، يتفوق زمن خطابات عيد العرش على زمن الوعود التي تطلقها الأحزاب السياسية في الزمن الانتخابي، كما تتفوق هذه الخطابات في فتح الأمل أمام الشعب الكلي والحقيقي، أكثر مما تفتحه اللحظات الانتخابية من نافذة الأمل على المستقبل بالنسبة للشعب الانتخابي.
*باحث في العلوم السياسية والقانون العام