تَوجُّسَات جوّانيّة في زَمَنٍ أرعن..

ثلاثاء, 08/04/2020 - 13:13

تقدّم بخُطىً وئيدة متثاقلة نحو حديقة عمومية صغيرة تقع على مرتفع يطلّ على البحر، أخذ مكانَه على أحد المقاعد الخشبيّة، أسند ظهرَه إلى جِذع شجرة عتيقة، أخذ يسرح بنظره في الشاطئ الجميل الواقع بين جبلين شاهقين، الذي يُطلق عليه أهلُ البلد ”الشاطئ المحروق”.. تحوّل نظرُه إلى الصّخرة الكبيرة التي تقع على الجانب الأيمن من الشاطئ، التي طالما ارتادها وهو صغير، ومن أعلاها كان يقفز إلى عرض البحر، كان يجيد السباحةَ كالدلافين.. تحوّل برأسه نحو الغابة الكثيفة التي تحيط بالسّاحل، تبدّت له موحشةً مقفرة، لم تعد كما كانت عليه أيّام الصِّبا مُخضرّةً مُورقةً نضرة.

لم يكن يهمّه من أمر هذه الدّنيا شيء، كانت آماله صغيرةً في حجم مدينته الصغيرة النائية عن بقية مدن البلاد، لم تكن هذه الآمالُ تتخطّىّ مرتفعاتِ الجبال، والآكام المحيطة بالمدينة من كلّ جانب. كانت الدّنيا بريئةً هادئة، لم يكن يُشغله من متاعبها شيء على الإطلاق.. لم يكن يَطيق المدرسة، كانت بالنسبة إليه سجناً رهيباً ينغّص عليه متعةَ الطفولة، وبهجةَ الحياة الطليقة، ويحرمه من الاستمتاع بأجمل أوقات العُمر البريء، كان لا يستطيب من هذه الدّنيا سوى اللّهو بشتىّ ألوانه.

-آه يا والدي العزيز كم بذلتَ من الجهد المُضني من أجلي، كم عَلَا سَوْطكَ، وارتفع صَوْتكَ وَنَزَلاَ عليَّ نزولَ الصّاعقة، ولكن بدون جدوى.

الوعيد والتهديد كانا لا يزيدانه إلّا التعنّت، والمزيد من الانغماس في ملذّات الحياة التي تتلاءم وعمرَه الصّغير. كان والده يتمنّى له أن يُصبح مهندساً أو طبيباً عندما يكبر، بل أحياناً كانت تشطّ به الأحلامُ بعيداً فكان يقول له: - في يوم من الأيّام ستُصبح ذا شأنٍ كبير يا ولدي..!

منذ بضع سنواتٍ وهو يعمل في وَرْش لميكانيك إصلاح السّيارات، إنه عملٌ شاقّ ومضنٍ، ولكنّ ظروفَ الحياة أرغمته على امتهان هذا العمل الذي قبله على مَضَض، وساعدته عضلاته القويّة على مزاولته، وكثيراً ما تساءل: - تُرى لو كنتُ واهنَ القوى، ماذا كنتُ سأصنع..؟

ظلّ يحدّق في صفحة البّحر الصّافية، التي كانت تبدو له كبحيرة هادئة بدأت تتلألأ بعد أن علتها حُمرة مُذهّبة لانعكاس لون الغروب عند الشّفق عليها، وبين انحناءات أخاديد الجبليْن العالييْن طفق هيدبٌ من ضبابٍ خفيفٍ مُسفٍّ يَتَدَلَّى ويتدنّى، وَبَدَا له وكأنّه يطفو على صفحة الماء.

خُيّل إليه أنّه قد تأخّر عن العودة إلى البيت، قام لتوّه، كان يرتدي لباسَ العمل، وقد علقتْ به مختلف أنواع الزّيوت، ومواد التشحيم من جرّاء احتكاكه بالأرض في كلّ حين تحت بطون السيارات المهترئة في ورشة عمله، كانت تفوح منه رائحة غريبة، اشمأزّ من نفسه فقرّر العودة إلى البيت، وضع يديْه في جيوب سُترته فتحسّس محفظتَه الصغيرة التي لم يكن بداخلها سوى بطاقة تعريفه الوطنية، ضغط عليها بأصابعه بشدّة، وتقدّم مُثقلَ الخُطىَ نحو مسكنه مطأطئَ الرأس، شاردَ الذهن، كئيباً حزيناً، مهزوماً، مخذولاً، هدّه المللُ والضّجرُ من الرّتابة وتكرار اليوم ما فعله بالأمس، وأوّل أمس، صار يرمي بعينيْه هنا، وهناك علّهما تقعان على شيء ثمينٍ بين نفايات الشّارع، ولكنّه لم يعثر أبداً على شيء ذي قيمة. رَمَقَ تجمّعاً غفيراً بالقرب من السّاحة الكبرى المُقابلة لملعب كرة القدم بالمدينة الذي يقع في الطريق إلى بيته، دفع به الفضولُ ليعرفَ ماذا كان يَجري هناك، فإذا بالناس قد تجمّعوا وتجمهروا للتفرّج على عرْضٍ سينمائيٍّ كان يُقدَّم بالمجّان في الهواء الطلق تقيمه بعضُ القوافل السّينمائية المتنقلة بين الوقت والآخر في المدن، والقرى، والمداشر النائيّة.

اندسّ بين الجموع وقد شعر ببعض السّعادة تغمره منذ أن ترك تلك الورشة اللعينة التي لا ينقطع فيها الضّجيج، والصّخب، واللّجب، والضوضاء من أوّل النهار إلى أوّل الليل.. تركّزت عيناه على الشّاشة الكبيرة الموثوقة إلى عموديْن كبيريْن يتوسّطان السّاحة، وصار يتتبّع ما كان يجري عليها من أحداث، كان فقط يتتبّع الصّور، ولم يكن يفهم شيئاً من الحوار الدائر لكثرة الزّحام، وكأنّ المدينة كلّها قد تجمّعت هناك. صاح فيه بعضُ الواقفين وراءه من المتفرّجين: - ابتعدْ قليلاً لقد حجبتَ عنّا الرّؤية.. التفت نحو الجهة التي جاء منها الصّوت، فإذا به شاب هزيل الجسم، نحيف البِنية، غائر العينيْن يرتدى معطفاً رثّاً، وطاقيةً بالية يُخفي بها مرضاً برأسه، لم يجبه، بل رضخ لأمره وغَيّرَ مكانَه.

اندسّ ثانيةً بين جموع أخرى حاشدة من البشر، ولكنه ما أن استقرّ بمكانه الجديد حتى انتهى إليه صوتٌ آخر يصيح من ورائه: - ألم تجد مكاناً غيرَ هذا..؟ نحن هنا منذ الظهيرة.. ! التفت نحو صاحب الصّوت، فإذا به في حالة ليست أحسنَ من حالته، فلم يعره اهتماماً هو الآخر، وغيّر مكانَه للمرّة الثانية في هدوء بعد أن شقّ طريقَه وسط الجموع باحثاً عن مكانٍ آخر، وما أن رفع رأسَه من جديد ليتتبّع الفيلم حتى انتهى إلى سَمْعِه صوتٌ ثالث، وبنبرة غاضبة هذه المرّة، صاح فيه: - ابتعدْ من هنا أيّها القذر. التفت خلفه فإذا برجلٍ في الأربعين من عمره بدين، ذي عينيْن جاحظتيْن، ووجنتيْن مُحمرّتيْن، رمقه بنظرة فاحصة، ثمّ أدار رأسه نحو الشّاشة من جديد، ولم يأبه بكلامه إليه بل ظلّ واقفاً بثبات في مكانه، وما هي إلاّ لحظة حتى شعر برفسةٍ قويّة على ظهره كادت تفقده صوابَه، غَلِيَ الدمُ على إثرها في رأسه، لم يتمالك نفسَه، ولمْ يَدْرِ كيف استدارَ وَهَوَى على أمّ رأس الرّجل بضربةٍ قويّة أردته طريحاً على الأرض في الحين، التفت إليه الواقفون، ونهض الجالسون، واختلطت الأصوات، ظلّ ينظر مشدوهاً برهةً إلى الرّجل السّمين الذي لم يعد يتحرّك، انقضّ عليه بعضُ مرافقيه، وهمّوا بالإمساك به، ولكنّه صدّهم وهَرْوَلَ صوبَ أشجار الصّنوبر في الغابة الكثيفة المنتشرِة خلف الملعب التي كان يغلفها ظلام دامس، لم يتفطّن حتى وجد نفسَه قد بَعُد عن مكان الحادث، التفت حوله علّه يرى أحداً فلم يتعقّبه أحد.

كان الليل قد أرخى سدوله على الغابة المحيطة به من كلّ جانب، كان يلهث لهاثاً متواصلاً من فرط السّرعة والركض اللذيْن قطع بهما هذه المسافة، لَمْ يَدْرِ كيف فعل ذلك، أسند ظهرَه إلى جذعِ شجرة، وفى حِلكة الليل المدلهمّ صار يتأمّل مصيرَه، محاولاً استرجاعَ شريط ما جرى له وقد غشيه قلق مفرط: تُرى من يكون الرّجل..؟ هل هو من رجال الأمن أو من أعيان السّلطة..؟ أم هو من رجال المخابرات السرّييّن المندسّين خفيةً بين الجموع لدرء القلاقل والفتن، وإخماد أيّ تحرّكاتٍ مشبوهة بعد المظاهرات الصّاخبة التي عرفتها المدينة مؤخّراً.. لابدّ أنه يعرفه.. بل حتماً عرفه بعضُ الحاضرين، إذن ما العمل..؟ لماذا لم يتحرّك الرّجل..؟ هل أرداه قتيلاً أم أُغْمِي عليه فقط..؟ أمَا كان له أن يتروّىَ قليلاً؟ كيف خانته أعصابُه..؟ سرح بفكره بعيداً، وازدادت حِلكة الليل، وصار يتخيّل الأمورَ وإلامَ قد تؤولُ إليه عواقبُها، شعر بتعبٍ شديد فقرّر العودةَ إلى مسكنه الذي لم يكن بعيداً عنه وهو يقول في قرارة نفسه في إصرار: - فليكنْ ما يكون في علم الله.

دلفَ إلى البيت، كان أبواه وأخواتُه يَغطّون في نومٍ عميق، خلع عنه خُفّيْه، سَرَى على بَنَانِ رجليْه في هدوء، استلقىَ على مرتبةٍ بالية من غير أن يخلع عنه ثيابَ العمل، ظلّ يحدّق في الظلام الدامس الذي يملأ الغرفة من كلّ جانب، ومنظر الرّجل البدين المُسجىَ على الأرض لا يحيد من أمام عينيْه، انتابته قهقهات عالية بدون إرادة منه، ردّت جدرانُ الغرفة أصداءها، ثمّ أسلمَ نفسَه لسُلطان النّوم.

* كاتب من المغرب، عضو الأكاديميّة الإسبانيّة- الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا - كولومبيا.

الفيديو

تابعونا على الفيس